لمحاتٌ من مجالات العطاء الفِكريِّ للعلامة الشيخ عبد الله العلايلي

الشيخ عبد الله العلايلي
الدكتور وجيه فانوس*

 I. تمهيد

يُعتبرُ العلَّامة الشَّيخ عبد الله العلايلي، الذي ولد في بيروت حوالى سنة 1914، وتُوفي في المدينة عَيْنِها سنة 1996، مِنْ أَفذاذِ عُلماء العربيَّة المعاصرين، ومفكِّراً إنسانِيَّاً، دَخَلَ من بابِ الدَّرسِ الفقهيِّ الإسلاميِّ إلى عالَمِ الفِكر الحضاريِّ المعاصر وقضاياه. من مؤلفات العلَّامة الشَّيخ العلايلي: مقدمة لدرس لغة العرب – المعجم الكبير – المرجع (معجم وسيط) – مدخل إلى التفسير – سورية الضحية – فلسطين الدامية – سلسلة «إني أتهم» – دستور العرب القومي – تاريخ الحسين – رحلة إلى الخلد – أيام الحسين – مَثَلُهُنَّ الأعلى أو السيدة خديجة – أين الخطأ؟ – العرب في المفترق الخطر – الوجه الكرتوني – مجموعة مقالات وخُطَب ( ثلاثة أجزاء) – من أجل لبنان (مجموعة شعريَّة).

شكَّلت آراءُ العلَّامة العلايلي وكتاباتُه، في قضايا الحياة وأمورها، تميُّزاً مذهلاً له في مجالات الفكر الاجتماعيِّ والرؤيةِ الحضاريَّةِ بشكل عام. ولو قُدِّرَ لهذا العلّامة، من يُتابع أعماله هذه ويُعيد دراستَها وتحليلَها وعَرْضَها، لكان لهذه الأعمالُ أن تُشَكِّلَ، بمنهجِها وتوجهاتِها وخلاصاتِها، نبراسَ معاصرةٍ للوجودين العربيِّ والإسلاميِّ، لا ينضب ولا يكلُّ من هداية السَّالكين دروبَ العيشِ ومعاناةِ كثير من أزماته الخانقة وتحديَّاته المرعبة. 

II. في اللغة والأدب

1) بناء الكلمة

تنهض كتابة العلايلي، تأسيساً، على جَدَلٍ عضويٍّ بين الفكرة والتَّعبير اللَّفظي عنها. إذ، وكما يبدو، فإنَّ العلايلي لا يميلُ، مَيْلَ غالبيَّة التَّقليديين من منظِّري الكتابة عند العرب، إلى فصلٍ لمضمونٍ عن شكل؛ بل هو، في تفعيلهِ لهما، إنَّما يَصْدُرُ عن رؤيَّةٍ لوِحْدَةٍ عضويَّةٍ تتكاملُ فيها العلاقةُ بين الشَّكلِ والمضمونِ، مُؤَلِّفةً لجدليَّةِ تشكُّلِ التَّعبير الكتابي. والكلامُ عند العلايلي لا يُسْتَحْسَنُ، تالياً، البدءُ ببناءِ وجودهِ إلاَّ من عُمْقِ الفِكر والأُسُسِ التي ينهض عليها؛ فلا مقاربةَ لقضيَّةٍ عنده من خلالِ مظاهرِها السَّطحيَّةِ أو علائقِها الجانبيَّة أو الهامشيَّة. ولمَّا كان هذا الانبناءُ الفكريُّ أساسيَّاً، إلى حدِّ ملامسته أبعدَ أغوارِ ما في الفكرة من عُمْقٍ، فإنَّ انجدالَهُ باللِّفظ ومعه لا يكونا، عِنْدَ العلايليِّ، سوى بكلماتٍ هي من أُسُّ التَّعبيرِ اللَّفظيِّ وصفاءِ وجوده؛ وبتعابيرَ لفظيَّةٍ، متكاملةٍ فيما بينها، بأصالتِها اللُّغويةِ ونضجِ بنيانها التَّركيبي. 

