التياترو الكبير” أسطورة مسارح بيروت، صنعت تاريخه الزاهي شخصيات وفرق فنية لبنانية وعربية وعالمية، ممن مروا على خشبته المخملية الراقية ليدونوا أسماءهم بأحرف مذهبة.
مسرح الإنفتاح الثقافي:
هو نفسه “المسرح الكبير” (Le grand théâtre) أو “الغران تياتر” باللهجة اللبنانية المحكية ذات اللكنة البيروتية الذي بني ليكون للعاصمة صرحاً مسرحياً بمواصفات عالمية بعدما كانت تفتقده من ذي قبل، إلا إذا إستثنينا مسرح “الكريستال” غربي ساحة “الشهداء”، الذي بني في بدايات عشرينات القرن الماضي على طراز المسارح الأوروبية، ليتحول “التياترو” مسرح الإختلاط المديني، مرسخاً الطبقة اللبنانية الأرستقراطية وإنفتاحها على حركة الثقافة والفن الطليعي التي كان المسرح في متنها. “التيارو الكبير” صلة أعمق وأكثر إرتباطاً بذلك الرونق التاريخي الذي مضى، من خلال ما قدمه من أيقونات فنية خلدتها حفلات أم كلثوم وعبد الوهاب ويوسف بك وهبي وفايزة أحمد ونور الهدى وصصباح وفيروز وفرق المسرح العربية والغربية، التي كانت كافية لإشغال مساحته المتصدرة وربطها بذلك المزاج الأرستقراطي الفني المديني…
لقد كان “التياترو الكبير” أفخم مسارح بيروت في حقبة الثلاثينات، يوم كانت بيروت ست الدنيا ودرة الشرق ولؤلؤة المتوسط، حيث إعتبر “التياترو الكبير” جوهرتها المشعة فناً وثقافة وتراثاً، فضلاً عن كونه تحفة معمارية.
كل الرومانسيين العابرين بجانب “التياترو” ممن عاصر ذلك الزمن، زمن العز، زمن بيروت الثقافة والفن والإبداع والأدب والمسرح وهو يمر بالقرب من ذلك المبنى الثراثي المسيج والتي جبلت حجارته عشقاً وشغفاً بهذه المدينة العظيمة بفنونها وجنونها وتناقضاتها المتناسقة، لا بد له أن يتنهد وهو يشاهد واجهاته الصامتة، ويتحسر بمرارة على ذلك الزمن الذي كان “التياترو الكبير” ينشد نشيد الحياة لمدينة الحياة…
من مستودع إلى صرح مسرحي
ففي العام ١٩٢٧ إبان الإنتداب الفرنسي قام جاك تابت، هاوي الأدب والشعر الفرنسي، الثري وصاحب النفوذ السياسي آنذاك، وبمبادرة فردية ببناء ” الغران تياتر” في عمق شارع “الأمير بشير” غربي ساحة “البرج” بين بناية اللعزارية وساحة “رياض الصلح”، متقدماً قليلاً على خط شارع المعرض المستقيم، بعدما كان مستودعاً للزوارق يمتلكه أبو عبد الله الشرقاوي، قبل أن يشتريه تابت الذي ساءه إفتقار بيروت إلى مسرح بمواصفات عالمية.فكان له ما أراد من فضاء مسرحي، تهيأ ليكون إضافة إلى خشبة للعروض والحفلات، معهداً مسرحياً متكاملاً بمحترفاته المخصصة للتدريب وبمسارحه الإختبارية، بفضل قاعاته الفسيحة المختلفة.
يذكر أنه عندما أراد الفرنسيون شق طريق يمتد من مرفأ بيروت إلى محلة الحرج وضعوا في إعتبارهم إزالة “التياترو”، إلا أن ذلك لم يحدث نظراً لما كان يتمتع به تابت من نفوذ سياسي كما أسلفنا، فلم يجرؤ أحد على هدم “الغران تيانر” أو تعديل بنائه، فإستحال بسببه أمر إمتداد شارع المعرض إلى جادة الحرج.
التصميم والتجهيز
أهمية مبنى “الغران تياتر” توازي من الناحية هندسته المعمارية وأهميته التاريخية والتراثة أهمية مبنيي “البرلمان” و”بلدية بيروت”، لأنهما شيدا في الفترة التاريخية وفسها. فهذه المباني غيرت معالم وملامح المدينة المستمرة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.
فالقيمة الجمالية لمبنى “التياترو” تكمن في أنها تحمل لغة ذلك العصر البيروتي، إذ تدمج الإسلامي بالمحلي والاربي، وهو من أوائل المباني التي صممها معماريون لبنانيون، ناهيك بقيمته المعمارية التراثية، إذ صممه وبناه يوسف بك أفتيموس، وهو من كبار المعماريين مطلع القرن العشرين، وشغل منصب وزير الأشغال في حكومة الإنتداب الفرسي، وهو نفسه الذي برج “الحميدية” في السراي الكبير ومبنى بلدية بيروت ومبنى “بركات” على تقاطع السوديكو والذي أعيد ترميه وأطلق عليه “بيت بيروت” ليكون متحفاً لذاكرة بيروت!
