عروض لبنانية متنوعة
إلى جانب العروض المسرحية المصرية، فقد كان “التياترو الكبير” يستقبل عروضاً مسرحية لبنانية، التي كانت بدورها تجتذب جمهوراً كبيراً أيضاً، مثل فرقة “أسرة بيروت” التي كان من أبرز ممثليها الفنان والأديب والمربي محمد شامل.
كذلك قُدمت على خشبة “الغران تياتر” عروض موسيقية ذات طابع أوبيرالي وسيمفوني قدمها مدير “الكونسرفتوار” في حينه جورج فرح، برعاية رئيس الجمهورية آنذاك أوب تابت.
وكانت لفنان الشعب عمر الزعني صولات وجولات في رحاب “التياترو الكبير” حيث قدم على خشبته أغانيه الإنتقادية- الساخرة التي كانت تحاكي الواقع السياسي والإجتماعي بأسلوبه المضحك المبكي، مما عرضه لكثير من العواقب من توقيف وإعتقال ومحاكمة من قبل السلطة وأجهزتها.
صالة العروض السينمائية
لم يقتصر “التياتر الكبير” على إستقبال العروض المسرحية والإتستعراضية المحلية والعربية والعالمية، وحفلات عمالقة الغناء العربي، بل توجت تلك الصالة أيضا كأعرق الصالات السينمائية في لبنان والشرق الأوسط، زمن أفلام الأبيض والأسود. ففي “التياترو” عرض أول فيلم ناطق باللغة العربية، وهو “الوردة البيضاء” للموسيقار محمد عبد الوهاب، وعلى تلك الخشبة عرض الفيلم العالمي “ذهب مع الريح” لكلارك غايبل فإلى غيره من الأفلام ذات الشهرة الواسعة.
أول فلم ناطق:
ولا بد من الإشارة في هذا السياق أنه في ذلك الحين لم تكن صالات السينما في بيروت مجهزة تقنياً وفنياً لإستقبال الأفلام الناطقة، لذلك إعتبر إستقدام “التياترو” آلات العرض الحديثة تقرأ الأفلام الناطقة إعتبر حدثاً إستثنائياً، خصوصاً وأن إدارة “التياترو” روجت لهذا الحدث بنشر إعلان في الصحف المحلية مرفق بعبارة (100% Parland). كما كانت شاشة “التياترو” أول صالة في لبنان تعرض ما عرف ب “الجريدة السينمائية” أي عرض نشرة أخبار مصورة قبيل تقديم الفلم المرتقب، وكانت في حينه مقتصرة على الأخبار المتعلقة بالإنتداب الفرنسي.
وتميزت شاشة “التياترو” بتقديم العرض الأول لفلم “غادة الصحراء” عام ١٩٢٩ لآسيا داغر، ثم فلم “أنشودة الفؤاد” في العام ١٩٣٢ للمطربة نادرة الملقبة ب “أميرة الطرب” إلى جانب الفنان جورج أبيض.
وبالعودة لفيلم “الوردة البيضاء” الناطق الذي عرض سنة ١٩٣٣، فهو العمل السينمائي الأول لمحمد عبد الوهاب، الذي تضمن أغانٍ من نظم الأخطل الصغير. ويذكر وقتها أنه وبسبب الإقبال الجماهيري الكبير على صالة “التياترو” لمشاهدة الفلم. تم تمديد عرضه أكثر من مرة.
وتوال بعد ذلك عرض الأفلام السينمائية، ومنها: “بلبل أفندي” لفريد الأطرش وصباح من إخراج حسين فوزي، كما توالت العروض الأجتبية المميزة حتى العام ١٩٧٥، لتستدل الستارة عن خشبة مسرحه وتنطفئ شاشته.
تدشين “التياترو الكبير” العريق عام ١٩٢٩ كان حدثاً مميزاً وإستثنائياً في تاريخ بيروت الثقافي. كيف لا؟ وهوتوج في زمانه أفخم وأرقى مسارح بيروت والشرق الأوسط وأشهرها على الإطلاق.
لذلك، كان لا بد من أن يكون الإفتتاح بعرض مسرحي عالمي يتناسبب مع المناسبة الجلل. فجيئ لهذه الغاية بفرقة “ماري بل وشارل بواييه”، أما بداية موسم التمثيل الفرنسي فكانت مع “الأوبريت كلاسيك” وبعد عام قدمت “الكوميدي فرانسيز” بعضاً من عروضها وكان من بين أعضائها الممثل المصري جميل راتب والفنانة الرومانية الفير بوبسكو.
ومن أوروبا أدّت على خشبته فرق “باليه الشانزيليزيه” و”الكوميدي فرانسيز” وفرق باليه أخرى كان يتجاوز عدد مؤديها المئة.
كذلك استقطب “التياترو الكبير” عمالقة الغناء والطرب العربي الأصيل لإحياء حفلاتهم في رحابه، حيث غنّى فيه كلٌّ من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب للمرة الأولى في بيروت
وشهد”التياترو الكبير” أمسيات شعرية صاخبة لعمالقة الشعر العربي كالأخطل الصغير وأحمد شوقي وخليل مطران، وغيرهم.