كأنَّ الكلمةَ عندَ العلايليِّ، بذا، تُقَدُّ من صَوّانِ سبيكةِ تعبيرٍ قِوامُها الفِكْرُ واللَّفْظُ معاً؛ تكونُ أصالةُ الفكرِ فيها موجِبَةً لأصالةِ اللَّفظ، كما يكون لأصالةِ اللَّفظ فيها أن لا تقودَ إلاَّ إلى أصالة الفِكر ونُضجه! فإذا ما كان للشَّيخ أن يُواجِهَ، في جبروت عمله هذا، ما هو وافدٌ من ثقافاتٍ أُخرى على اللُّغة والفكر، فإنَّه لا يتورَّعُ عن الأخذِ به، لكن بعد أن يسعى إلى إلباسه أفضل ما يجتهدُهُ له من أثواب التَّعريب الفكريِّ واللَّفظيِّ على حدٍّ سواء. وهكذا يتحقَّق لنصِّ العلايلي عُمْقُ الفكرِ ونُضْجِهِ، مُنْجَدِلَيْنِ معاً بصفاءِ اللَّفظِ وأصالتِهِ ومُتَجَلِيَيْنِ بالأقوى من التَّكثيفِ والأبهى من الوضوح. ولعلَّ في بعضِ حديثِ الشَّيخ العلايلي عن «الإسلام» ما يمكن أن يُساعِدَ في تقديمِ أنموذجٍ عن هذا الإنمياز في كتاباته:

«الإسلام في جوهره، حلٌّ من الحلول الكبرى و«فكرويَّة: أيديولوجيَّة» متكاملة، له مميزاته المستقلَّة التي هي وحدها سِرُّ قيمته ومَجلى شخصيته. نعم، هو منهج كُلِّيٌّ لا يؤخذُ تفاريق، ولا يُدرسُ أجزاءً معزولة.. إنَّه يضعُ في خطٍّ الحلِّ الواحدِ المُمْتَد، الحياة وما يختلف فيها، والتَّحرُّكَ الانساني وما يستشرف إليه».

(أين الخطأ؟، الطَّبعة الثانية، 1992، دار الجديد، بيروت، ص. 14).

2) الشِّعر

أمَّا في الشِّعر، فالعلّامة االعلايليُّ لم يكن مُكْثِراً فيه كما كان حاله في النَّثر؛ وما يجده المرء في شِعر الشَّيخِ من تركيزٍ على الفكر، من دون الاحتفال الأكبر بالصُّورة أو التَّركيب الشِّعريِّ لهذا الفِكر، قد يدفع إلى موافقةِ العلايليِّ نفسه في قوله إنَّه ليس بشاعرٍ وما ينبغيَ له أن يكونه. (من أجل لبنان – قصائد دامية الحرف بيضاء الأمل، منشورات مؤسسة أ. بدران وشركاه للطباعة والنَّشر، 2008، بيروت، ص 4). ويُلاحِظُ المطالعُ لما وضعه العلايليُّ في مجال الشِّعر، تسلُّطَ المنحى الفكريِّ العقليِّ الصَّارم على قصائدِه ومقطَّعاته، فقلَّ أن تَبْرُزَ فيها شَطَحاتُ البَهاءِ الشِّعريِّ، ونَدُرَ أن يَرْتَعَ فيها رَوْنَقُ تألُّق التَّصويرِ أو بَهَاءُ المَجازِ أو حتَّى جاذبيَّةُ التَّشبيه أو الكِناية!

