بيروت الساحرة، كما رآها البارون ايزيدور تايلور

Isidore Justin Séverin Taylor

أعد المادة وترجمها: نبيل شحاده*

“ايزيدور جاستن سفرين تايلور” هو رحالة ومؤلف متعدد الفنون والخبرات. فرنسي من أصل إنكليزي, ولد في بروكسل في عام 1789,وكان له دور كبير في تطوير المسرح الفرنسي, وتأسيس جمعيات للممثلين و الموسيقيين والمعماريين والنحاتين والرسامين, وتوفي في عام 1879.

سافر الى بلاد كثيرة, وزار الشرق حاجا الى الأراضي المقدسة في فلسطين, وأصدر في عام 1839 كتابه “سوريا , فلسطين, والأرض المقدسة” وكتب عن بيروت بشكل رائع, ووصفها بأجمل النعوت, فبدا وكأنه ينقش في صفحات خيالنا صورا  غنيّة ومشوقة عن مدينة تنهض وتظهر من عالم السحر والألوان.

وصف موقع بيروت

يقول تايلور :”تحتل بيروت تلة خضراء ورشيقة تنحدر الى البحر ، ويحيط بها من اليمين واليسار تلال صخرية صغيرة تقوم عليها التحصينات العثمانية ذات المظهر الرائع. وعلى بعد حوالي فرسخين (ثمانية كيلومترات) من البحر تلتقي الأرض المتموجة بسفح جبل لبنان لتشكل زاوية العودة الى الشمال حيث يجري نهر بيروت”, و”مدينة بيروت غير منتظمة الشكل, فهي مفتوحة من جهة البحر, أما من جهة البر فمحاطة بسور حجري رملي ناعم”.

ويتابع:”تجلس بيروت برشاقة على الجزء الشمالي من لسان ارضي يمتد من سفح جبل لبنان ليصل الى أمواج البحر الشفافة, وتحيط بها حدود ساحرة من الحدائق دائمة الخضرة , وتبرّدها نسائم ناعمة تنحدر من الجبال المحيطة بها”.

ينبهر “تايلور” بهذا الموقع المميّز الفتّان, فيجد نفسها عاجزا عن نقل جمال الصورة للقراء, فيقول “لا يمكن للمرء ان يبني فكرة عن عظمة هذا الموقع, فعندما تنظر الى هذه المساحات الواسعة , فعينك لا ترى الا مقدارا  كبيرا من الخضرة النضرة واللامعة. هنا مدرجات ممتلئة بأشجار التوت الأبيض, وهناك,  غابات معتمة وكثيفة من أشجار الخرّوب, وبعد ذلك أشجار التين، و الجمّيز و البرتقال التي تتجمع في بساتين عطرة على طول ساحل البحر. بينما في الأفق, تمتد أشجار الزيتون كبحيرة من أوراق رمادية ولامعة”.

وحتى انه يعتبر زيارة بيروت هي محط حسد الآخرين, لما كانت تتمتع به من سمعة طيبة لدى الأوروبيين الذين كانوا يتشوقون لزيارة الشرق عبر بوابته التاريخية بيروت, التي تكون أول مشهد تراه عيونهم, وينطبع كل ما فيها في اذهانهم وذاكرتهم, فيقول:”غنيّة بيروت بزهورها وثمارها المتنوعة, وهي في نظر المسافر مكان إقامة يحسده عليها الأخرون, وهي نقطة تلاق يجتمع فيها جميع الأجانب الذين يزورون الشرق”.

وفي وصفه للمدينة يقول:”المنازل والمتاجر والأسواق في بيروت مبنية عموما بشكل أفضل مما هي عليه بقية مناطق الساحل, وجميع المنازل هنا تقريبًا من الحجر, وهي أعلى بشكل واضح من المدن الأخرى في الشرق. الشوارع ليست نظيفة للغاية على الرغم من أنها مرصوفة وواسعة إلى حد ما ، ويرجع ذلك إلى ندرة المياه, والنساء مضطرات للذهاب بعيدا لجلب المياه”.

ورغم كل شيء, لا يتأخر “تايلور” من اغداق الأوصاف على بيروت فيقول:”بيروت نفسها مدينة نشطة, مبهجة, غنية, مشغولة ومجتهدة. إنها المستودع والميناء, والمدينة البحرية لكل المناطق المحيطة بها”.

