من ذاكرة بيروت: مقهى الحاج داود زيارتي الأولى في منتصف الستينيات

مقهى الحاج داود بريشة صديقنا الفنان التشكيلي اللبناني عاطف طعمه

الدكتور رئيف شهاب*

رأيت على الإنترنت بعض الصّور لمقهى الحاج داود، فعاودني الحنين الى الماضي، ورحت أتذكّر ما رأيت في زياراتي الثلاث لهذا المكان. ثم قررت أن أكتب ما شاهدت أثناء زيارتي الأولى، وكان ذلك منتصف الستينيات.

كنت في شبابي أسمع الكثير عن مقهى الحاج داود الشهير، ولم يتسنَّ لي أبداً أن أزوره، الى أن جاءني يوماً أحد الأصدقاء، وأقترح أن نذهب سوياً لتناول القهوة فيه. رحّبت بالفكرة، وركبنا السيارة متجهين الى منطقة الزيتونة على شاطئ بيروت. عندما ترجّلنا من السيارة، أخذتني الدهشة عند رؤية المكان، لأنني لكثرة ما سمعت عن شهرته، ظننت أنني سوف أرى أمامي بناءً حديثاً كبيراً وحافلاً بالرّواد. ولكنني على عكس ذلك، وجدت نفسي أمام بناءٍ قديمٍ متواضعٍ من الخشب والقِرميد. نزلنا بضع درجات، ثم ولجنا الى قاعة المقهى. لم تكن الإضاءة قوية داخل المكان, اللهم إلا ما كان منه محاذياً للشرفة والواجهة الزجاجية، حيث يدخل ضوء النهار.

أرضية القاعة كانت من ألواحٍ من خشب ظهرت بينها بعض الشقوق، ووضعت فوقها طاولاتٌ ذات أسطحٍ من رخام أبيض فوق هيكل وأرجل من حديد، وحولها كراسٍ من قش وخيزران. أما الواجهة المحاذية للماء، فكانت عبارة عن نوافذ من الخشب والزجاج تمتد على طول وعرض المقهى. ورُوي لي فيما بعد، أنه عندما يكون لاعب النرد متحمساً، فإنه يرمي الزهر بقوة فيقفز خارج الصندوق، ويسقط على الأرض بين الشقوق، فالى البحر مباشرة. ولذلك عمد أصحاب المقهى الى وضع زوجين من الزهر. وبذلك أصبح المقهى الوحيد الذي يضع زوجين من مكعبات الزهر في كل صندوق نرد.

الى يمين القاعة رأيت منضدة طويلة من الخشب، وقف وراءها رجل مسنّ يلبس طربوشاً وقُمبازاً، وظهرت قربه صفوفٌ من النراجيل التي عبِق المكان برائحة تنباكها. ما إن دخلنا، حتى خفَّ الرجل لإستقبالنا مبادراً الكلام بلهجةٍ بيروتيةٍ أصيلة: صباحو شباب، شو جايين تتروقوا فول؟ عِنّا الفولات كتير طيبين لْيام. فردَّ صديقي مبتسماً: يسعد صباحك حج، والله فطرنا بكِّير بالبيت، وبس جايين تنشْرب عندكن فنجان أهوه

عالبلكون، وخلِّي الترويقة ليوم تاني. فأجاب الرجل: أيْ، أهلا وسهلا، تْفَضْلوا عالبلكون،

يالله شْويه وبتْصير الأهوه عندْكون.

عند دخولي الى هذا المكان، تملَّكني شعورٌ بالبساطة والعفوية، بدأنا نفتقده في تلك الحِقبة من الزمن، ولعل كلَّ من أتى الى هنا شعر بذلك، فهو عكس ما ألفناه من تكلُّف وتفاخر بمظاهر الحياة في مقاهي شارع الحمرا والروشة وباب إدريس. أثناء سيرنا في المقهى، أخذنا ننظر ناحية اليمين وناحية اليسار لعلَّنا نرى أحداً نعرفه. وجذب إنتباهنا أحد الروَّاد وكان جالساً يتأمل ما حوله، ثم يكتب واضعاً ساقيه على كرسي أمامه، ومتكئاً على طاولةٍ وكرسيٍ وضع عليه كوفيَّته وعِقاله. إلتفتَ إليَّ صديقي وقال: هل عرفته؟ قلت: لا، قال: إنه الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، سوف أذهب لألقي عليه التحية وأعود بسرعة، أجبته: حسناً، إذن سوف أراك بعد قليل عند الشرفة. كان صديقي يعمل مدرّساً في عدة ثانويات، وقد أخبرني من قبل، أنه بحكم عمله أصبح على صداقة مع بعض الأدباء والشعراء، ويبدو أن النجفي كان من ضمنهم.

أثناء مروري، رأيت بعض الشبَّان يتناولون طعام الإفطار، وقد زُيّنت طاولاتهم بأطباق من الفول والنعناع والزيتون ومخللات اللِّفت والخيار. كانت رائحة الفول المتبَّل الساخن والنعناع تفتح شهيتي بقوة، ولو لم أكن قد تناولت وجبة الإفطار في ذلك الصَّباح، لما ترددت أبداً عن الإنقضاض على صحنٍ من هذا الفول الشهيّ. خرجت بعد ذلك إلى شرفةٍ مصنوعةٍ من الأخشاب التي فقدت معظم ألوانها وبدت رمادية باهتة، وبالنظر الى الأسفل، يستطيع المرء أن يرى أن المقهى يرتكز على ما تحته من صخور بأعمدةٍ من الخشب و الإسمنت، لضمان ثباته في وجه الأمواج العاتية.

