الأستاذ زكريا الغول*
مع استمرار الأزمة المصرفية وشحّ الودائع والتحويلات إلى داخل لبنان، والتقنين الحاصل في السحوبات الأسبوعية من الودائع وتحوّل جزء منها إلى المنازل أو إلى الخارج، يستعيد اللبنانيون زمن الازدهار الاقتصادي الذي عرفته بيروت، يوم كانت «نقطة الثقل في الاقتصاد العربي، حيث انهالت الودائع الخليجية على المصارف اللبنانية»، كما في هذا المقال للمحامي زكريا الغول.
استفادت مدينة بيروت من إعلانها مركز ولاية بيروت، وذلك عبر اعتراف السلطات العثمانية بدورها التجاري الهام، فقامت المشاريع لتحسينها وتطويرها، بدءاً من تأسيس المصارف الأجنبية والمحلية، إلى إنشاء الشركة العثمانية لمرفأ بيروت، وتنوير المدينة بالغاز. فضلاً عن افتتاح سكة حديد بيروت – دمشق، وتسيير التراموي الكهربائي داخل المدينة، بعد توسيع ورصف الطرقات، واستخدام البرق والهاتف، وإنشاء مدرسة وحديقة الصنائع.
وكان مشروع توسيع مرفأ بيروت، الذي أنجز في العام 1893، وفي الوقت نفسه، إنشاء سكة الحديد بين بيروت ودمشق، سبباً في أن مدينة بيروت لم تعد مجرد مرفأ، بل أصبحت أيضاً «عاصمة اقتصادية لجبل لبنان من خارجه وبوابة سورية، فنقل مركز المتصرفية من بيت الدين إلى بعبدا ليكون أقرب إلى العاصمة الجديدة، كما أن النزاعات التجارية في جبل لبنان يجري البتّ فيها في محكمة بيروت التجارية، كما أن العديد من القناصل والمستثمرين الأجانب والمرسلين اختاروا بيروت مركزاً إقليمياً لهم، ورفعوا مستوى تمثيلهم في المدينة، وأخذت تتجاوز وظيفتها المرفئية تحديداً والتجارية كذلك؛ إذ دفع نمو تجارتها إلى ظهور قطاع جديد وهو قطاع الخدمات الذي ما ان سجل انطلاقه حتى بدأت المصارف الأوروبية تفتح فروعاً في بيروت، وأُنشأت في ساحة العاصمة مكاتب للنقل والتأمين والخدمات».
وقد رافق ازدهار الحركة التجارية عبر مرفأ بيروت، تأسيس مصارف أجنبية لتسهيل استيراد البضائع وتسليف التجار ودعم المشاريع العمرانية التي تقوم بها الشركات الأجنبية، فقد نشأت إلى جانبها أيضاً مصارف محلية صغيرة إضافة إلى استمرار فرع البنك العثماني.
وبذلك، لم يقتصر التنافس الأوروبي على الإرساليات التبشيرية، بل تعداها إلى التجارة والمال، لتقف الرساميل الأجنبية وراء قيام مصارف خاصة بها في بيروت.
وهكذا، فقد تأسس كل من المصارف التالية:
1- فرع بنك كريدي – ليونيه:
تأسس فرع لبنك كريدي – ليونيه في العام 1875م، بهدف ربط إنتاج الحرير في بيروت وجبل لبنان بمصانع الحرير في مدينة ليون الفرنسية. ثم تطور هذا الفرع فأخذ يدعم المشاريع العمرانية والإنمائية في بيروت.
وكذلك اتخذ البنك الفرنسي الاحتياطي، المؤسس في باريس عام 1886م، فرعاً له في بيروت، وتعاطى بيع جميع السهم المالية بالتقسيط بإذن الحكومة الفرنسية.
2- فرع بنك دوتشي بالستين «الألماني – الفلسطيني»:
كذلك أنشأ الألمان بنك دوتشي بالستين «الألماني – الفلسطيني» في فلسطين، ثم أنشأوا فرعاً له في بيروت، فضلاً عن خمسة فروع في كل من دمشق وطرابلس والقدس وحيفا. ولكنه لم يتمكن من مزاحمة البنك السلطاني العثماني أو بنك كريدي – ليونيه. وفي العام 1917م، افتتح فرعين أحدهما في حلب والآخر في إسكندرون.
3- فرع البنك الإنكليزي – الفلسطيني:
عمد اليهود من جنسيات مختلفة للتستر وراء إنكلترا في تأسيس البنك الإنكليزي – الفلسطيني في لندن عام 1902م، وبفروعه الأربعة: حيفا، يافا، القدس، ثم فرع بيروت الذي افتتح سنة 1903م، دون أن يحظى بثقة البيروتيين الذين أدركوا علاقة هذا البنك بقيام المستعمرات الإسرائيلية، وكان بنك سالونيك قد تأسس عام 1888م على يد جماعة من اليهود أيضاً، وافتتح فرعاً في بيروت.