التجارة في بيروت

يقدم “تايلور” لنا صورة جامعة شاملة, عن اقتصاد المدينة, و التجارة الكبيرة التي كانت تجري فيها, فيقول:”هنا , تنزل المنتجات من المرتفعات العالية, ويأتي الحرير السوري لينقل الى “برووس”(مدينة في وسط فرنسا) فيُصنع منه أقمشة مشهورة لتُباع في جميع أسواق الشرق وأوروبا, ومقابل هذا الحرير, يأخذ اهل الجبال, الأرزّ القادم من دمياط المصرية , والتبغ من اللاذقية وقهوة اليمن والقمح من البقاع وحوران”.

ميناء بيروت

أما عن ميناء بيروت الذي تنتصب على مدخله, قلعة قديمة متهالكة مجهزة بستة مدافع تتحكم بالميناء المخصص لرسو السفن, فقال انه “تزدحم فيه السفن الأوروبية والعربية ومراكب الصيد والزوارق البخارية في هذا الميناء الذي يشكّله رصيف وحيد تغمره أحيانا موجات البحر التي تتغلب عليه وتصيب رُكَبِ الرجال العرب المقرفصين عليه”.

“هذا الميناء مزوّد برصيف صغير كان عميقًا ومريحًا للسفن , الا أن الإهمال الذي طاله سابقا, ملأه بالأنقاض والرمال, ولكن اليوم, تجري الأعمال فيه لإعادته الى صورته الأولى”.

مدينة جمعت الاضداد

والزائر لبيروت كما هو الحال مع “تايلور” لا بد و ان يلفت انتباهه التنوع الطائفي والعرقي لسكان المدينة, فيسجل لنا انطباعاته التي بناها خلال وجوده فيها فيقول :”في بيروت, وهي مدينة نصف مسلمة ونصف مسيحية, يمكن للمرء ان يتعرف على العادات الشرقية أكثر من أي مكان آخر, على الرغم من أننا سمعنا عنها مرات عديدة”.

ونلاحظ دائما ان “تايلور” لا يكلّ ولا يملّ من اطلاق الاوصاف الجميلة على بيروت, كيف لا, و هي مدينة جمعت النقائض والاضداد وخلطت في احيائها و شوارعها ناسا وقيَمَا ومشاهد تثير الاعجاب وتختزل الشرق الساحر كله, فيقول :”هذه المدينة بمنازلها ذات الأسقف المسننة والدرابزينات المعلقة والنوافذ ذات الاضلاع الكثيرة ذات الشباك الخشبية المطلية التي يمكن للمرء أن يَرى منها دون أن يُرى, وهذه الصنوبرات المبرومة مثل المظلات, والأبنية الخلابة, من أديرة ارثوذكسية أو مارونية ذات هندسة معمارية ضخمة, ومساجد ذات أعمدة رفيعة, …., كل هذا,  هو الشرق بالفعل”.

ثم ينتقل “تايلور” الى التمعن أكثر في الانطباعات التي يقول انها في البداية تكون مشوّشة, ثم تتوقف و تثبت ويأتي بعدها الوضوح.

هي نفس الانطباعات التي يعيشها القادم الى بيروت في كل زمن, فهو يرى الكثير في زمن قليل و مساحة صغيرة, وهو يحتاج الى استراحة يجمع فيها كل ما رأه ويفهم كل ما فيها, ليعرف المدينة على حقيقتها المختبئة خلف المشاهد والصور والوجوه.

شوارع بيروت واحوال الناس

ومن هنا يبدأ “تايلور” بالدخول الى التفاصيل التي كنا فعلا نبحث عنها بين السطور و الكلمات من مشاهدات عن أحوال الناس ومظاهرهم وعاداتهم, فيصف لنا أزياءً من بيروت فيقول :”ها هو الزي العربي بكل بساطته المبهرة , مع فخامة السلاح والخيول, وهما أول رفاهية للعرب”.

وفيما يتحدث عن رفاهية العرب, يفاجأنا بصورة أخرى تبدو وكأنه انتزعها من قصص الف ليلة وليلة الغريبة فيقول “هنا ترى النساء يضعن عمامات أو لفّات على رؤوسهن, ويرتدين سترات مطرزة ومزيّنة بالذهب المنقوش ومرصعة باللآلئ والأحجار الكريمة والثياب الفضفاضة التي تستر أجسادهن”.

ثم, ومن صورة الذهب و اللالىء واحلام الغنى و الثراء, يهبط بنا الى مشهد دنيوي أكثر واقعية فنرى معه :”الرجال يجلسون أمام أبواب المقاهي يدخّنون النرجيلة أو الغليون بكثافة, بينما النساء تمررن وهن مغطيات بالحجابات البيضاء, يعبرن المدينة متجهات إلى الحمّام, للاسترخاء والمرح”.

