توجد نقيشة على عمود الى يمين الباب الذي يفضي الى حرم الجامع العمري الكبير نصّها: «بتاريخ ستة وثمانمائة قرّر الجناب العالي الجمالي المؤيدي باب السلطنة الشريفة ببيروت المحروسة أعزّ الله أنصاره أن يبطل ما كان استحدث على الخبازين ببيروت لنائب الحسبة الشريفة وهو في كل شهر على كل فرن خمسة أمداد، وما كان الخبز بالأجرة أيضاً أمر بإبطال ذلك وأن لا أحد يأخذ رسماً باسمه لا يحدث خلافه وملعون إبن ملعون من يعود يجدّد ذلك أو يأخذ منهم شيئاً ولا يأخذ المحتسب إلا جامكيته فلو أخذ شيئاً غير جامكيته يكون عليها مسؤولاً فليلعن». وقد ذكر الدكتور صالح لمعي في دراسة عن مساجد بيروت أن صاحب النص هو الأمير علاء الدين اقبغا الجمالي الشهير بالاطروش نائب دمشق المتوفى سنة 806هـ، بينما أكد طه الولي ان نائب دمشق شيخ المحمودي تقلّد نيابة دمشق في شهر ربيع الأول سنة 805 وهو ما تؤيّده سيرة هذا الأخير الذي كتبها بدر الدين العيني بعنوان «السيف المهند في سيرة الملك المؤيد شيخ المحمــــودي».
وكان حُفر هذا الأمر على أحد أعمدة الجامع أفضل وسيلة ثابتة دائمة لإعلانه وإبلاغه لكل من يؤمّ الجامع كي يعلم بمضمونه القاضي بمنع الضريبة أو الرسم الذي كان «بمثابة رشوة» فرضت لنائب المحتسب… إلا ان النص غير مقروء على العمود لأنه – أي النص – طُلي بلون أبيض، وحبّذا لو يقوم المسؤول عن الجامع بإزالة الدهان وإبراز النص المشار إليه.
وجدت في بيروت قرب الاسكلة ساحة بإسم «جرين الحنطة». ومعظم حاجة المدينة من القمح كانت من الشامي والطرابلسي والاسكندراني. وعُزي سبب ترك عادة أخذ القمح عائد لعدم إعتناء المغربل والطحان والنخال بعملهم والى كثرة الأعمال بحيث لم يعد من وقت لمشترى القمح وغربلته وتصويله وتنقيته. وفي الأمثال إذا وجدت طحيناً فلا تأخذ خبزاً وإذا وجدت قمحاً فلا تأخذ طحيناً لأن أخذ الخبز من الطحين أبرك من أخذ الخبز جاهزاً، وهكذا إذا أخذ القمح. وقد وجدت عدة طواحين في زقاق الرصيف وفي ميناء الحسن إلا ان أكبر مطحنة وأقدمها كانت طاحونة نار في محلة الشامية قرب الشاطئ اشتراها انطون بك مصر لي أوغلــــي (أي ابن مصر) المشهور بأنطون بك وأنشأ مكانها الخان المعروف باسمه.
نفّــــق بليــق
كانت بيروت بلدة صغيرة يقيم سكانها الذين لم يكن يتجاوز عددهم أربعة آلاف نسمة ضمن سور له أربعة أبواب على غرار المدن القديمة، أصبحت هذه الأبواب فيما بعد سبعة. وهذا العدد من السكان كان يكفيه فرن واحد لصنع الخبز وبيعه. وكان هذا الفرن يخصّ رجل من أسرة بليق البيروتية. فكان على من احتاج الى الخبز أن يقصد بليق لشراء الخبز. فإذا لم يجد عاد الى أهله وقال لهم «نفّق بليق» أي باع الخبز كله ولم يبقَ عنده رغيف واحد. ورغم تكاثر الأفران وباعة الخبز بعد ذلك إلا أن الناس بقيت تستعمل المثل عند نفاد سلعة من الأسواق..
والبليق من الفنون الشعرية السبعة غير المعربة. والأبلق من الخيل هو الذي في لونه بياض وسواد منفصلان، وبليق اسم أسرة من الأسر الإسلامية في بيروت اشتهر من أبنائها أستاذنا المرحوم المربّي نجيب بليق أحد الناشطين في الحركة العربية في بيروت. انتسب الى جمعية العربية الفتاة ونشر عدة مقالات في التربية والسياسة، لاحقه العثمانيون فسافر الى مصر وسكن فيها مدة ثم انتقل الى الأردن مع الأمير (الملك) عبد الله. عاد الى بيروت بعد حركة الضباط الأردنيين ضد غلوب باشا القائد الإنكليزي للجيش الأردني. ويرد اسم هذه العائلة في السجلات الشرعية تارة بصيغة «أبي مرق بليق» وتارة بصيغة «بليق أبي مرق».
وقد كثرت الأفران خلال القرن التاسع عشر بالنظر لزيادة عدد السكان، فظهر من الأفران فرن الحاج محمد الحمصي فوق برج الكشاف أو فرن بني الشلفون. وفرن أبي زرقوط في محلة النصارى وفرن بني دندن تجاه الحمام الفوقاني وفرن القائم في محلة فتح الله وفرن الكنيسة قرب كنيسة الموارنة وفرن بني يموت وفرن الحاج محمد صالح إدريس في محلة باب الامينية وفرن بني خالد في حي الباشورة وفرن شعر في زقاق البلاط وأفران في الكراوية والثكنات وميناء الحسن وخان الأصفر الخ.. وعرفت رأس بيروت فرن العيتاني قرب قصر دياب حيث كانت كل أسرة تخبز مرة في الأسبوع، وفرن الحداد تجاه مدخل الجامعة الأميركية الذي اشتراه حسن طقوش.