أمامنا كان خليج الزيتونة، حيث كانت القوارب واليخوت تتمايل على سطح مائه اللامع، وظهر إلى اليسار مقهى البحرين، وخلفه كورنيش الزيتونة، ففندق النورماندي وفندق فينيسيا الفخم الذي كان آنذاك قد أنشأ حديثاً، وبدأ يأخذ شهرةً إقليميةً وعالمية. أمامنا مباشرة كان فندق السان جورج، هذا المعلم السياحي الهام الذي أقيمت فيه أجمل الحفلات، وزاره المشاهير من ملوكٍ ورؤساءٍ وفنانين من سائر دول العالم. الى يمين الشرفة، كان مطعم البحري الذي اشتهر بجمال مناظره وتقديمه أطايب الطعام. لا بد أن كل من وقف في هذا المكان، قد لاحظ أن إمتداد البحر حتى الأفق، أمام هذه الشرفة القريبة من سطح الماء، يعطي الشخص شعوراً لذيذاً، حيث يجعله يتخيَّل نفسه في قاربٍ في عُرض البحر.

أثناء وقوفنا على الشرفة، لاحظنا دخول شاب يحمل آلة تصويرٍ وبصحبته ثلاث حسناوات ظهرت عليهن ملامح أجنبية، ويبدو أنهن قد جئن فقط لأخذ صور على هذه الشرفة. كان الشاب يستعمل آلة التصوير باحترافٍ واضح، والفتيات كنّ يقفن بطريقة تدل على أنهن ممثلات أو ربما عارضات أزياء. إلتفتُّ الى صديقي وقلت: ألا ترى أن الحظَّ يحالفنا اليوم؟ فقال كيف؟، قلت: أنظر، الماء والخضرة والشكل الحسن، إجتمعتْ كلها فجأة هنا، فقال: أجل ولكن… مع عدم الإتِّزان، إنني أرى القليل من الخضرة والكثير من الماء والشكل الحسن. فأجبته ممازحاً: إنك لا تستطيع أن تنسى أنك أستاذ ولو للحظة!

كان هدير الموج قوياً، فنظرت إلى الأسفل، ورأيت الشاطئ قد إكتسب ماؤه لوناً فيروزياً رائعاً، وأدّى تلاطم الأمواج على الصخور وإنحسارها، إلى تكوُّن الكثير من الزَّبد، مما زاد المنظر روعةً. برودة الجو في ذلك اليوم الخريفيِّ وجمال المنظر، جعلاني أشعر بإرتياح كبير، وأطلب ما لم أطلبه من قبل. نظرت الى صديقي وقلت: هل لي بواحدةٍ من سجائرك؟ فالتفت إليّ متعجِّباً، إذ أنني ما كنت قطُّ من المدخنين. إستويت على كرسي من القش والخيزران، ثم أشعلت لفافة التبغ، ورحت أرتشف القهوة متأمّلاً البحر والأفق البعيد.

أحببت هذا المقهى كثيراً، كما أحبه كل من زاره. ومن أتى إليه مرة، عاد وزاره عدة مرات. كان ملتقى أهل العلم الفن والسياسة والأدب، ومن أهم روَّاده الشاعر أمين نخلة، والفنان التشكيلي مصطفى فرّوخ، والرئيس سامي الصلح، والمفوض كولومباني، والرئيس تقي الدين الصلح، والأديب و السياسي السوري عبد السلام العجيلي، والدكتور محمد خالد والشاعر ميشيل عقل، والشاعر أحمد الصافي النجفي. كما كان ملتقى القبضايات وزعماء الأحياء والمفاتيح الإنتخابية. كنتَ ترى فيه كل أطياف المجتمع اللبناني والعربي وحتى الأجنبي. كذلك أخذتْ فيه بعض اللقطات لأفلامٍ عربيةٍ وغربية. من حيث أهميته التراثية، كان هذا المقهى لبيروت بمثابة مقهى الفيشاوي للقاهرة ومقهى النوفرة لدمشق.

واليوم عندما نتذكّر، ونتحسّر على هذا المقهى الجميل، لؤلؤة الشاطئ البيروتي، الذي أنشأه الحاج داود خطّاب سنة 1870، وظلّ يستقبل زبائنه قرابة قرن من الزمن، الى أن إمتدت إليه يد الحرب فأمعنت فيه تدميراً في عام 1975، وبعد ذلك بعدة سنوات، طُمر الشاطئ برمَّته، وأنشأ في هذا المكان ما هو على نمطٍ حديثٍ، ولكنه وللأسف، لا يحمل شيئاً من طَعم أو لون أو رائحة مدينتي التي عرَفتها، بيروت التي ترعرعت فيها وعشقتُها.

————-

*طبيب وفنان تشكيلي/ صديق جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website