كان يلقب “شانزيليزيه” الشرق.. شارع الحمراء المحتضر يعج بالمتسولين بدلاً من المتسوقين!

زياد سامي عيتاني*

هل إحتضر شارع “الحمراء”!؟ أم أنه على وشك!؟

سؤال يراود كلّ من عاش العصر الذهبي والفترة المشرقة لشارع “الحمراء”، الذي كان من أهم الشوارع اللبنانية المفعمة بالحياة، ويجمع تناقضات قد لا تكون موجودة حتى في أرقى شوارع أوروبا، حيث كان المكان الذي يتجمع فيه المثقفون والأدباء والسياسيون، وهو المكان الذي تعطى فيه المواعيد بين كل تلك الشخصيات التي أثرت مكتبات العرب بمؤلفاتها ومقالاتها وكتبها السياسية والأيديولوجية، كيف لا وقد كتب فيه نزار قباني قصيدته المعروفة “بيروت والحب والمطر”، وكان جورج حبش الزعيم اليساري المعروف في لقاء متواصل برفاقه لكتابة البيانات وتصدير المواقف، ومحمود درويش الذي عشق المكان، وصوت فيروز الذي لم ينقطع يوماً…

نادراً ما إكتسب شارع من الشوارع تلك الشهرة الواسعة التي إكتسبها شارع “الحمراء” في بيروت، فمنذ خمسينيات القرن الماضي بدأ هذا الشارع في النمو التدريجي والتحوّل شيئاً فشيئاً إلى رمز لحيوية المدينة وإنفتاحها المتصاعد على روح العصر وثقافاته وقيمه.

لقد إستطاع شارع “الحمراء” أن يصبح خلال عقدي الستينيات والسبعينيات إختزالاً رمزياً لكل ما طمحت بيروت إلى تحقيقه.

ولأنه الشارع الوحيد في بيروت الذي يمتد بشكل مستقيم لأكثر من كيلومتر ونصف، فقد أتاحت له جغرافيته المنبسطة أن يجمع على جانبيه العدد الأكبر من المحال التجارية التي تتلقف آخر صيحات الحداثة، ومن المطاعم والملاهي ودور السينما ومقاهي الرصيف التي عبّرت بجلاء عن إتساع هامش الحرية في المدينة التي أصبحت بإمتياز لؤلؤة الشرق ومنارته.

فمن منا لم يمر بشارع “الحمراء” في أوجّه، ولم يتبادل معه حكاية، ومن لم يكن هذا الشارع جزءاً من فضائه وعالمه؟ فعلى طرفي الشارع تنتشر مقاهي الرصيف، وتنتصب منصات كبريات الصحف، وتتوزع أرقى المسارح وصالات العرض، ويزدهر الإقتصاد، وتتكاثر المهن والأصناف، وفيه إنفجرت ثورات ومظاهرات وأعلنت هزائم وهللت انتصارات…

في شوارع “الحمراء” كنت تجد مواكب الحزن والسعادة، ويخرج الأفراد للاحتجاج أو للاحتفال وقبلها بحثاً عن لقمة العيش، خاسرون أو رابحون، كما كنت تجد الغني والفقير، السعيد والحزين، الفنان والعامل، إبن البلد والغريب، الحاكم والمحكوم…

وكانت مقاهي “هورس شو” وكافيه “de Paris” و”مودكا” و”الويمبي”، تعدّ الأشهر على الاطلاق، التي كانت ملتقى ومنتدى المثقفين والكتاب والأدباء والفنانين، حيث فيها ومنها كانت البداية، بداية الفنّ والمسرح والسينما والتلفزيون اللبناني، وفي مقاهي الرصيف ومطاعمها كانت تحاك العلاقات الاجتماعية وتولد عناوين الصحف السياسية والفنية، إنه نتاج للثقافات المتناقضة والأفكار السياسية. كما أمكن لمسرح “البيكاديللي” الشهير أن يستضيف المسرح الغنائي الرحباني وصوت فيروز الماسي في غير عمل من الأعمال، إضافة إلى الكثير من فناني العالم ومبدعيه…

من يمرّ في شارع الحمرا في بيروت يشعر بغصة في صدره، وتتخبط فيه مشاعر الحزن والغضب، الحزن على ما آلت إليه حال شارع كان قلب بيروت النابض بالحياة، والغضب على من امتصوا دماء المدينة وتركوا قلبها يجفّ متأرجحاً بين الحياة والموت.

لقد هجرته ضحكة الأيام الماضية، سكنته وجوه كالحة وإفترشت أرصفته أجساد يائسة. تجاره، روّاده، مثقّفوه، مقاهيه، مطاعمه ومؤسساته لبست ثوب الرحيل والهم والفقر..

مقاهي العز أقفلت أبوابها، متاجر غابت أسماؤها وأسدلت ستائر واجهاتها، مصارف إتشحت بالحديد وجدران إكتست بكتابات تداخلت أحرفها بين المطالب والشتائم. غابت “عجقة السير” المعهودة عن وسط الشارع، وغابت معها الزمامير الغاضبة، المتسولون تضاعفت أعدادهم عشرات المرات إحتلوا الأمكنة وباتوا أكثر من المتسوقين!

مؤسف، حزين، مهمل ومتروك شارع “الحمراء” اليوم!

لم يعد هناك شيء اسمه شارع “الحمراء”، باتت “الحمراء” ضاحية من الضواحي “المريّفة”(!) لمدينة لم تعد موجودة، وصارت بدورها ريفاً!

شارع “الحمراء” الذي فقد مقوماته وخاصيّته وتنوعه وناسه وهويته… لم يبق منه إلا بعض أشلاء الذكريات والمرارة والأسى!

لم تعد “الحمراء” إستثناءاً، صارت كأي منطقة ثانية غاب عنها التنوع الخارجي، لا أجانب، لا عرب، لا اقتصاديون، لا مثقفون ولا ناس في شوارعها!!!هي اليوم.. تتلقى الضربة القاضية بعد مسار طويل من الإحتضار، تخيم عليها اليوم حالة من الخوف، الناس في المقاهي باتت تخشى الكلام خوفاً من تهديد غير مرئي مثل الأنظمة الديكتاتورية، الأجانب العرب يخشون المجيء بعدما تقطعت أوصال لبنان وفقد نتيجة سياسات ميليشيوية معروفة صلاته مع الخارج!

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراث بيروت.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website