ويتابع معنا نقلا مباشرا لمادة سمعية من أسواق وشوارع بيروت فيقول:” هنا تسمع صرخات العمال اليوميين, وسائسي الحمير والباعة المتجولين بصوت عالٍ, بينما من أعلى المآذن تسمع أصوات المؤذنين التي تردح ببطء تدعو الى الصلاة”..

هكذا هي بيروت دائما, غامضة و ممتلئة بالواقعية والجدّية لكل ظروف الحياة منذ ولادتها على هذا الشاطئ الممتع المليء بالمتغيرات عبر التاريخ, فيقول :”وهكذا هي بيروت, مثلها مثل جميع البلدات الساحلية وكل بلدات الشرق, يعيش سكانها الذين صاغتهم الطاعة والايمان بالقضاء والقدر, حياة رتيبة ولكن هادئة, مع القليل من الأفراح والقليل من الأحزان”.

تجربة الحمّام بيروت

وطالما أنت في بوابة الشرق بيروت, فلا بد لزائرها أن يعيش بعض الامتيازات والأجواء الساحرة التي يمكن أن تتوفر جميعها في تجربة الحمّام.

يبدأ ” تايلور” بوصف سريع للحمام الشرقي فيقول انه “تطوير حسّي للحمامات اليونانية والرومانية, ومكوّن من سلسلة من الغرف ذات القباب الصغيرة ومضاءة بزجاج ملّون, وأرضه مرصوفة بقطع رخامية بألوان مختلفة ، كما يحتوي على جدران من الفسيفساء وأعمدة صغيرة مغاربية من الرخام المنحوت”.

ثم ينتقل بنا الى عرض مفصل فيبدأ من “الغرفة التي تُستخدم كمدخل للحمام العام وهي كبيرة وعالية وجيدة التهوية ومجهّزة بمصطبات لوضع الملابس. ومن هناك ، نعبر غرفا مختلفة تزداد حرارتها بتدرجات لا تشعر بالفرق بينها. إنها أولاً درجة حرارة الهواء الخارجي ، ثم الجو الرقيق الدافئ, حتى تصل الى الجزء الأخير حيث يرتفع بخار الماء المغلي من الأحواض, ويكاد يخنق الواصلين إلى هناك.

في هذا المكان, الذي لا يدخله أيّ كان,  يوجد فرن درجة حرارته عالية جدًا, ومعطّر بالزيوت التي تنفث الروائح الحلوة العطرة”.

ينجح “تايلور” في وضعنا في داخل أجواء الحمّام بألوانه و حرارته و عطوره, فيجري مقارنة سريعة بين الحمّام الأوروبي البسيط والمؤلف فقط من حوض مستطيل أو حوض محفور بالصخر, يرمي الشخص نفسه فيه للاستحمام. أما الحمّام الشرقي فهو قصة كبيرة و طقوس و مناخات تمتزج فيه حواس السمع والبصر والشم والذوق كما سنرى لاحقا, وفيه مراحل متعددة, منها مكان “يستلقي الشخص على الرخام, ويظل ساكناً تحت سحابة بخار معطّرة ستخترق كل مسامه شيئًا فشيئًا. في الواقع ، ينفتح الجسم على درجة حرارة غير عادية, وتتسرب الرطوبة الناعمة تدريجيا من الجلد, وتتوسع ألياف الجسم وتلين الأطراف”.

أُعجب “تايلور” بالحمام الشرقي كثيرا وتأثّر به, فوصف لنا بدقة كل ما يجري في داخله, وذكر محاسنه ومنافعه, ومن ذلك تدليك المستحم, فيقول :”يصل خدم الحمّام فيمسكون بالمستحم وهو مستلق على حصيرة ناعمة ورأسه على وسادة, واطرافه مرخيّة, فيفرقع أحدهم مفاصل أصابعه, ويبدأ بتدليك جسد المستحم وفي يده قفاز من شعر الخيل يفرك به الجسم كله سريعًا, فيحرك الدم إلى الجلد بحيوية لا تصدق”.

هذا التدليك الذي لا يعرفه الأوروبيون آنذاك, ينتهي براحة “كاملة وغامضة”, يصفه “تايلور” بأنه “من أعظم مسرّات ومباهج الحمام الشرقي”.

ثم ينتقل بنا الى المرحلة الأجمل من الحمّام الشرقي فيقول :”بعدها نترك هذا الجو الحار للخروج عبر الغرف نفسها التي مررنا بها عند الدخول. وفي إحداها يظهر خادم الحمام مرة أخرى فيلقي على كتفي المستحم رغوة الصابون ثم يصب ماء فاترا وماء الورد لتعطير الجسد, ثم يُترك المستحم ممدّدًا على أريكة, حيث يُقدم له التبغ المنكه والقهوة والشراب البارد ليستعيد قوته”.

