زياد دندن*
أمّا وقد صدر عن وزارة الداخلية في الجمهورية اللبنانيّة إعلان علم وخبر يحمل الرقم 707 عن تأسيس جمعيّة «تراثنا بيروت» والتي عُرفت وعلى نطاق واسع وعلى مدى أربع سنوات خلت من النشاط الدؤوب، بمجموعة «تراث بيروت» ولها ما يزيد عن 280000 متابع حقيقيين لصفحتها على حسابها عبر تطبيق Facebook، والمئات من المتابعين على حسابها عبر تطبيق Instagram وكذلك على تطبيق Youtube، وقامت بأنشطة عامّة عدة لاقت الترحيب والقبول والتفاعل من جمهور متابعيها.
أما وقد تمّ ذلك، نبارك لأهل بيروت ومحبيها هذا الإنجاز الكبير، واحتفلنا نحن المؤسسون والناشطون، وهنّأ بعضنا بعضاً بأن أصبحنا كياناً معترفاً به رسمياً، يعني بالحفاظ على ما تبقّى من تراث مدينته ومحبوبته بيروت، ويسعى للتعريف بتاريخها المجيد الضارب في أعماق التاريخ القديم والحديث والمعاصر.
ما هو التراث؟
تعريف مقتضب عن التراث الذي نحاول التعريف به والحفاظ عليه يقظاً في وجدان النّاس وحياتهم اليوميّة، التراث هو ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي منه الأبناء والأحفاد الدروس ليَعبُروا بها من الحاضر إلى المستقبل.
والتراث في الحضارة؛ بمثابة الجذور في الشجرة، فكلّما غاصت وتفرعت الجذور، كلّما كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان. كذلك فكلّ الناتج الثقافي والعلمي والفني للأمة؛ يمكن أن نقول عنه تراثُ الأمّة.
مهمّة جمعيّة تراثنا بيروت
مهمتنا إذاً البحث العلمي والموضوعي عن جذور هذا التراث، وتوثيقه، وابتكار وسائل لتطوير سبل الوصول إليه من مصادره الحقيقية ما أمكن ذلك، أو عبر التواتر الدقيق زمنيّاً وموضوعيّاً، فإذا تحدثنا عن بيروت المدينة التي يعود تاريخها إلى ألفي سنة ما قبل ميلاد سيّدنا المسيح عليه السلام، نجد ذلك في سطرٍ أو سطرين من مدوّنة رحالة زار المنطقة العربية ومرّ ببيروت مروراً سريعاً بمفهوم زمانه، ووثّقه بما يتلاءم مع ما نقل عنه لاحقاً وقيل: «إنه كتب عن بيروت فقال»… بيوت [بيروت] مدينة فينيقيا الفائقة الجمال والفائقة الأناقة، والكلية الكمال».
بعد هذا البحث والتنقيب من قبل لجنة البحوث التي تضمّ مؤرخين كباراً وباحثين، علينا وضع هذا التراث بقوالب متنوّعة ومتطوّرة للتعريف به والحفاظ عليه جيلاً بعد جيل. وهكذا في كلّ مجال من مجالات التراث.. تاريخياً وجغرافياً واجتماعيّا ومعمارياً وفنيّاً وموسيقيّاً ومسرحيّاً وتراثاً شعبيّاً بكل أصنافه ولو رواية مثل شعبي وأصل تداوله.
لذا فقط، باتت جمعيّتنا جمعيّة «تراثنا بيروت» مرجعاً علميّاً لكل باحث لبناني وعربي وأجنبي يجري بحثاً أكاديميّاً عن مجال من مجالات تاريخ بيروت الرحبة والمتعدّدة. ولذا أيضاً باتت جمعيّتنا وبما بدأت به من توثيق للذاكرة الشفهيّة الحيّة عبر شخصيّات عاشت وعملت وقدّمت الكثير لمجتمعها البيروتي واللبناني، باتت بمثابة الجد الذي يشبع نهم أحفاده بالحديث والقصص عن المورثات الشعبيّة في زمن أيامه وأيام من سبقه، وسبل عيشهم وأمزجتهم التي كانت سائدة، بالحسن منها والسيء الذي اندثر مع توالي الأيام والسنين.
