الدكتور وجيه فانوس*
يظلُّ لشخصيَّات القوَّة والغَلَبَة حضورها المستمر في الوجدان الشَّعبي البَيروتيِّ حتَّى هذه اللحظة، مع قليل أو كثير من استمرار وهج البريق الواقعي لمثل هذه الشخصيَّات أو تحوير بعض ما قامت عليه من مفاهيم وصور.
1) القَبَضاي:
هو المسيطر على مجموعة من النَّاس والقادر على توجيه تحركاتهم وفاقاً لما يريد أو يقرر. ولعلَّ من الأصول التَّاريخيَّة لهذه الشَّخصيَّة، اعتماد الدَّولة على أصحابها في الإمساك بزمام أمور النَّاس في المناطق السَّكنيَّة أو بين المجموعات العاملة.
تمكن الإشارة، في هذا المجال، إلى أن لفظ «قبضاي» قد يكون مشتقاً من معاني «القبض» و«الغَلَبَة» عبر معاني الجذر (ق ب ض) في اللغة العربيَّة، ثم أضيفت إليه ملحقة «آي»، التي قد تكون سمة اصطلاحيَّة لرتبة معيَّنة أو صفة عسكريَّة أو تنظيميَّة محليَّة؛ خاصَّة وأن لفظ «آلاي»، يفيد في اللغة التَّركيَّة، معنى «فوج»، أو تنظيم جماعي، كما هو الحال، على سبيل المثال، في «أميرآلاي»، «رئيس مجموعة». يمكِّن، الاستدلال، تالياً، على أن «قبضآلاي»، وقد جرى تحريفها إلى «قبضاي»، تعني القابض على زمام مجموعة من النَّاس التَّابعين له، أو المنضوين تحت لوائه. وقد لا تكون الكلمة من صيغ الجذر (ق ب ض) العربي، كما قد يتبادر إلى الذِّهن، بل من صيغة للجذر العربي (أ ب ض) ومنه لفظة «أبض»، التي تُفيد الشَّد والإمساك والحركة.
وكيف ما دار الأمر، فالقبضاي، في الوجدان الشَّعبي البيروتي صار الرُّجل القوي المهاب الجانب المُمْسك بأمور جماعة من النَّاس؛ له عليها حق المَوْنَة ولها عليه حق النَّجدة والحماية والرِّعاية. ودخلت هذه الشَّخصيَّة الوجدان الجمعي في بيروت لتقدِّم صورة رجل صاحب نخوة متميَّزة وهمَّة متألِّقة باستمرار ورعاية لا تتوقَّف للمجموعة التي تلتف حوله وحتَّى للآخرين.
القبضاي هو النَّاصر في الصعاب والمنجِد في المُلِمَّات والقابض على زمام الأمور كيفما توجَّهت أو كانت. إنَّه ضمانة النَّاس من جهة وضمانة الآخرين، دولة كانوا أو سلطة جماعيَّة أو أي آخر كان، من جهة أُخرى. القبضاي مؤتمن على الحقوق، إلى أي جهة انتسبت؛ والمحافظ على الأصول المتوارثة والتَّقاليد المعترف بها من قبل جماهير النَّاس.
عرفت بيروت عدداً كبيراً من القبضايات، دخلوا وجدانها الشَّعبي من أعرض أبوابه، بمواقفهم المشرِّفة وأعمالهم البطوليَّة؛ كما كان لقسم منهم أن يحتل صدارة ما في الوجدان الشعبي بمحافظته على القيم الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة للجماعة ورعايتها. ومن الأمثلة على قبضايات بيروت عبيدو باشا الإنكيدار والحاج سعيد حَمَد ودرويش بيضون وعبد اللطيف النعماني (أبو طالب) ونخلة المجدلاني ومحمود الجنُّون (أبو سعيد) وعبد الغني الحلوة ورشاد قليلات. ولكلِّ واحد من هؤلاء شخصيَّة فرديَّة تميِّزه بسلوكها وتصرفاتها عن سواه من القبضايات، من دون ما تغاضٍ على الإطلاق عن ما يجمعه بهم في مجال «القبضنة»، إن جاز التَّعبير. فعبيدو باشا، على سبيل المثال، شاب من آل يموت تمتَّع بعنفوان الشَّباب وبهاء طلعته وقوة اندفاع ناسه وغيرتهم وحميَّتهم ونجدتهم للملهوف؛ أمَّا الحاج سعيد حَمَد، فقبضاي فيه رصانة الكهول وقوة شكيمتهم وتمسكِّهم بالأخلاق الحميدة وحُسْنِ معاشرة النَّاس ومؤاساتهم؛ في حين أن عبد اللطيف النعماني (أبو طالب) قبضاي بحري يجمع، إضافة إلى قدرته على الغَلَبَة على ناسه في المدينة، قدرته على تأمين عمل لكثير منهم في الميناء؛ حيث كان «أبو طالب» من أبرز رؤساء الميناء في زمنه. أمَّا رشاد قليلات، فقبضاي يهتم بناسه عن طريق صلاته بزعماء السِّياسة والأمن وسوى ذلك من عناصر القوة وعواملِ النُّفوذ في مرحلته.