وممن تركوا بصماتهم الذهبية على خشبة “التياترو” عميد المسرح يوسف وهبي الذي عرض مسرحيات عدة مع فرقته، وكذلك الفرقة القومية المصرية للمسرح وكان من بين ممثليها أمينة رزق، فؤاد شفيق وحسين رياض.
وكرت السبحة وتوالت العروض المسرحية والسينمائية والحفلات الفنية والشعرية، مدونة صفحة مجيدة من تاريخ المجد والعز الثقافي والفني لحاضناهما بيروت.
وكان الجمهور البيروتي يستقبل الفرق الفرنسية هذه، شأن كل الفرق الأجنبية، إستقبالاً مميزاً. وكان في غالبيته من أبناء “الطبقة المخملية” وكبار الشخصيات السياسية والإجتماعية والفكرية الراقية.
تراوحت في ذاك الوقت أسعار السهرات في “التياترو الكبير” ما بين (١٢٠٠ و١٠٠٠ قرش سوري) في “البينوار” و”اللوج”، أما المقاعد العادية فكانت الأسعار فيها مابين (١٠٠ و٢٠٠ قرش سوري).
أم كلثوم
زارت كوكب الشرق أم كلثوم لبنان لأول مرة عام 1931 لتحيي حفلاً غنائياً في “التياترو الكبير”، حيث جاء بها الوجيه البيروتي أحمد الجاك، ضمن جولة فنية لإحياء سلسلة من الحفلات في سوريا ولبنان وفلسطين. ولدى وصولها إلى العاصمة اللبنانية سارت على السجاد الأحمر الذي فرش لها وسط حشود ضخمة من المستقبلين لم يسبق أن شهدها لبنان لأي زائر، ذاك أن حفلها إعتبر حدثاً فنياً كبيراً وحقق نجاحاً هائلاً. حيث إستقبلها المئات، وإلتقطت لها للمناسبة مجموعة من الصور، لتتوجه أولا إلى النادي الموسيقي، فإصطف الناس على أرصفة الشوارع لتحيّتها.
وفي الثالث من أيلول، سجل التاريخ إحياء أول حفل لأم كلثوم في لبنان على خشبة «التياترو الكبير» حيث استُقبلت بعاصفة من التصفيق استمرت خمس دقائق.
ويروى أيضا أنه في تلك الليلة من العام 1931، أطربت «كوكب الشرق» جمهور التياترو بأغنية «يا غائباً عن عيوني وحاضراً في خيالي، تعال هدئ شجوني طالت عليّ الليالي…» للملحن والعازف المصري الكبير محمد القصبجي الذي رافقها الى بيروت، فتمايلت الرؤوس طربا كما لم تتمايل يوما وتصاعدت الآهات في فضاء ذاك التياترو. كما أنشدت أغنية إفرح يا قلبي للملحن رياض السنباطي وأغنيت أنا في إنتظارك لحن زكريا أحمد.
وهذه الحفلة-الحدث جعلت الفنان الكبير زكي ناصيف يتسلل من منزله، وكان وقتها تلميذاً، ليستمتع بمشاهدة أم كلثوم وهي تغني بمرافقة الملحن والعواد محمد القصبجي على رأس فرقتها الموسيقية.
وأحيت حفلتها الثانية على هذه الخشبة، وكان بين الحاضرين السياسي المصري مكرم عبيد الذي صعد إلى المسرح عند انتهاء الوصلة الأولى، وصافحها وهنّأها، وقال لها: “لقد رفعت رأس مصر والمصريين في عالم الفنون الجميلة”، فشكرته، ثم عاودت الغناء، وتجاوب معها الجمهور، وطالب بالمزيد، وما خذلته، واسترسلت غناءاً وطرباً، وحتى الثانية والنصف فجراً… وكانت ليلة بألف ليلة، لا تنتسى.
عبد الوهاب، صباح، ونجاة الصغيرة
كذلك، لن ينسى ممن عاصروا العصر الذهبي ل “التياترو الكبير” رائعة محمد عبد الوهاب “يا جارة الوادي” و مقاطع من “مجنون ليلى” التي أنشدها على خشبته مع فرقته الموسيقية سنة ١٩٣١ بحضور جمهور غفير، على رأسهم الشعراء: أحمد شوقي، خليل مطران والأخطل الصغير.
صباح ونجاة الصغيرة
قلة تعرف، أنه على ذاك “التياترو الكبير” صدح صوت نجمة لبنان “الصبوحة” لأول مرة أمام الجمهور بمواويل الزلف والميجانا، وما كانت بعد دخلت مجال الفن، كانت طفلة وكانت شقيقتها الكبرى الممثلة الكبيرة الراحلة لميا فغالي تلعب دورًا رئيسيًا في مسرحية كانت تعرض على “التياترو الكبير” يومذاك، وبين فصلي تلك المسرحية اعتمدت مواويل بصوت تلك الطفلة فاصلا واستراحة. نشير أخيراً إلى أن “التياترو” إستقبل على خشبته أيضاً المطربة نجاة الصغيرة وهي في سن الثامنة.
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي