الشخصية التراثيَّة في الوجدان البيروتي (4) .. الشخصيَّة التُّراثيَّة في مجالات التَّراتُب الاجتماعي

الدكتور وجيه فانوس*

شكَّل مجتمع بيروت، المنبثق من جذور الميناء القائمة في وجودها العملي على حسن التنظيم وأساسيَّة المعرفة وضرورة النجاح، بؤرة لبروز لافت لقِيم السَّلطة وضرورة احترام معايير التَّراتُب الاجتماعي والمعرفي بين النَّاس. ومن هنا تجلَّت الشَّخصيَّة الشَّعبيَّة من خلال ترسيمة تراعي هذا التَّراتب في كلِّ أبعاده وتحافِظ عليها. إنَّها ترسيمة تأخذ بعين الاعتبار السلطة والنفوذ والمعرفة ناهيك بالحكمة وحسن التصرُّف واستيعاب الأحوال.

أ) الباشا:

«الباشا»، أساساً، لقب تركي، يعني الكبير أو العظيم، يمنح من اسطمبول؛ وغالبا ما كان يحصل عليه الوزراء والقوَّاد ومن قام بأعمال مجيدة في خدمة السَّلطنة أو تفوَّق بين قومه في الولاء لها إلى درجة لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها. وقد يكون الحصول على اللقب، في بعض المرَّات، لقاء بذل مالي يقدِّمه طالب اللقب لأُولي الأمر في الدَّولة. ولم يكن عدد «الباشوات» من أبناء بيروت كثيراً، بل إن قلَّة قليلة من ناسها نالوا هذه الحظوة من السَّلطنة العثمانيَّة. ولعلَّ من بين أبرز هؤلاء الباشوات الذين يمكن أن يشكِّل الواحد منهم قناعاً للشَّخصيَّة سعد الدِّين باشا شاتيلا وعلي باشا طبَّاره وحسن باشا المخزومي. ولذا، فقليلاً ما دخلت شخصيَّة «الباشا» الوجدان الشَّعبي البيروتي أو أثَّرت فيه؛ فظلَّت شخصيَّة «الباشا» قابعة في برج عاجي، إلى قام النَّاس بإطلاق اللقب على بعض من كان يتعاظم أمامهم بأعماله أو صفاته أو على من يريدون هم تعظيمه، إمَّا على سبيل الحقيقة أو المداعبة أو حتَّى الهزء، على حدٍّ سواء. 

ب) البِيك:

«البيك» في الأصل لقب كانت تمنحه السَّلطنة العثمانيَّة للمبرزين من رجالاتها؛ وجرى العرف عند أهل بيروت على إطلاق هذا اللقب على من كان له نفوذ سياسي، وخاصة في مجال التعامل مع السُّلطة السياسيَّة، من أهل بيروت. فكلُّ زعيم سياسي نافذ هو «بيك» عند أهل بيروت. ومن هنا، فقد صار «البيك» في الوجدان الشَّعبي البيروتي القادر على النَّفاذ بمطالب أهل المدينة إلى السَّلطة السياسيَّة الحاكمة وتحقيق هذه المطالب على اختلافها وتنوُّعها. وبات، بهذا، معظم رجالات السياسة الكبار في بيروت يمثلون شخصيَّة البيك ويقدِّمون قناعاً له في الوجدان الشَّعبي. ثمَّ درج بعض البيروتيين على إطلاق البكويَّة على كل من يريدون التقرُّب منه من أهل المال والجاه والنفوذ. ولعلَّ من أبرز من يمثل شخصيَّة البيك وحضوره في الوجدان التراثي البيروتي رياض بك الصُّلح وسامي بك الصُّلح ناهيك بصائب بك سلام. والجدير ذكره، أن واحداً فقط، ممن كانوا يحوزون مؤهلات شخصيَّة البيك ونفوذها السياسي والمالي، قد درج النَّاس في بيروت على إعطائه لقب «خواجه» مرادفاً لقناع البيك، هو الخواجه هنري فرعون؛ ولعلَّ في كون هنري فرعون مسيحيَّاً من بيروت ما قد يفسِّر اختصاصه بهذا اللقب، خاصَّة وأن البيارتة اعتادوا شخص «الخواجه» موازيَّاً لشخصيَّة «المعلِّم» في مجال العمل؛ وهنري فرعون نفسه كان رجل أعمال ومال وسياسة ونفوذ في الوقت عينه!

ت) الأفندي:

هو لقب تركي في الأصل، يفيد معنَى «السيِّد» أو «صاحب السيَّادة». وجرى العُرف الاجتماعي التَّركي على إطلاق هذا اللقب على من يتمتَّع بسيادة كبيرة في المجتمع؛ وشملت شخصيَّة «الأفندي»، بهذا المفهوم، كل من تبوَّأ منصباً حكوميَّاً بارزاً أو أي منصب اجتماعيٍّ مرموق. ولقد عُرِفُ بعض المفتين بـ«الأفندي» مثل مفتيي بيروت الشَّيخ مصطفى أفندي نجا والشَّيخ توفيق أفندي خالد. وتوسَّع الوجدان الشَّعبي في بيروت في مفهومه لشخصيَّة الأفندي حتَّى أصبح كلُّ رجلٍ يُوحي للنَّاس ببعض احترام «أفنديَّا»؛ بل إنَّ المرأة كانت إذا ما تحدَّثت عن زوجها أمام النَّاس عرَّفت عنه بأنَّه «الأفندي»؛ كما بات «الأفندي» لازمة لكلِّ شخص له حظٌ من التَّعليم أو المقام الاجتماعي. ومن جهة أخرى، فقد اُعتُبِر وكأنَّ «الأفندي» لازمةٌ لا بدَّ منها لرجال الشُّرطة، حتَّى بات كلُّ شُرطيٍّ يُعْرَف – «الأفندي». ولذا، فليس ثمَّة قِناع فرديٍّ مُمَيَّزٍ لهذه الشَّخصيَّة التي شهِدت توسُّعات جمَّة في ناسِها؛ فاتَّخذت، لكثرة أشخاصها، قناعاً جَمْعِيَّا شكَّله المفهوم الشَّعبي للـ«أفنديَّة» قوامه السِّيادة، بغضِّ النَّظرِ عن كونها سيادة مرموقة أو اعتياديَّة.