ب) الجَدَع:
هو الفرد القوي الجَسَدِ صاحب الهمَّة والمروءة؛ وكان كثير من شبَّان بيروت وكهولها وحتَّى شيوخها يتحلُّون بهذه الصِّفات ويفخرون بها؛ بل كان في كل منطقة أو حي أو زاروب أكثر من «جدع» عُرِف بنخوته ومروءته. والـ«جدعنة»، إن جاز التَّعبير، لا ترتبط بالقوَّة الجسديَّة فحسب، بل هي أيضاً في قوَّة الأخلاق والقدرة في الحفاظ على مبادئ الشَّرف والكرامة والتمسُّكِ بها. ومن هنا، فـ«الجَدَع» فردٌ لا يقبل الضَّيم، ولا يرضى المهانة أو المذلَّة؛ يحمي ذاته وعِرْضَهُ من كل سوء، ولا يقبل في هذه الأمور أيَّة مساومة. ورغم أنَّ كل «قبضاي» هو بالضَّرورة «جدع»، فليس كل «جدع» «قبضاي». فالقبضنة تفترض سلطة على الجماعة وحماية لها، أمَّا «الجدعنة» فهي قدرة فرديَّة وتظل في المجال الفردي. ومن هنا، فقد كان لكل قبضاي مجموعة من الجِدعان تعمل بمشورته ورأيه وضمن حمايته. أمَّا لفظ «جدع» فلعلَّه من الجذر العربي (ق د ع)، الذي يفيد الكَف والمنع والكبح وكلها من الأمور التي كان على «الجدع» القيام بها؛ ثم لعلَّه كان، على عادة بعض اللهجات العربيَّة، ثمَّة تعطيش في لفظ حرف القاف ليُلْفَظ كما «الجيم» المصريَّة، فصار «القَدَعُ»، وهو عند العرب الفحل أو القوي، «جدعا». ومع كثرة «الجدعان» في بيروت، فإنَّ هذه الشَّخصيَّة ترسَّخت في الوجدان الشَّعبي عبر عدد كبير من الأقنعة، لدرجة بات فيها من غير الممكن التَّفاعل معها من خلال قناع فردي بحدِّ ذاته، بل إنَّ المفهوم الجمعي لها تحوَّل إلى قناع تجلببت به هذه الشَّخصيَّة؛ ومع هذا، فقد يمكن ذِكْرُ أحمد الأرناؤط (أبو مصطفى) واحداً من الجدعان الذين عرفتهم بيروت؛ ناهيك بشخصيتي «أبو النُّور» التيي قدَّمها الممثل الرَّاحل خالد قرانوح وشخصيَّة «أبو عبد» التي قدَّمها الممثل الراحل أحمد خليفة في مسلسلات تلفزيونيَّة وأفلام سينمائيَّة وبرامج إذاعيَّة.
ت) أُخت الرِّجال:
هي المرأة ذات الشَّخصيَّة القويَّة والغَيرة الاجتماعيَّة والاندفاع الإنساني التي تتجرأ على الخروج من بيتها، بداعي فقد المعيل والحامي الذُّكوريين، لتعاطي أمورٍ في مجال الشَّان العام. إنَّها المرأة التي تبزُّ بعض الرِّجال، أحياناً، بقدراتها في مجالات الشَّأن العام؛ فتُنجِد الملهوف وتنصرُ الضَّعيف والمقهور وتمدُّ المحتاج. وهي في كل هذه الأمور امرأة تثير إعجاب الرِّجال والنساء وتقديرهم واحترامهم بجرأتها وقوَّتها وحكمتها. إنَّها الوجود الأنثوي الذي يكاد يكون صنواً، في بعض المواقف، للقبضاي أو الجَدع. فتجمع النَّاس من حولها، وتقود بعض مواقفهم السياسيَّة أو الاجتماعيَّة. وقد تكون «أخت الرِّجال» صاحبة تجارة وقدرة على إدارات الأملاك والعقارات وبعض شؤون العمل؛ كما قد تكون في بعض الحالات صاحبة شخصيَّة حكيمة يستشيرها أهل عائلتها ومعارفها في أمورهم ويأخذون برأيها. ومن أشهر من عُرِفْنَ من «أخوات الرِّجال» في بيروت «الحاجة صالحة»، وكانت قابلة ولادة، و«أم زكُّور الحلبي». أمَّا تعبير «أخت الرِّجال»، فعربيٌّ فصيح سليم، إذ إن «أخت» هي مؤنَّث أخ الذي يعني الشقيق والمصاحب والملازم، وتالياً، الصُّنو. ومن هنا، فإن «أخت الرِّجال» هي المرأة القادرة على أن تكون صنواً للرجال وملازمة لهم في مجالات الشَّأن العام وقضايا العيش خارج نطاق المنزل.
