بين بيروت وكورنيشها البحري.. حكايات سحرية وقصص دهرية

كورنيش بيروت. مائية بريشة الأستاذ عاطف طعمة، صديق جمعية تراث بيروت
زياد سامي عيتاني*

بين بيروت وكورنيشها البحري علاقة سحرية، عمرها من عمر صخور بحرها الأبدية وشمسها الذهبية وبيوتها القرميدية وأشجارها الأزلية…

علاقة لا يجيدها إلا من تنشق لطائف نسائمه ورطوبة هوائه، ولامست جسده ملوحة رزاز أمواجه، وتزحلق على أعشابه الصخرية، وأبحر بقواربه الخشبية…

كورنيش بيروت البحري، مترام بين الصخور، تحتضنه أمواجه الأليفة بدفء، مهما كانت عاتية، ملاذٌ لأهل المدينة المزدحمة، متنفس للناس المخنوقين من الزحف الَمديني، والمحاصرين بالهجمة العمرانية.

كل صخرة، كل موجة، كل شجرة، تحمل حكايات وذكرايات، لم تمحها كل العواصف العاتية ولا تعاقب الزمن والسنين التعبة…

كم يختزن هذا البحر المتمايل والمتمايج أحياً والهائج الثائر أحياناً أخرى من آثار وأسرار وأخبار، ومن هموم الناس وأحمالها وأحلامها؟ يوم كان بالنسبة لهم الونيس والأنيس والجليس، يبادلهم المشاعر والأحاسيس، ويتفاعل مع جوارحهم وجراحهم، بما يشبه حركة المد والجزر…

الكورنيش البحري كان ملتقى البيروتيين، يتخذون من مساحته المتحررة والمفتوحة واحة يستريحون فيها من هموم الحياة، يقصدونه للتنزه والترفيه عن النفس، وبحثاً عن الراحة والطمأنينة والهدوء والهواء النقي وأشعة الشمس نهاراً وضوء القمر ليلاً، يتفيأون بأشجاره الأليفة المحفور على جذوعها مئات الأسماء والقصص، والمنتشرة بإنسيابية جمالية، تزيد من روعته، ليتحول إلى لوحة طبيعية، تعجز ريشة أي فنان مهما بلغ من الإبداع تصويرها.

‫كان يجذب كل الناس من كل الفئات، بلا تكليف ولا تفاوت، جميعهم يتحلون بالرقي والأناقة السلوكية، فبحر بيروت لكل الناس، ونقطة لقاء لهم جميعاً، ليختصر المجتمع البيروتي بأكمله.

‫كان له طقوسه المنتظمة بعفوية، ‫حركته دائمة ليلاً نهاراً، منذ طلوع الفجر إلى ما بعد منتصف الليل، يضج بالحياة المفعمة، مختزلاً نبض المدينة ونسيجها الإجتماعي المتناقض- المنسق والمنسجم في آن معاً، والأكثر تعبيراً عن الحياة اليومية فيها.

Saudi Aramco World ©

لعل رواد الكورنيش ممن إعتادوا يومياً ممارسة رياضة المشي هم الأكثر وفاء له في كل الأيام، لا يهاجروه ولا يتخلون عنه، لا في حر الصيف، ولا في برد الشتاء ومطره. فلا يخلو من رواده، لكل منه موعده التقليدي معه، وكأنهم عقدوا إتفاقاً معه، منهم من يمارس رياضته المفضلة في فترة الصباح، ومنهم من يمارسها خلال فترة بعد الظهر أو المساء، على طول الكورنيش البحري، مستمتعين فرحين منطلقين، على إيقاع أصوات الموج. فلو كان هذا الكورنيش يتكلم، لكان لديه الكثير ليقوله عن صدى وقع أقدام أجيال وأجيال معتاقبة من المشاة، التي أمضت أوقاتاً طويلة تقتاده بإخلاص ووفاء، دون إنقطاع، حتى باتت بينهم وبينه علاقة حميمة يومية لا تنقطع…

كان يفصل بين الكورنيش وبين البحر “دارابزين” حديدي، (قبل إستبداله بالألمنيوم)، يعلو نحو نصف متر، ليشكل حزام أمان، مصنوع ببساطة من ثلاثة قساطل دائرية مرتفعة عن بعضها، وتفصل بينها ألواح حديدية، مطلية باللون الأزرق، لييخل للمارة أنه إمتداد متناسق لزرقة البحر والسماء، دون أن يشعر أحد أنه كان عازل للحؤول بينهم وبين بحرهم.