السهر على نظافة الأفران والعاملين بها
أتى حين من الدهر كان المحتسب يقوم بدور كبير في ضبط الأسواق ومراقبة التجار وأرباب الحرف، فكان يسير في الأسواق ومعه جلاوزته، يحمل كل واحد منهم جوابه تحت باطه (الأجبوبة هي العصا الغليظة)، فيدخل الى المعاصر والمطاحن والخانات والأفران للتثبّت من رفع سقوف أفرانهم وجعل منافس فيها للدخان ومن غسل المعاجن وعدم عجن العجّان بقدميه ولا بركبتيه ولا بمرفقيه فربما قطر في العجين شيء من عرق يديه، وأن يشدّ عصابة على جبينه وحلق شعر ذراعه وعدم خبز العجين حتى يختمر.
التلاعب بأسعار النقود وبأسعار الخبز
علاقة التجاذب بين الخبازين وأسعار النقود قديمة في بيروت. ولهذا التجاذب علاقة بالتلاعب بأسعار النقود الذي يستتبع التلاعب بأسعار المواد الاستهلاكية ولا سيما الضرورية منها وعلى رأسها الخبز. ففي سنة 1881م هبطت أسعار العملة المتداولة في الأسواق كالبشلك والمتاليك القمرية فارتبك التجار ووقف دولاب التجارة، وفي 16 آذار أصبحت الأفران مغلقة فهجمت الأهالي من الفقراء عليها ونهبت ما بها من الخبز وأقفلت جميع حوانيت البلدة فعمدت السلطة الى نشر عساكر الجندرمة والدراغون لإعادة الأمن، واجتمع المتصرف بلجنة من الأهالي فتمّ الاتفاق على أن يكون التعامل بين الأهالي على سعر الريال المجيدي 22 قرشا والبشلك 3 قروش والمتليك 12 بارة.
الشكاوى من الخبازين
زادت الشكاوى من ممارسات أصحاب الأفران، فقيل انهم اتفقوا على التلاعب بالخبز فلا يحسنون خبزه ويؤخّرونه عندهم الى ما بعد ميعاده ويسلبون من تقطيعه، فإذا رغب أحد بترك خبّازه والاعتماد على سواه نازع أحدهم الآخر وتقاسموا الزبائن كأنهم تبعة لهم فلا تستطيع دولة خباز أن تخدم تبعة آخر، وإذا نقل أحدهم خبزه الى فرن آخر فأنه يعامل أسوأ معاملة، فان الخباز الذي فضّله على السابق شريك لهذا الأخير وحليف له فلا يزال ينفّر الرجل حتى يجبره على العودة الى الخباز السابق. ومتى دخلت العجنة تحت استبداد الفرّان فإما أن يخبزها والوقود قوية فيحرق أعلاها ويستمر أسفلها عجيناً، وإما أنه يخبزها والوقود قليل فتجف، وإما انه يتركها في ناحية الغبار الى أن يزيد على اختمارها حموضة ضارة. فإذا سَلِمَ الخبز من الفرّان وقع بيد الفتى الذي ينقله الى الفرن، فجلبت البلدية شيخ الحرفة وأخذت منه تعهداً بحال أهمل المكفول خبزاً عنده ليفسد أو يحمض أو حرقه أو نقص منه شيئاً، فيكون الكفيل ملزماً بدفع ثمن الخبز لصاحبه مع الجزاء النقدي للبلدية.
ولا نزال نذكر جدّاتنا وأمهاتنا يقمن بعدّ أرغفة العجين وقرص طرف أحد الأرغفة بما يفيد العدد المسلّم للخباز. وكان الفران يفرح عندما ترسلنا والدتنا لجلب تقطيعة (بعض الأرغفة) ما يشكّل فرصة له للتشكيك في عدد الأرغفة التي سلّمت له.
تولّى عمر بيهم رئاسة مجلس الشورى. وكان ذات يوم خارجاً من بيته في محلــــــــة زقاق البلاط وما كاد يسير عدة خطوات حتى سمع صوتاً يقول له: «يا عمّ… يا عمّ… يا حاجي…»، والتفت ناحية مصدر الصوت فتبيّن شبح امرأة تقف وراء رباع الصبير (وهو سياج من نبات الصبّار يفصل بين ملك وآخر) وقد أدارت له ظهرها حتى لا يقع نظره عليها وهو الغريب، وسألها عما بها، فقالت: «الله يرضى عليـــــــك يا حاج.. اصرخ لك صوت بدربك على الفرّان، خلّيه يبعت صانعه ياخد العجين، حمّض وما كان حضرته يجي»… واقترب السيد عمر من سياج الصبّير وقال لها: «وين فرش العجين؟ هاتيه».. وأسرعت بجلب الفرش، ثم تبيّنت وجهه، ففوجئت وخجلت واعتذرت، ولكن السيد عمر أخذ منها الفرش عنوة وأوصله إلى الفرن، وأنّب الفرّان وصانعه على تهاونهما في خدمة الحرمـة…
ويروى أن أميراً وقف على باب طحان، فرأى حماراً يدور بالرحى في عنقه جلجــــــل (جرس) فقال للطحان: لِمَ جعلت الجلجل في عنق الحمار؟ قال: ربما أدركتني سأمة أو نعاس فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه واقف فصحت به، فانبعث. قال: أفرأيتَ إن وقف وحرّك رأسه بالجلجل هكذا وهكذا – وحرّك الأمير رأسه يميناً ويساراً – فقال له الطحان: ومن لي بحمار يكون عقله مثل عقل الأمير؟
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أوراق بيروتية” 29
21 آب/ أغسطس 2021