ث) الزكُرت:
هو الشَّخص القوي العصبي المزاج والمَيَّال إلى التطرُُّف في تصرُّفاته؛ وبهذا الميل إلى التطرُّف وتلك العصبيَّة يختلف الزكرت عن الجَدَع. فالجدع يمتاز عن «الزكرت» بكثير من الحكمة التي لا يميل الزكرت إلى الالتزام بها. ولعلَّ لفظ زكرت من أصل سرياني يفيد معنى «الصَّغير»؛ الأمر الذي قد يفيد بأنَّ الزكرت هو الصَّغير في مجال القوة والغَلَبَة إذ يأتي قبله الجدع، الذي يمتاز عنه بشيء من الحكمة والتَّروي، وطبعاً القبضاي؛ وغالبا ما كان الزكرت في بيروت من الرجال الذين يناصرون القبضايات وينفذون تعليماتهم وتوجيهاتهم. ويذكر بعض أهل بيروت من «زكرتيَّة» مدينتهم، إن جاز التَّعبير، محمود قميرة وخضر دريان وأبو علي عيتور.
ج) الزمِّك:
هو الشَّخص الذي لا يتمتع بقوَّة جسديَّة أو مهابة اجتماعيَّة أو شخصيَّة تؤهِّله ليكون في مصاف «الزكرت» أو «الجَدَع» أو «القبضاي»؛ لكنَّه يبقى مُصِرَّاً على إثباتٍ ما لوجوده في الحياة العامَّة، عبر خدمات صغيرة أو حقيرة يقدِّمها للنَّاس. فهو، تالياً، في المراتب الأدنى من مراتب القوَّة والنفوذ في مجتمع بيروت. والزمك، على ما يبدو، لفظ عربي يعني ذَنَبُ الطَّائر، كما يعني الإنسان سريع الغضب. وكان في بيروت أشخاص عُرِفوا بشخصيَّة «الزمك» وقناعه، ولعل الحضور التَّمثيليّ الذي أشتُهِر به الممثل محمود مبسوط لشخصيَّة «فهمان» في البرامج التلفزيونيَّة لفرقة «أبو سليم»، منذ ستينات القرن العشرين، هو الأكثر تعبيراً عن الشَّخصيَّة التُّراثيَّة للـ«زمك».
ح) الشَّرشوح والشَّرشوحة:
«الشَّرْشَحَةُ»، في الأساس، مهنةُ توجُّهِ شخصٍ، ذَكَرٍ أو أُنثى، عادةً ما يكون من حُثالةِ المجتمع وسَفَلَتِهِ؛ إلى أماكن سَكَنِ بعضٍ مِن كِرام القَوْم أو مَقارِّ أعمالِهم، لِسَبِّهِم بأقذعِ الشَّتائم وإهانتهم بأبشعِ الألفاظِ والصِّفات، لقاءَ بَدَلٍ ماديٍّ ينالُهُ الشَّرشوحُ/الشَّرشوحة ممَّن استأجره/ها للقيام بهذا العمل. والذي يحصل أن الشَّرشوح أو الشَّرشوحة غالباً ما كانا ينتصران في معاركهما هذه مع النَّاس، وذلك لتجنُّبِ النَّاس المواجهةَ مع أيٍّ منهما؛ كسباً لاحترام الذَّات وترفُّعاً عن السَّفالة. ولعل أموراً كثيرة وحقوقاً عديدة اكتسبها بعضهم، جرَّاء استئجار شرشوح أو شرشوحة، لتحصيلها لهم من الآخرين. أمَّا اللَّفظة، بحد ذاتها، فلعلَّها مستعارةٌ من غير العربيَّة.
لقد غلب اسم هذه المهنة على أوباشِ القوم ورعاعهم وأراذلهم، وعامَّة من قد يزدريهم المجتمع ويأنف غالبيَّة النَّاس من مخالطتهم ومعاشرتهم أو الالتفات إليهم؛ فصار الإسم لقبا وصفة وقناعاً جَمْعِيَّاً. ومع كل هذا الاحتقار، فلقد ظلَّ الشَّرشوح والشَّرشوحة من الشَّخصيَّات الموجودة في الوجدان الشَّعبي.
________
*رئيس المركز الثقافي الإسلامي