هـ – المصارف المحلية:
أما بخصوص المصارف المحلية، فهي كانت عبارة عن مؤسسات مالية تلعب دور الوسيط «قومسيونجي» في استيراد البضائع الأوروبية، وقد حملت أسماء مؤسسيها بعد أن نالوا ترخيصاً من الدولة العثمانية، التي أخذت تمنح امتيازات لتأسيس مصارف محلية في بيروت، بهدف تقديم القروض المالية للتجار بفائدة منخفضة.
إن الموقع المميز لمدينة بيروت كمركز رئيسي، للتصدير والتخزين واستيراد البضائع الأوروبية، فرض إنشاء العديد من المؤسسات المصرفية الخاصة، وأبرز تلك المؤسسات التي قامت بفتح بعض المصارف المحلية الخاصة بها: إبراهيم كركي، بشارة أرقش وشركاه، بشارة الخوري، جبور طبيب وشركاه، جرجس تويني وأولاده، رزق الله شقال، سرسق أبناء عم، نصر الله خياط، يوسف حزان وشركاه، ويوسف صوراتي، إبراهيم روفائيل حكيم وشركاه، أنطوان ونقولا جرجس طراد، باسيل الريس، بستاني إخوان، جرجي طراد وشركاه، جول جراري وشركاه، حبيب صباغ وأولاده، داغر بطرس وشركاهم، سليم جبيلي وأولاده، سليم اليازجي، سليم بنيامين خياط وشركاه، فارحي وطراب، قمر شحادة، لويس زلعوم وأولاده، مرك ودلك، وموسى طوطح وشركاه.
ويعتبر بنك فرعون – شيحا من أقدم المصارف المحلية، ويعود تأسيسه إلى العام 1876م على يد فيليب فرعون، وهو من عائلة أصلها من دمشق، تنتمي إلى طائفة الروم، ثم نزحت إلى بيروت مع مطلع القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، وتعتبر من أولى العائلات التي عملت في الصيرفة في بيروت، وقد أسس هذا المصرف مع ميشال وألبير وجوزف فرعون، وأنطوان شيحا الذي تزوج من ابنته. لذلك عرف هذا المصرف ببنك فرعون وشيحا، واتخذ مكاناً له في ساحة النجمة ببيروت. وبعد وفاة فيليب فرعون عام 1918م، عاد ابنه هنري فرعون (1898-1993م) من أوروبا حيث كان يتابع دراسته لنيل الدكتوراه في الحقوق، ليتسلم رئاسة مجلس إدارة البنك ويتولى إدارته العامة طوال اثنتين وخمسين سنة.
وفي العام 1902م، منحت الدولة العثمانية امتياز تأسيس بنك في بيروت لموسى فريج، الذي كان يقدم القروض المالية للتجار بفائدة تسعة بالمئة.
كانت المصارف المحلية، مرتبطة بالمصارف الأجنبية التي تتحكم بها، وتعتبر بداية نشوء النظام الرأسمالي في بيروت، على الطريقة الأوروبية، مما سمح بتغلغل الدول الأجنبية في بيروت والمشرق العربي عن طريق التجارة والمال بعد الغزو الثقافي التبشيري.
لذلك يمكن القول، أن الازدهار العمراني والإنمائي والمالي والثقافي الذي شهدته بيروت خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي متمثلاً بالمشاريع الإقتصادية والمؤسسات التربوية والمالية، ما هو إلا غلاف خارجي براق يخفي داخله، ربط بيروت وسائر مدن المشرق العربي بالسياسة الإستعمارية الأوروبية. وهذا ما تحقق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918م.
كانت مدينة بيروت اولى المدن العربية التي تم إفتتاح فروع المصارف الأجنبية فيها إضافة لإنشاء مصارف محلية، وقد كان لموقعها الجغرافي المميز، وتنوعها الثقافي دور في تعزيز دورها المالي، وبرز دورها المالي والاقتصادي بعد إعلان ولادة دولة لبنان الكبير ومن ثم الجمهورية اللبنانية، حيث شكلت بداية من خمسينيات وستينيات القرن الماضي العصر الذهبي للإقتصاد اللبناني وكانت بيروت نقطة الثقل في هذا الاقتصاد، حيث انهالت الودائع الخليجية على المصارف اللبنانية بعد إزدهار قطاع البترول في دول الخليج العربي، كما أن نكبة العام 1948 لعبت دوراً هاماً في إنتقال الرساميل الفلسطينية الى بيروت. ورغم كل الصعاب والأزمات، تبقى بيروت سيدة بين العواصم.
_____
*محامٍ ومحلل سياسي. ماجستير في التاريخ/ جمعية تراثنا بيروت