شيد مبنى “الغران تياتر” من ثلاث طبقات تعلوها قبة كانت تفتح وتغلق على الكهرباء للتهوئة. وتميز المسرح بكونه دائرياً يشبه في هندسته المسارح اللندنية القديمة، لطالما شُبّه بـدور الأوبرا اللندنية وب “غارنييه” في باريس، أما مقاعده الـ 706 الحمراء الشهيرة، فكانت تشبه إلى حد كبير مسرح “الأوبرا” في فرنسا، وتميز “التياترو” ببهوه الفسيح الذي يتفرع منه درجان عريضان يؤديان إلى مقصوراته الفخمة وغرف الممثلين الفسيحة، كما تميز في مدخله الخارجي بالزخرفة والزينة، وقد علته قنطرة منقوشة وأربع قناطر صغيرة تزيّن الواجهة الخارجية، أما ديكوره الداخلي فغلبت عليه البساطة. وكانت التقنيات فيه تتطابق مع المواصفات العالمية في ذاك الوقت، إذ كان مجهزاً تقنيات صوتية مدروسة، فيصل الصوت بوضوح إلى مشاهد آخر الصالة، كذلك كانت تقنياته الضوئية تضفي على الديكور أجواء رائعة.
قصد من جعل مدخل “التياترو”عند زاويته الشرقية ليواجه “ساحة البرج”، أما الداخل المسرحي فكان حرصٌ بأن يكون الأغنى بين جميع مسارح بيروت التي سبقته أو جايلته بما فيها مسرح “الكريستال”، في حين أن “الحفرة الأوروكسترالية” وضعت ليكون بمقدورها إستيعاب أكبر الفرق الموسيقية، بدورها خشبته المسرحية تميزت بالعمق والإمتداد إلى كواليس رحبة خلف الستارة. كما ضم قاعة كبرى منحنية حول خشبته على إرتفاع طابقين مع مقصورات تطل على المسرح. وكانت إحدى هذه المقصورات مخصصة لجاك تابت مالك المسرح وضيوفه ومدعوويه لمشاهدة العروض المسرحية والغنائية والموسيقية، مع ضرورة الإشارة إلى أن تلك المقصورة كانت تضم رسوم مزركشات مرسومة بماء الذهب، في حين أن مقاعدها ومساندها كانت مخملية متناسقة مع فخامة الديكور.
أما الطوابق العليا من مبناه فكانت تستخدم إما كفندق صغير أو شقق للإيجار. ومع تطور متطلبات المسارح لجهة وضع التقنيات المتطورة والمطلوبة لإقامة حفلات كبيرة ومهمة، ونظراً لصعوبة تطوير “التياترو وفقاً للمعايير الحديثة لتلك الحقبة، تم تحويله إلى سينما سنة ١٩٤٠، بعدما كان حاضناً وشاهداً للعصر الذهبي من العروض المسرحية والحفلات الغنائية والموسيقية والإستعراضية التي كانت تنبض بها بيروت أيام العز الخوالي، يوم لم يكن رواده يقتصر على الجمهور اللبناني، بل كان العرب والأجانب يحضرون خصيصاً إلى لبنان للسهر مع نجومهم المفضلين.
العروض المسرحية المصرية
عميد المسرح يوسف وهبي ممن تركوا بصمات كبيرة في حنايا “التياترو الكبير” من خلال ما قدمه من مسرحيات عدة مع فرقته، بينها :”كرسي الإعتراف” و”أولاد الفقراء” و”القبلة القاتلة”.
وفي كرسي الإعتراف لعب وهبي شخصية “الكاردينال”، فتهافت الرهبان إلى الكواليس بعد العرض لتهنئته ببراعة الدور الذي قدمه، علماً أنه كان سبق له أن نال عن هذا الدور وساماً من الفاتيكان.
كذلك شهد التياترو عروضاً للفرقة القومية المصرية للمسرح وكان من بين ممثليها أمينة رزق وحسين رياض وفؤاد شفيق. ويحكى أن الممثل حسين رياض تعرض ذات ليلة لوعكة صحية فإستيدل بأخيه فؤاد الذي كان إشتهر بأدواره الكوميدية، فأدى دور أخيه بإتقان، مما لفت الأنظار بأنه قيمة تمثيلية لا تقل أهمية عن شقيقه حسين.
ومن اللواتي برعن على خشبة التياترو الكبير الفنانة فاطمة رشدي “صديقة الطلبة” التي كان لها محطات بارزة مع فرقة عزيز عيد اللبناني الأصل الذيي تزوجته في وقت لاحق، لتنفصل عنه بعد حين.
بدورهما نجيب الريحاني وجورج أبيض بإن أعمالهما كانت من العروض التي حظيت بحمال منقع النظير عند جمهور التياترو، حيث أن أعمالهما لم تكن أقل أهمية من أعمال يوسف وهبي.
وبرز الفنان أمين عطا الله الملقب ب “كشكش بك” كأبرز الممثلين الكوميديين الذي قدموا العروض الضاحكة على مسرح التياترو، سيما وأنه في حينه كان يعتبر الشخصية الكوميدية الأبرز في الوطن ابعربي على الإطلاق.
يتبع…
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.