الشَّخصيَّة التُّراثيَّة في الوجدان البيروتي (1)

أبو العبد البيروتي. تقدمة الأستاذ سعد الدين أحمد خليفة
الدكتور وجيه فانوس*

I. مفهوم الشَّخصِيَّة التُّراثِيَّة

تنبثقً الشَّخصيَّة التُّراثيَّة مِنْ تاريخ القومِ وتساهم في تشكيل واحدٍ أو أكثر من مفاهيمهم وقِيَمِهم الجَمْعِيَّة. إنَّها حضورٌ من تُراث الجماعة لسلوكٍ مُعَيَّنٍ، يُمثِّل معايير وتقاليد تُؤثِّر، بِحدِّ ذاتها، في حياة هذه الجماعة بما يحصل من قبول بها، أو رفض لها، أو حتَّى تعديلٍ في مسارات التَّعامل معها.

I I. ميزات الشخصيَّة المَدينيَّة

لأنَّ المدينة تَشْهَدُ اتِّساعا مكانِيَّاً وازدحاماً سُكَّانِيَّاً أكثر من القريَّة، فإنَّهاُ، وخاصَّة إذا ما كانت مدينة-مرفأ، عُرضَةٌ لتأثيرات جمَّة متعدِّدة الأصول والاتِّجاهات مختلفة القِيَمِ والمفاهيم. فالشَّخصيَّة المدينيَّة، عموماً، ليست محصورة بنمطٍ مَفهوميٍّ واحدٍ أو مُتقارب؛ بل هي ابنة قِيَمٍ ومفاهيم قد تكون متعارضة فيما بينها أو متباينة، بقدر ما بين المؤثرات الفاعلة في وجود المدينة من تنوُّع وتعارض وتبايُن. والشَّخصيَّة المدينيَّة في هذا المجال، وبسبب قابليَّة المدينة للتَّجاوب مع المتغيِّرات الاجتماعيَّة، قادرة على الخروج من النَّمَط الواحد الذي يمكن أن تتجلَّى به. إنَّها قابليَّة للخروج تتحكَّم بها قابليَّة المجتمع المديني للتغيُّر، وهي قابليَّةٌ عادة ما تكون سريعة وطبيعيَّة في آن.

I I I. الشخصيَّة والقناع

تتجلَّى الشخصيَّة التُّراثيَّة، غالِباً، ِبقِناعٍ فَرْديٍّ، تفرضه بذاتها أو تُكْسِبُها إيَّاه الجماعة؛ وعادة ما يتمثَّل هذا القناع بشخص مُحَدَّد يكون وجوده الحضور الأبرز للشخصيَّة في ضمير الجماعة.  فيصبح «القناع»، في هذه الحال، دافعاً محرِّضا لموقف سلبي أو إيجابي تتبنّاه الثَّقافة الجمعيَّة تجاه الشَّخصيَّة. ولكن عندما تكون الشَّخصِيَّة التُّراثيَّة متجليَّة عبر كَثْرَةٍ من النَّاس، بحيث يمكن لكل من هؤلاء أن يُمثِّلَ قِناعا لها، فإنَّ «القناع الفردي» يفقد حضوره، ههنا، لحساب المفهوم العام الذي يستحضره وجود الشَّخصِيَّة.

ثمَّة أنواع كثيرة للقِناع في هذا المجال، ولعلَّ من أبرز ما يمكن استخلاصه من بينها، عبر الملاحظة:

• «القناع الفردي» أو قناع الممارسة الفرديَّة المعيشة

يتشكَّلُ هذا القناع بالممارسة المَعيشَة للشَّخصيَّة التُّراثيَّة، بتوافقٍ جَمْعِيٍّ للنَّاس على فردٍ بِعَيْنِهِ مُمَثِّلاً لهذه الشَّخصيَّة، لاشتهار انطباق مفاهيمها وقِيَمِها على هذا الفرد وانتشار ذِكْرِهِ بين النَّاس عبر هذا الانطباق. ومن أمثلة هذا القناع، «عبيدو باشا الإنكيدار» قناعاً لشخصيَّة «القبضاي»، و«ناجي شهاب الدِّين» لشخصيَّة «الريِّس».