ث) الآغا:

لعلَّ شخصيَّة الآغا سابقة لشخصيَّة الأفندي في التَّاريخ الزَّمني؛ والآغا لفظ غير عربي يعني، كما الأفندي، السيِّد أو صاحب سيادة، لكنَّها سيادة إقطاعيَّة. ويبدو أن الأغوات لم يكونوا في بيروت كُثُراً، خلافا لما كانوا عليه في مناطق أخرى مثل عكّار وسواها، باعتبار أن ما من إقطاع حقيقي عرفته بيروت. وكيفما دار الأمر، فـ«الآغا» وارث لثروة وسلطة وزعامة أو مستحق لها بـ«فَرَمانٍ» ما. ويبدو أن هذه الشَّخصيَّة لم تكن من صلب التراث البيروتي بقدر ما كان بعض ناس بيروت يعتمدونها على سبيل مضاهاة ناس المناطق الأخرى؛ باعتبار أنَّ بيروت. ولذا، فإنَّ بيروت قلَّ أن عرفت آغا «أصيل»، إن جاز التَّعبير؛ لكن بعض البيارتة كان يميل إلى إطلاقِ لقب آغا على بعض من يرغب في تكريمه أو إظهار احترام مُتَمَيِّز له. 

ج) الأستاذ:

هو المُتَعلِّمُ صاحبُ الشَّهادةِ الرَّسميَّةِ الصَّادرةِ عن مرجعيَّاتٍ علميَّةٍ مَرموقة. ولفظةُ «أستاذ» فارسيَّة الأصلِّ تبناها الوجدان الشَّعبي البيروتي ليطلقها على المتعلمين بشكل عام. وغلبت هذه الشَّخصيَّة على كلُّ من يمارس التَّدريس أو المحاماة، حتَّى كادت تحلُّ مكان أي لقب آخر في هذا المجال. ومن جهة أخرى، فقد مال الوجدان الشَّعبي البيروتي إلى اعتماد هذه الشَّخصيَّة لعلماء الدِّين، وكثرٌ هم المشايخ المسلمين الذين عُرِفوا في بيروت بـ«الأستاذ»، بل إن جلَّ الرَّعيل الذي عاش في القرن العشرين كان يعرف بـ«فضيلة الأستاذ» أو «الأستاذ»، ولعلَّ من أشهرهم فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد عبَّاس وفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى الغلاييني. وما برحت شخصيَّة الأستاذ، صاحب الشهادة العِلميَّة، قائمة حتَّى اليوم في الحياة اليوميَّة في بيروت. 

ح) الحَاج:

هو في الأساس من حجَّ إلى الأماكن المقدَّسة، ومن اسمه نقولا؛ لكن شخصيَّة «الحاج»، أو كما يلفظها معظم البيارتة «الحَجّ»، بإسقاط المَدِّ الصَّوتيِّ بالألف، في الوجدان الشَّعبي البيروتي تمركزت حول مفهوم الرُّجل الكَهل الهُمام في مجال فعل الخير ونجدة الملهوف وفضِّ النِّزاعات اليوميَّة بين ناسه وأهله. فالـ«حجُّ» شخصيَّة أساس في المجتمع البيروتي، لا تكتمل الصورة الاجتماعيَّة من دونها؛ إذ لولا هذه الشَّخصيَّة لتضاعفت النِّزاعات اليوميَّة والمآسي الاجتماعيَّة حتَّى باتت هذه المآسي فواجع وتلك النِّزاعات قضايا كبرى تؤرق المجتمع وتقضُّ من مضجعه. «الحج» حلال المشاكل، وقاضي الصُّلح المحبوب الجانب قبل أن يكون مرهوبه، والإنسان صاحب المَوْنَة على جميع أهل بيته وعائلته وحيِّه، إنَّه ساتر الهفوات والمقدَّم في الاجتماعات، وجيه جماعته من غير ما زعامة وسلطة. وكثُرٌ هم مَنْ تلبَّسوا هذه الشَّخصيَّة التُّراثيَّة وألبسوها من ذواتِهم؛ لكن يبقىالحج سعيد حمَد، على كونِهِ من أبرز قبضايات بيروت، واحداً من أروع أقنعة شخصيَّة «الحجِّ» في وجدان ناسها؛ لدرجة أنَّه لا يمكن لبيروتي، حتَّى اليوم، أن يلفظ اسم الحاج سعيد حَمَد عارياً من لفظة «حج».

________

* رئيس المركز الثقافي الإسلامي

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website