إذاً.. سيأتي يوم لا يستطيع الأبّ في الحاضر أو المستقبل وليس عنده ترف الوقت وراحة البال، أن يخبر أبناءه وبناته عن بيئةِ زمنٍ خلق فيه وترعرع على أدبياته التي محاها ايقاع الحياة السريع الذي نعيش. فإن كان الإبن أو الإبنة شغوفاً لمعرفة ما كان في زمن أجداده، ليستشرف المستقبل، فهو حتما سيعود إن لم أقل سيلجأ لجمعيّة تُعنى بتراثه وتراث آبائه وأجداده كجمعيّتنا «تراثنا بيروت».
ماذا أنتم فاعلون؟
أعود ابتداءً لأقول: أمّا وقد صدر ترخيص جمعيّة «تراثنا بيروت» فماذا أنتم فاعلون يا أهل الحلّ والعقد من أبناء بيروت، يا من تتصدّرون المراكز الرسميّة باسم بيروت وأهلها وتاريخها العريق، ماذا أنتم فاعلون لسنّ القوانين وإصدار القرارات التي من شأنها صون تراث بيروت وتنميّة مخزونها والحفاظ على هويّتها الحضاريّة؟ ماذا أنتم فاعلون يا حقوقيّي بيروت للمحافظة على حقّ المدينة الديموغرافي وهي التي دفعت ضرائب كلّ حروب الآخرين على أرضها الطيّبة؟ ماذا أنتم فاعلون لاسترداد طابع العيش الوطني الواحد بين أبنائها وأهلها وساكنيها؟ ماذا أنتم فاعلون يا مثقفي بيروت وفنانيها لإبراز تراثها ومخزونها الثقافي برجالاته الرائدين ونسائه الرائدات في كل مجال؟ ماذا أنتم فاعلون يا أثرياء بيروت والميسورين من أبنائها للتكافل في دعم مشروعات المحافظة على هويّة المدينة المعمارية، وقد تقلّص عدد المباني التراثيّة والقديمة فيها إلى عشرات المباني واجتاح المدينة جشع تجار العمار – وليس الإعمار – لأن الإعمار هو كلّ ما يعيد المندثر إلى الحياة من جديد.
وقوف على الأطلال وجلد للذات؟
وهنا وقفة.. يأخذ علينا البعض من المتابعين أننا عندما نستذكر أيام زمان من خلال تصوير المباني التراثية المتبقيّة والدخول بتفاصيلها الهندسية وطابعها المعماري والحديث عن الأبواب والشبابيك والشرفات.. ولدينا الآلاف من الصور لمجموعة من الفوتوغرافيين الإناث قبل الذكور ممن يعشقون توثيق تلك التفاصيل قبل زوالها المتعمدّ، أو من خلال إنتاجنا لبعض الأفلام القصيرة جداً لنحكي فيها عن عادات وذكريات بيروتية ولدينا الكثير منها على منصة الـ youtube.. قلتُ يأخذ علينا البعض أننا نقف ونبكي على الأطلال، وهذا غير مجدٍ، عوضاً عن أنه مؤلم، لهؤلاء نقول: إن من أوجه الحفاظ على التراث، تقديمه بكل شكل وصورة، وتوثيقه لأجيال المستقبل وجعله متاحاً لكل راغب.
دعوة للمشاركة.. واستقلاليّة أكيدة
جمعيّة «تراثنا بيروت» وبكلّ ثقة وصدق وعزيمة ستمضي لتحقيق هذا كلّه، فمن يرغب أن يضع يداً معنا فأهلاً ومرحباً به، فنحن منفتحين على الجميع من دون الذوبان بأي توجّه من أيّ نوع كان.. مستقلون وسنبقى كذلك وبكل تأكيد، سنسير لتحقيق أهدافنا بالمتاح من إمكانات ذاتية، ومبادرات فردية، وبقوة دفع مما نختزنه من شغف في حبّ أم الشرائع وسيدة العواصم بيروتنا الحبيبة.
________
*إعلامي ومنتج. نائب رئيس جمعية تراثنا بيروت.
المقالة نشرت في جريدة اللواء البيروتية بتاريخ 30 تموز/ يوليو 2020