شيطان الشِّعر يتسلل الى قاعات المحاكم!

عبد اللطيف فاخوري*

قيل إن في الشعر سراً روحانياً هو الذي يجعل الشعر شعراً . سألوا إعرابياً عن هذا السر في الشعر فقال : شيء يجيش في صدورنا فنقذفه على ألسنتنا .

روي أن بعض الشعراء كان يحمل دوماً في جيبه دفتراً صغيراً يقيد فيه ما يوحيه له شيطان الشعر من ابيات سواء جاءه في الدار أو في القطار وسواء جاءته الأبيات في ليل أو نهار ، وسواء كان في حديقة غناء أو في ليلة دعجاء ، في قاعات المحاكم أو في مجمع المآتم .واشتهرت قصائد وأبيات قالها قضاة وأطباء في مناسبات مختلفة . فقد شكا مريض لابن سينا ألمه شعراً فأعطاه إبن سينا وصفة طبيّة شعراً .

وذكر إبن أياس أن زين إبن الوردى ( 1291- 1349 م ) كان شاعراً فقيراً أتى دمشق ودخل مجلس القاضي واستخفّ به الشهود . وجرت مبايعة حول قطعة أرض بالغوطــة ( لم يشر الراوي ما إذا كانت الشرقية أو الغربية ) فقال الشهود إستخفافاً : كلّفوا المعرّي أين هو؟ وأشاروا الى إبن الوردي : فقال : نثراً أم نظماً ؟ قالوا نظماً . فنظم المبايعة شعراً . ولي ابن الوردي القضاء في منبج وله أعمال أكثرها مطبوع وله منظومة نصيحة الإخوان ومرشدة الخلان أو ( مرشدة الأنام ) مشهورة بلامية ابن الوردي كانت تدرّس للطلاب في بيروت في منتصف القرن التاسع عشر . ومطلعها :

إعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هَزَلْ

روى المرادي في ” سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر ” أن نائب الشرع الشريف في محكمة الميدان بدمشق عرضت عليه حجة للتوقيع ، فوقع عليها شعراً فقال :

لما تأملت ما تحويه أسطرُهُ

وصحّ عندي ما في طيّه وقعا

أنفذته واثقاً بالله معتمداً

عليه دون الورى راضٍ بما صنعا

فإنني أحمد الكنجي ابن أبي

الثناء الذي بحال الله مدّرعا

وإنني النائب الشرعي بمحكمة الـ

ميدان والحرّ في دنياه من قنعا

يا رب فاختم بخير لي وخذ بيدي

ما طاف بالبيت عبد صالح ودعا

وذكر الزركلي أن فريقي الدعوى من قبيلتي ثقيف وعتبة كانا يترافعان أمام القاضي بالشعر ، فيقول كل منهما قضيته شعراً ثم يقضي القاضي بينهما .

يذكر ان الأمير يوسف الشهابي أكره الشيخ أحمد البربير على تولي القضاء فأراد التنصل من هذا المنصب فلم يستطع الى ذلك سبيلا ولكنه كتب على الأمير صكاً يتضمن عدة شروط قبلها الأمير .

وتتميز سجلات محكمة بيروت الشرعية بأنها تضمنت مبايعة لدكان تمت يوم الخميس منتصف جمادى الأول سنة 1266 هـ / 1850 م بين إبراهيم الجبيلي الحسامي وعمر وعبد الله بيهم وقد نظم الحكم الشرعي بها الشيخ إبراهيم الأحدب بشكل أرجوزة شعرية نشرناها كاملة في كتابينا منزول بيروت وتاريخ القضاء الشرعي في بيروت . نذكر مطلعها :

من بعد حمد الله والصلاة على النبي باذل الصلات

لمجلس الشرع الشريف السامي ومحفل الحكم المنيف النامي

بثغر بيروت الرفيع العالي أيده الرحمن ذو الجلال

ثم يشير الناظم الى فريقي المبايعة :

قد جاء إبراهيم إبن السامي محمد الجبيلي الحسامي

وهو بحال فيه ذو اعتبار وحسن عقل ليس له الانكار

وباع ما يملك شرعاً بيعه وما له ملكٌ يجني ريعه

لمن هما فردان بالمعارفِ والفضل والإحسان واللطائف

أعني الشقيقين الكريمين الألى وردُهما لمن أتاه قد حلا

السيد الندب الهمام المعتبرْ بيهم العيتاني ذي الفضل عمرْ

وصنوه ذي الرأي عبدالله قد حفظا من شرّ عمرٍ لا هي

ثم يعين الحكم الدكان موضوع المبايعة وموقعها فيقول :

وذا المبيع هو كل الحصهْ ذات الشيوع لا التي مختصهْ

من كامل الدكان الكائنة بساحة الخبز أمام البركة

محدودة معصرة السقعان قبلتها يا طالب العرفان

وبعد ذكر ثمن المبيع واتمام التسلم والتسليم بختمها بقوله :

وذا فعال العبد ابراهيم الأحدب الراجي رضا الكريم

وذاك في نصف جمادى الأولِ يوم الخميس يا رفيع المنزل

سنة سته وستين بدتْ ومائتين قبل الف قد خلت

من هجرة المختار خير الرسل صلى عليه ربنا ذو الفضل

وآله والصحب أهل العلم ونسأل الرحمن حسن الختم .

وفي ذيل الأرجوزة تواقيع شهود الحال وكانوا الشيخ عبد الله خالد والشيخ حسن ناصر وعبد القادر وعبد الرحمن بكداش وقاسم عبد اللطيف درويش وعبد الوهاب محمد مكداش وأحمد ناصر زنتوت .

ومن المفيد أن نشير الى أن القاضي السابق الشاعر محمد علي صادق تولى النيابة العامة لدى محكمة التمييز العسكرية في بيروت في جريمة مقتل الملحق العسكري في السفارة الفرنسية في بيروت كريستيان غوتيار ، فألقى سنة 1996 م في المحكمة مرافقه شعرية بالقضية مطلعها :

ثابت من ملف هذه القضيه أن غوتيار قد طوته المنيّه

قتلوه كملحق عسكري لفرنسا أم صدفة الهويه

أرموه جهلاً كديبلوماسي أم رموه بالعلم عن سوء نيه

وقد أصدر القاضي محمد علي صادق سنة 2003 مجموعتين شعريتين بعنوان ” صدى الأشواق ” ( غزل ) و ” دموع الوفاء ( رثاء ) .

ومن طريف ما نظمه احد الشعراء في القضاء أثناء الانتداب قوله :

إذا ما رمت في دعوى خساره فقدمها لمحكمة التجاره

هناك ترى حقوقك مظلماتٍ وليس سوى الرّشا فيها مناره

وخرج شاعر آخر من المحكمة يتمتم :

بلينا بقاض له زوجة عليه أحكامها ما ضيهْ فيا ليته لم يكن القاضي ويا ليتها كانت القاضيه.

________

*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website