كان هذا “الدارابزين” متعدد الإستخدامات.

فكم كان يقف على حافته أناس وأناس، لإلتقاط صورة يكون البحر الطبيعي خلفية لها من مصور متجول يرتدي بذلة سواداء في “عز الشوب” بواسطة “كاميرته العجيبة” (!) حينما كانت تستخرج صوراً فورية.

كذلك كان مصدر أمان للعاشقين زمن الصدق، حينما يقف شاب وصبية بكل إحترام أمامه، كعصفوري حب، مستوحين من “الأزرق الواسع” كلمات منمقة يتبادلانها للتعبير عن مشاعرهما الجارفة كالأمواج التي لا حدود لها، تماماً كالأفق البعيد للبحر اللذين يقفا على قارعته، فتصبح قصيدة حب. أما من ضاقت به الأيام وسدت في وجهه السبل، فيلجأ إلى ذلك “الدرابزين” يتكئ عليه، مرخياً تعبه، يجد فيه الملاذ الآمن، كأنه حضن أم دافئ، يتأمل حركة الموج المتدفق، يطرب لسماع “فقشه”،ينظر إلى الأفق البعد الذي لا أفق له، يلفظ أحزانه على الزبد المتكاثر، عسى يتمكن من محو بعضها، يتبادل أطراف الحديث بصمت مع البحر كصديق وفي مخلص، لا ينفر منه ولا يتخلى عنه، يشكو له همومه وأثقاله، “يفش خلقه”، يرمي فيه هموم عمره، يشكو له قساوة الحياة والناس والزمن…

على صخوره المتناثرة، يتوزع هواة صيد الأسماك، الذين يقصدون البحر لملاقاة متعتهم، حاملين سلة القش، وكرسي صغير يطبق، وقصبة بلدية يربط فيها خيط من البلاستك وفي أسفله عوامة من الفلين و”سنارة” أو “غدارة” لإيقاع السمكة في الفخ.

ينتشرون على الصخور بكل إنتظام، لكل واحد منهم مكان خاص به على جزء من صخرة إختاروها بدقة متناهية، كأن ثمة إتفاق أخلاقي بينهم على خارطة إنتشارهم، يتربعون عليها كأنها مملكتهم، دون أن يستهويهم إزدحام الكورنيش، لأنهم قرروا إدارة ظهورهم للحياة وأعبائها الثقيلة…

سعادتهم بوسع البحر، الصيد بالنسبة لهم متعة وترفيه والترويح عن النفس، ووسلة لآكتشاف جماليات البحر والتعرف على أسماكه بكل أشكالها وأصنافها، علاوة على ذلك يوفر لهم الصيد تعلم وإستلهام الصبر والمثابرة والإعتماد على النفس…

فهذه الهواية التي تتحول مع الزمن إلى ما يشبه “الهوس”، عندما يعتاد عليها من ألفها تصبح جزءاً لا يتجزأ من يوميلته، ولا يعود بإستطاعته تركها أو التخلي عنها.

وعلى تلك الصحور بنتصب فنار الطيران المدني بألوانه الحمراء والبيضاء لإرشاد الطائرات، الذي يعرف ب”عامود الجامعة”، بعدما أقامت “الجامعة الأميركية مسبحها الخاص بجانبه (المخصص لطلابها وأساتذتها)، يبقى الحارس الأمين للكورنيش البحري، والشاهد الصامت والصامد على كل تاريخه وتحولاته التجديدية.

إلّا أن…بحر بيروت أبحر عنها إلى البعيد غاضباً، يوم قررت أن تتغرب عنه، وتدير ظهرها له، منحازة للإسمنت المتوحش والمباني المتغطرسة، بعدما غزتها الأبراج الشاهقة والمباني العالية على أنقاض البيوت القرميدية ذات الأحجار الرملية…

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website