ألف أدولف هتلر كتاباً سماه أصلاً ” أربع سنوات ونصف من الكفاح ضد الأكاذيب والغباء والجبن ” ولكن الناشر نصحه باختصار الاسم ليجعله ” كفاحي ” وأملى الجزء الأول منه في سجنه على نائبه رودلف هس . وقد صدر الكتاب في مجلدين سنة 1925 و1926م . يروي هتلر فيه صراعه من أجل تطبيق الفلسفة التي آمن بها وكافح من أجل تحقيق طموحاته وطموحات الشعب كما رآها هو . وكانت ولاية بافاريا قد احتفظت بحق نشر الكتاب خلال مدة تنتهي في 31/12/2015م .
ولم يكن يدور في خلد هتلر أنه سنّ سنة سيئة اتبعها بعده عدد من الحكام والرؤساء الذين تربعوا على عروش السلطة وأرادوا مزاحمة الكتاب والمفكرين والشعراء فكتبوا أو كلفوا من يكتب لهم الكتب ومن ينظم عنهم القصائد ، حتى أن منهم من اعتبر أن الثروة الطائلة التي امتلكها من السلطة أو المدة المديدة التي قضاها في السلطة ، تجعل منه شخصية فذة وصاحب نظرية خلاقة وصاحب تجربة لم يسبقه إليها أحد . أذكر أن صديقاً لي كان يكتب الخطب لأحد الرؤساء فيلقيها هذا الأخير بصوته الجهوري ثم لا يجد بأساً بعد انتهاء الاحتفال من أن يقول لكاتب الخطاب : ما رأيك بخطابي ؟ .
كان أبو حيان التوحيدي يقول ان الرئيس لا يحتاج لأن يكون كاتباً وشاعراً ومنظراً وعارفاً بالمال والحساب بل يجب أن يكون صاحب قرار ، أما الخطابة والشعر والنظريات والحساب فمن عمل المستشارين والخبراء والمفكرين والشعراء والأدباء ، فما خاب من استشار أما إذا غلب تقليب الأفكار على الرئيس فقد يتأخر عن إصدار القرار في الوقت المناسب فيصح عليه القول :
ان كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فان فساد الرأي أن تترددا
الصحيح أن كتاب ” كفاحي ” وأمثاله من الكتب التي تصدر عن بعض الحكام والرؤساء الذين تسكرهم السلطة ، حظي في أوانه بكم هائل من المدائح والتفاسير والتأويل والتعليقات والقصائد تضيق الموسوعات عن استيعابه وتنوء قافلة من الدواب التي تحمل أسفاراً عن حمله .
والصحيح أيضاً أنه في خضم تلكم المدائح ومهرجانات التأييد والتصفيق الحاد والشديد والمتواصل ، انبرت في بيروت أصوات مستنكرة ومنددة بتلك النظرية النازية ، أصوات بدت وكأنها تسبح عكس التيار ومن هنا كان لهذه الأصوات فضل السبق في شق عباب هذا اللجج .
فالبيارتة لم يعرفوا التعصب الديني أو الطائفي او المذهبي أو المناطقي ، ولم يفرقوا بين جنس ولون فاعتبروا الأسود عنترة بن شداد بطلاً شعبياً فمدحوه واحتفلوا بسيرته . كما اعتبروا الرقيق المملوك الظاهر بيبرس مجاهداً ومحرراً وقهر الصليبيين والتتار . ولم يقبلوا تقسيم الناس بين جنس فوق الأجناس وجنس دون .
ولم تمنع خطب النازي وتهديداته البيارتة من انتقاد رأيه ومحاربة نظريته النازية . ونتوقف في هذا المجال عند مواقف بعض البيارتة وعلى رأسهم أبو عفيف كريدية وعصبة مكافحة النازية والفاشية والفنان سامي الصيداوي ( لم نعثر على رأي لعمر الزعني ولا ليحيى اللبابيدي في الموضوع ) .