• «القناع الجَمْعي» أو قناع الصُّورة الجَمعِيَّة

يتشكَّل هذا القناع عبر صورة جَمعيَّة يؤلِّفها النَّاس فيما بينهم حول الشَّخصيَّة لحضورها المتعدِّد بين النَّاس وتمثُّلها بعدد كبير من الأفراد؛ فهو، تالياً، قناعٌ عام وليس قناعاً خاصَّا. ومن الأمثلة على هذه الأقنعة العامَّة ما يُقَدِّمُهُ واقعُ الحالِ مع شخصيَّات مثل «الجدع» و«الزِّكرت» و«الزْمِك» فضلاً عن «بنت البيت» و«السِّت».

• «القناع الإعلامي» أو قناع وسائل الإعلام

قناع تقدِّمُه وسائل الإعلام عبر تشخيص ما لها لهذه الشَّخصيَّة إما لغيابها عن الحضور المُشَخْصَنِ أو لغلبة الصُّورة الإعلاميَّة لها عند النَّاسِ على الصُّورة الحقيقيَّة. والجدير ذكره في هذا المجال، أن هذا النَّوع من الأقنعة قد يغيِّر من حقيقة الشَّخصيَّة التُّراثيَّة، فيظلمها في بعض المرَّات أو يُعطيها أكثر مِمَّا تستحقه في مرَّات أخرى؛  وِفاقاً لِمدىالجهد الإعلامي المبذول ونوعيَّتِهِ لصالح حضور هذه الأقنعة. ومن الأمثلة على هذا القناع شخصيَّة القبضاي التي قدَّمها الممثل الرَّاحل أحمد خليفة بقناع «أبو العبد البيروتي»؛ إذ إن حقيقة القناع الذي يقدمه «أبو عبد البيروتي»، ههنا، هي لشخصيَّة «الجَدَع» وليست لشخصيَّة «القبضاي» على الإطلاق.

IV. الوُجدان الشَّعبي

أ) تأطير

هو التَّفاعل الثقافي الشَّعبي الجَمعي مع موضوع ما؛ ويكون هذا التَّفاعل سلبيَّاً أو إيجابيَّاً؛ لكنَّه، وفي جميع الأحوال، يعبِّر عن الموقف الشَّعبي العام من الموضوع ويعمل على تأصيل الموقف منه في الموروث القِيمي الاجتماعي. وهذا لا يعني أن يكون الوجدان الشَّعبي متجاوباً مع الحقيقة التاريخيَّة الواقعيَّة للموضوع، بل إنَّه يتجاوبُ مع المفهوم أو الصُّورة اللتين صاغتهما الثَّقافة الشَّعبيَّة لموضوع ما. وغالباً ما يُصْبِحُ ذلك المفهوم أو هذه الصُّورة أشدَّ رسوخاً وقوَّة من الواقع التَّاريخي؛ الأمر الذي يعطي الوجدان الشَّعبي جوهر وجوده وسرَّ فاعليته وقوَّة نفوذه. فالوجدان الشَّعبي أقوى من الواقع التاريخي وأعظم تأثيرا؛ والوجدان الشَّعبي، وليس الواقع التَّاريخي، هو المسؤول الأبرز عن تحديد المفاهيم والقِيَمِ الشَّعبيَّة تجاه أي موضوع كان.

ب) الوجدان الشَّعبي والشَّخصيَّة التُّراثيَّة

يمثِّل هذا الوجدان الحقيقة الشَّعبيَّة الواقعيَّة والعمليَّة للشَّخصيَّة التراثيَّة؛ وهو بهذا التَّمثيل قد يكون خروجا أو تناقضاً مع الحقيقة الواقعيَّة التَّاريخيَّة؛ فلا رابط بين الاثنين سوى اسم الشَّخصيَّة التُّراثيَّة. ولذا، لا بدَّ، ههنا، من التَّفريق بين وجودين للشَّخصيَّة التراثيَّة؛ أحدهما تاريخي، وثانيهما وجداني؛ وإن تناقض هذا الوجود الأخير للشَّخصيَّةِ التُّراثيَّةِ مع وجودِها التَّاريخي أو اختلف معه.

ت) من مجالات ظهور الشخصية التراثية في الوجدان الشعبي لناس بيروت

بيروت الوجدان الشَّعبيِّ، مدينةٌ حديثة العهد إذا ما قيست بعراقة القاهرة أو بغداد أو دمشق أو حتَّى طرابلس الشَّام وصيدا. إنَّها مدينةٌ-ميناء بدأت تطوُّر نوعيَّاً وبسرعة لافتة، منذ قرنين ونيِّف، إلى مدينة مركزيَّة أساسيَّة في المنطقة برمَّتِها. وبحكم هذه السُّرعة في التطوُّر النَّوعي لهذه المدينة، فإنَّ بيروت شَهِدَت لشخصيَّات ظَهَرت في تُراثِها عبر ممارسة هذه الشَّخصيَّات لوجود أساس أو لافت في حياة المدينة-المرفأ. إنَّها شخصيَّات توزَّعت، بشكلٍ تقريبي، على أربعةِ مجالات أساسيَّة تعكس بوضوح موضوعيٍّ حياة طبيعة بيروت ومفاهيم ناسها، وتتجاوب مع كونِها مدينة-مرفأ تعيش على الأعمال الاقتصاديَّة المعتمدة بشكل واضح على أسس القوة والنُّفوذ والقدرة على العمل. ولعلَّ المجالات التاليَّة تُشَكِّل واحداً من أبرز تجليَّات الشَّخصيَّة التُّراثيَّة في بيروت، القوَّة والغَلَبَة.

إن بيروت، في الأساس والمبدأ التُّراثيين، ميناءٌ بَحْرِيٌّ؛ والعمل البحري، بحدِّ ذاته، يتطلَّب من العاملين فيه طاقة جسديَّة قادرة على تَحَمُّلِ أعباءَ نَقلِ البضائع من أرصفة الميناء إلى البواخر والعكس، فضلاً عن نقل هذه البضائع إلى خارج الميناء. ولا بدَّ لِمَنْ يُشْرِفَ على تحميلِ البضائع وتفريغها من قدرة إداريَّة تؤطِّر القوى والطَّاقات الجسديَّة العاملة بإشرافه، وتسخِّرها لخدمة عمليَّة النَّقل التي على نظامها مراعاة حماية البضائع المنقولة وسلامتها.

من جهة أخرى، فإنَّ بيروت، بحكم كونها من النَّاحيَّة التُّراثيَّة مدينة-ميناء، فإنَّ أحياءها ومناطقها، على صغرها، كانت بحاجة إلى من يعرف كيف ينظِّم هؤلاء الأقوياء من أبنائها ويضبط فاعليَّاتهم لمصلحة المدينة ومينائها.

من هنا، كانت القوَّة والغَلَبَة واحداً من أهم المجالات وأبرزها التي ظهرت عبرها الشَّخصيَّة التُّراثيَّة في بيروت. إنَّه ظهور فَرَضَهُ واقع العيش، وميَّزه هذا الواقع عن سواه؛ فهو مجال القوَّة والغَلَبَة والتمكُّن من الأمور. ومن هنا كانت شخصيَّات القوَّة والغَلَبَة والنُّفوذ الأكثر حضورا والأشدّ بروزاً في الوجدان الشَّعبي البَيروتي. لقد ظل البَيروتيُون يتناقلون أخبار شخصيَّات القوَّة والنُّفوذ طيلة عقود من الزَّمن، بل وحتَّى في الأزمنة التي ما عاد فيها لمثل هذه الشخصيَّات أن تمارس دورها التقليدي في الضَّبط والرَّبط والغَلَبَة، بعد أن ظهرت أدوات وتقنيَّات وتنظيمات جديدة لتحقيق هذه الأمور. ومع هذا، ظلَّ لشخصيَّات القوَّة والنُّفوذ والغَلَبَة حضورها المستمر في الوجدان الشَّعبي البَيروتيِّ حتَّى هذه اللحظة، مع قليل أو كثير من استمرار وهج البريق الواقعي لمثل هذه الشخصيَّات أو تحوير بعض ما قامت عليه من مفاهيم وصور.

(وإلى اللقاء مع الحلقة الثانية: «مِن مظاهر القوَّة والغَلَبَة في الوجدان التُّراثي البيروتي»)

________

رئيس المركز الثقافي الإسلامي/ صديق جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website