يخرج “تايلور” من حمّامه الرائع, وفي ذهنه انطباعات وأحاسيس كثيرة, فيصف الساعات التي أمضاها في الحمّام بأنه واحد من الرفاهيات التي يعيشها المسلمين, وهو إضافة الى انه “واجب ديني عند هؤلاء الناس, ففيه تجد النساء (في الأوقات المخصصة لهن) نوعا من التسلية في عزلتهن, فيناقشن شؤونهن الصغيرة وحفلاتهن وأعراسهن, أما الرجال فهم ممنوعون من دخول الحمامات في الأوقات المخصصة للنساء, فتراهم يجتمعون في أماكن أخرى يتحدثون في مسائل السياسة والتجارة”.

آثار وخرائب

وكعادة الرحالة الأجانب الذين تستهويهم آثار الأقدمين, و معالم القرون السابقة, يتحدث  “تايلور”  عن الاثار والخرائب القديمة الموجودة في عدة أماكن من بيروت فيقول :”الأثار والانقاض الموجودة خارج الأسوار إلى جهة الغرب, تجعلنا نعتقد أن المدينة كانت أكبر من ما هي الأن عليه بكثير, فالسهل الشاسع الذي يتبع أراضيها مزروع  بالكامل تقريبًا بأشجار التوت الأبيض لتغذية دود القز, الذي يُربّى على نطاق واسع في البلاد”.

مدينة التعايش والتسامح

يتحدث “تايلور” عن التسامح الكبير الذي يتعايش فيه سكان المدينة :”وللمسيحيين بمختلف طوائفهم أربع كنائس ويوجد أيضًا ثلاثة مساجد جميلة بمآذنها وساحاتها ونوافيرها المتدفقة, وفي وسط المدينة يرتفع بشكل مهيب المسجد الكبير”.

ومع هذا الوصف, يتمكن “تايلور” من التقاط ملاحظة يبدو ان صلاحيتها ما زالت قائمة ومستمرة الى يومنا هذا, فيقول :” بيروت لا تُخفي ندوب جراحها ، فهي لم تكن دائمًا سعيدة ومسالمة, ولا زالت تحتفظ بذكرى التقلبات التي عاشتها,وتغيير الأسياد في كثير من الأحيان لدرجة أنها لم تعد تعرف لمن تنتمي”.

قبل الرحيل

ونصل الى المقاطع الأخيرة من زيارة الرحالة الفرنسي “ايزيدور جاستن سفرين تايلور” الى بيروت, والتي يبدو جليا ان “تايلور” لم يشأ ان يتركها بسهولة, فهو أراد ان يرسّخ في اذهاننا تفاصيل ما رآه وشاهده وعايشه,من خلال إعادة وصف جزء من محاسنها وجمالها, فيقول:”بيروت اليوم على طريق التقدم حقًا,وقد أصبحت المكان الأكثر أهمية على هذا الساحل بأكمله ومستودع كل التجارة في سوريا, ولا شك أن الزيارات المستمرة للحجاج والتجار القادمين من أوروبا ساهمت في ذلك كثيرا.

ميناء بيروت آمن للغاية, ومليء بالسفن دائمًا, و(المدينة) يجد المرء جميع وسائل الراحة للحياة, والمساكن المريحة تقريبًا, واللحوم الصحية, والفواكه اللذيذة, والخبز المصنوع على الطراز الأوروبي من قبل خبازين فرنجة (…)”.

الخروج من بيروت

وفي طريق خروجه من بيروت ليكمل رحلته في ارجاء سوريا وصولا الى القدس, نتخيّل “تايلور” وقد وقف في مكان مرتفع يطل على بيروت التي فُتن بها, يلقي النظرات الأخيرة, مسترجعا كل ما كتبه, ومتأكداً من أنه لم ينس شيئا من مفاتن هذه المدينة الا وذكره و وصفه, فيقول لنا آخر كلماته عنها: “من أبرز أسباب شهرة بيروت, جمال وندرة محيطها, وروعة مزارع التوت التي تهيمن على المدينة من جميع الجهات, والمظهر الخلاب لآثارها القديمة وأيضا لفيلاتها الرشيقة التي  تتناثر بالمئات بين أشجار الليمون والخروب وجميع أنواع الأشجار التي تنمو على ترابها. باختصار ، كيف ما كانت, لا تزال بيروت تستحق بأكثر من طريقة لقب السعادة الذي أطلقه عليها الإمبراطور أوغسطس”.

________

* باحث في تاريخ بيروت. عضو جمعية تراث بيروت

[email protected]

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website