كان يونس البحري مديراً للإذاعة الألمانية ” هنا برلين . حيّ العرب ” وروى في مذكراته انه في 17 حزيران سنة 1940م كان الجنرال ويغان القائد الأعلى لجيوش الحلفاء في الشرق الأوسط يشهد سباق الخيل في ميدان بارك بيروت . وكان أبو عفيف كريدية بطل المظاهرات الصاخبة والاجتماعات الشعبية في لبنان موجوداً في الميدان ، فارتجل كلمة أمام الجنرال قال فيها : يا مون جنرال عطيني طيارة أذهب فيها إلى برلين لآتيك برأس هتلر في خلال ثلاثة أيام ” . وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي احتلت فيه القوات الألمانية باريس ووقف هتلر يستعرض جيش الرايخ وهو يدخل باريس منتصراً .
وفي الساعة السابعة من مساء اليوم نفسه ( 17 حزيران ) أذاعت هنا برلين طلب أبو عفيف وعلقت قائلة ” نقول للسيد أبو عفيف كريدية ان القوات الألمانية قد دخلت باريس اليوم ، فلا يكلف أبو عفيف خاطره بحضوره إلى برلين لأننا سنجيء إلى بيروت قريباً ومعنا حبل متين يستطيع أن يحمل جسم ابو عفيف الضخم لشنقه في ساحة البرج ، الشهداء …”
ولما أذيع هذا النبأ كان أبو عفيف قد انتقل من ميدان السباق في الحرش ( الحرج) إلى مقهى البسطة حيث اعتاد تدخين أركيلة فيه . وتغامز الحضور على أبو عفيف وقالوا له لقد طلبت طيارة للذهاب إلى برلين وجلب رأس هتلر فما قولك بأن الألمان احتلوا باريس اليوم وان يونس البحري سيحضر إلى بيروت ومعه حبل متين ليشنقك فيه … فما كان من أبو عفيف إلا أن صاح ” الله يخرب بيت الفرنساويين ، ما ضاينوا من الحرش للبسطة ” .
ولم يكن أبو عفيف الوحيد الذي انبرى وتصدى للنازي فقد تأسست في بيروت عصبة لمكافحة النازية والفاشية ضمت العديد من أهل الفكر والأدب والسياسة من مختلف الطوائف والمذاهب منهم عمر فاخوري ورئيف خوري . وأصدرت عدة منشورات وبيانات وكانت جريدة الأخبار تنطق باسم الجمعية المذكورة . وأصدره عمر فاخوري سنة 1942م كتاب ” لا هوادة ” وفيه يشير إلى بدء انكسار النازية بصمود ما في العالم من قوى حرة وانه سيأتي يوم يتساءل فيه الألمان عما يراد بهم من المجزرة التي أضرم الطاغية وزبانيته نارها الخ .
كما أن الفن لم يتخلف عن التنديد بالفكر النازي ونتائج ممارسات الديكتاتور الألماني فعبر الفنــــــــان سامي الصيداوي أصدق تعبير عن ذلك . فقد ألف ولحن وغنى عدة قصائد وأغنيات تستنكر ممارسات النازية . من هذه الأغاني ” أنت المسبب والسبب ” قال فيها : ” سكر إذاعة برلينك ورجع البحري عبلاده. قل له بلادك ناطرينك ، الحبل معلق في عواده . بلاش دعاية مكسوفة ، من هيك شخصية معروفة . لكن على شكلك شكشكلك ، والطمه صارت مكشوفه . يا هتلر يا عدو العرب ” .
وأغنية ” يا فوهرري أنت بري من الإنسانية ” وفيها : ” يا فهرري يا فهرري ، مين يصدق انك بري . والله العظيم أنت بري ، من الإنسانية بري بري . عايف سماك منشتري ، يا فهرري يا فهرري ” . وأغنية ” ديكتاتور لكن في بلادك ” وفيها : ” ديكتانور مليح ، لكن في بلادك . حاكم بالزور ومش مستريح ، ولا اكتمل جهادك . إسمع ما بتسمع ، إقنع ما بتقنع ، إرجع ما بترجع . أنت وبلادك رايح ، يا هر من كتر عنادك ” .
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت