بيروت في محنتها وعزلتها تتحسر على رجالاتها زمن النخوة والمروءة!

مجلس قبضايات بيروت في صورة من الأربعينات. من اليمين: راشد دوغان ـ خضر دريان ـ أبو فيصل شاتيلا ـ رشاد قليلات ـ حنا يزبك ـ أبو عفيف كريدية.
زياد سامي عيتاني*

بيروت.. في زمن هذا البلاء، الذي وقعه على أبنائها أشد وطأة من الوباء، تتحسر وهي تستذكر رجالاتها الرجال، زمن النخوة والنخبة، زمن المروءة والشهامة، التي كانت ثمة ومناقب رجالات بيروت من وجهائها وأغنيائها وقبضاياتها والنافذين فيها، وزعماء الأحياء الشعبية، الذين كانوا يغارون على أبناء مدينتهم وأحيائها، ويقفون إلى جانبهم في السراء والضراء، دون حاجة لإعلاء الصوت، أو حتى الإستنجاد والإستغاثة…

يومها كانوا يهبون لنجدة أهلها وناسها وأبنائها في أوقات المحن والمصاعب، ويقيفون إلى جانبهم عند الشدائد و”غدرات الزمن”…

في ذلك الزمن الغابر كانوا يناصرون المظلوم ويحقون الحق لصاحبه، ويردون الأذى عن الضعيف، ويقضون حاجة المحتاج بصمت، مع المحافظة على كرامتهم وعزة نفسهم…

كان كل واحد منهم “كساب وهاب”، “يللّي بجيبتهم لغيرهم”، ما كان “يهين” عليهم ينام إبن محلتهم جوعان، “كانوا يقسمون اللقمة بينهم وبين جيرانهم”، عملاً بالمثل: “بحصة بتسد خابية”، والمثل الآخر: ” إذا جارك بخير، أنت بخير”…

كان قبضاي الحي أو النافذ فيه “ياخد من الغني ليعطي الفقير”، وذلك على قاعدة “الساعي للخير كفاعله”، و إذا عرف “بعيلة مستورة” بمنطقته، كان يضع طربوشه (الذي لا ينزعه عن رأسه) على الطاولة بالقهوة، حتى كل واحد يوضع فيه “إللّي في النصيب”، دون أن يسأل أحد عن هوية المحتاج، فيشتري كل ما يحتاجه البيت ويضعها في صندوق، وينتظر حتى يحل الظلام، فيرسل “الصباي” (صبيه) إلى بيت تلك العائلة، ويطلب منه أن يضعها على باب البيت، ثم يضق عليه ويفر مسرعاً، حتى لا تعلم تلك العائلة من الذي تصدق عليها، حفاظاً على مشاعرها وكرامتها….

وإذا ما جاءته أرملة تشكو من خلف “الفيشة” التي تغطي وجهها، سوء حالها وأوضاعها، بعد وفاة زوجها، وأن لا معين لها ولأطفالها؛ أجابها دون أن تكمل حديثها، وهو ينظر إلى الأرض إحتراماً وتأدباً: “إعذريني يا أختي على التقصير، حقك علينا، يا حيف على الرجال… إرجعي على بيتك يا حرمة، وما تعطلي هم شي، لح تعيشي أنت وأولادك معززة ومكرمة، كل شي بتحتاجيه لح يوصلك على باب البيت، أنت أختنا، وأولادك أولادنا”…

بيروت في زمن الخسة والمهانة والخنوع، كم تتحسر بلهفة على قباضايات الرجولة والشهامة والشكيمة، كم تتحسر بمرارة وحزن على عكيف السبع، وأبو طالب النعماني، وراشد دوغان، ونقولا مراد، وعبيدو الأنكدار، ونخلة العربانة، وأبو عبد الغفار عيتاني، وحسين سجعان، ومصطفى علوان، ورشاد قليلات، وأحمد البواب، وأبو السعد مجداني، والكثير الكثير ممن كانوا خير سند ومعين للضعيف والفقير…

أما الوجهاء والأغنياء، فكانوا كل خميس من ليلة الجمعة يتداعون ويلتئمون في بيت أحدهم بحضور إمام جامع المحلة ومخاتيرها بعد صلاة العشاء ليتباحثوا بشؤون منطقتهم وأوضاع أهلها المعيشية والحياتية، وذلك عملاً بالقاعدة القرآنية: “وتعاونوا على البر والتقوى”، وكيف يمكن مساعدتهم من “صندوق المنطقة”، الذي يكون في عهدة “شيخ الجامع”، لا سيما في المواسم والمناسبات كبداية فصل الدراسة، ووقت كسوة الشتاء والصيف، وشهر رمضان المبارك، والأعياد؛ فيضعون جدول أولويات لمد يد العون والمساعدة للعائلات المحتاجة، لتمكينها من التغلب على سوء ظروفها الصعبة، لأن “الجار للجار” و”النبي وصى بسابع جار”، فإذا المال في الصندوق غير كافٍ، بادروا دون تردد إلى إيداع مما أعطاهم الرزاق الكريم من ماله، لينفقوا منه على مستحقيه ممن تجوز عليهم الصدقة، لأنهم كانوا خيرين ويؤمنون: “أن حسنة قليلة بتدفع بلاوي كتيرة” و”أن الإنسان يعرف أصله من فعله”…

فأين أغنياء والنافذين والمقتدرين والمتخمين من أبناء جلدهم في الزمن الموبوء أخلاقياً و”كورونياً”!؟ أين هم من أسلافهم الصالحين والخيرين والمقدامين من أصحاب المبادرات الإنسانية والأيادي البيضاء والعطاءات دون حساب ودون “عراضات” ترويجية-إستعراضية!؟

أين أنتم من خصال وأخلاق وحمائد أبو علي سلام، وعمر الداعوق، وعبد الفتاح حمادة،ومحمد جميل بيهم، ومحمد جميل الداعوق، ومحمد عمر نجا، ومحمد فاخوري، ومحمد توفيق الهبري، محمد توفيق خالد، وسعد الله شاتيلا، وغيرهم الكثيري ممن تذكر أعمالهم فتشكر!؟

ما أحوجك يا بيروت يا أميرة الحزن والدمع والحسرة، ما أحوجك في زمن اليتم والغُربة، في زمن الجوع والعوز الممزوجان بالكبرياء والعنفوان، ما أحوجك إلى أمثال تلك الكوكبة من عظماء رجالاتك الأبرار الذين بمالهم وإقدامهم وكرمهم وسخائهم نسجوا التكافل والتعاضد بين أهلهم وناسهم، فساد الإكتفاء وحفظت الكرامات…

ما أحوجك يا بيروت إلى أخلاقهم وأفعالهم، يوم لم تكن تدري يمينهم ما تعطي شمالهم، يوم كانوا يسلكون نهج مكارم الأخلاق ويقتضون به فعلاً وعملاً وليس قولاً، يوم كانوا يبذلون المعروف لأهله ولمستحقيه، عملاً بقول النبي صلّ الله عليه وسلم : “إرحموا عزيزاً ذلّ ، وغنياً إفتقر ، وعالم ضاع بين جهال”…

أما اليوم، فأدق توصيف لحال بيروت والبيارتة، ماقاله عمر الزعني منذ عقود من الزمن:

يا ضيعانك يا بيروت..

يامناظر غشاشة،

ياخداعة وغشاشة،

ياعروس بخشاشة،

يا مصمودي بالتابوت،

الجهال حاكمين،

والزعران عايمين،

والأنذال عايشين،

والأوادم عما تموت،

الغريب بيتمخطر،

والقريب بيتمرمر،

واللي بيفوت ما بيظهر،

واللي بيظهر ما بيفوت،

ياضيعانك يا بيروت…

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website