III. في اللُّغة

إنَّ البحر الذي خاض العلّامة العلايلي عبابه، بأروع ما يمكن لباحث أو عالم خوضه بموسوعيَّةِ المعرفة وأصالةِ المنهج، فهو بحر اللُّغة؛ إذ اهتمَّ للُّغة اهتمام البَنَّاء بترميمِ عمارةٍ يُرادُ لها الرُّسوخ والاستمرار؛ مُثبِّتاً، بترميمه هذا، لأُسُسِ البناء وفاتِحاً لمطارح جديدة له وأفنيةٍ وساحاتٍ فضلاً عن إضافةٍ في مداميكه تُراعي أصالة الموضوع ولا تخون متطلِّبات التَّجديد والتَّطوير. ومن هنا، فإنَّ العلاَّمة العَلايِلي كان، باهتمامه هذا، يقف في هذه السَّاح طامِحاً إلى مُحافظةٍ على أصالةِ اللُّغة؛ وناهِداً، في الوقتِ عينِه، إلى تطويرٍ فيها وتجديدٍ وتحديثٍ؛ الأمرانِ اللَّذانِ فَرَضا، على هذا المنضوي تحت لوائهما، ضرورةَ اتِّباعهِ منهجاً متميِّزاً بجديَّة ومسؤوليَّة.

ينطلق العلّامة العلايلي، في منهج تفكيريٍّ تأسيسيٍّ له في حقل اللُّغة، من مقولةٍ ذَكَرَها سنة 1938 في مقدمته لدرسِ لغة العرب؛ ومفادها أنْ «ليس محافظةً التَّقليدُ مع الخطأ، وليس خروجاً التَّصحيح الذي يُحَقِّقُ المعرفة». فالأهم من الأمور عند هذا العلَّامة يكمن في عدم الغرق في الخطأ والدِّفاع عنه، بحجَّة التَّقليد ومتابعة السَّلف. ولذا، فالعلايلي باحث دؤوب عن الصَّواب؛ أمَّا مقياسه في هذا البحث فضرورة تحقُّقِ المعرفة. ومن هنا، فإنَّ المعرفة، بكلِّ أبعادها وميزاتها ومتطلباتها، هي دافع العلايلي وديدنه في أعماله، أكانت هذه الأعمال في مجالات اللُّغة أو الدِّين أو الحضارة.

1) اللغة والفكر والهُويَّة

يُعبّر عبد الله العَلايِلي، في كتابه «دستور العرب القومي» بوضوحٍ عن مسألة اللُّغة؛ إذ يربطُ بين اللُّغةِ القوميَّةِ والفكرِ القوميِّ قائلا: «أنا أفكر بفكر عربي، فإذن أنا موجود عربي». ويتوضِّحُ هذا الرَّبط، الذي تبنَّاهُ العلّامة العَلايِلي طيلة حياته، بقوله: «فإذا لم تكن لنا لغة قوميَّة تامَّة صحيحة، فلن يكون لنا فكرٌ قوميٌّ تامٌّ صحيح. ففرض إنسان بدون لغة معناه فرض إنسان بدون فكر». (المعجم – موسوعة لغوية علميَّة وفنيَّة، طبعة دار الجديد، بيروت، 1997. ص. 355). ومن هنا، يمكن القول إنَّ اللُّغة أضحت عند العَلايِلي ضرورة اجتماعيَّة ونفسيَّة في آن، أهم بواعثها الفكر وعلاقاته ودلالاته وإشاراته المجازيَّة؛ وهي، بذلك، مؤسَّسة ترتبط ارتباطاً مباشراً بنشاط الإنسان.

أمَّا كلام العلّامة العَلايِلي، في مجال «اللُّغة»، فيأتي متجاوزاً التَّوصيف، ليصبَّ في خانات التَّفصيل والتَّنظيم والتَّعميق والتَّعقيد. يقول العَلايِلي إنَّ «المعجم العربي في حاجة كبيرة إلى التَّشذيب والتَّخليص من حيرة المعنى؛ وهذا يكون في تحقيق الوحدة المعنويَّة لجذر اللفظ، ومن ثمَّ رسم خطٍّ بياني، ما أمكن، لسيره حقيقة ومجازاً». ويزيد العلايلي، في هذا، قائلاً «إنَّ الشَّأن حيال اللُّغة، ولا سيما ماضيها، هو الشَّان حيال أي موضوع آخر داخله الغموض والتَّعقيد. لذلك لا يمكن اعتماد منهج التَّقرير والقطع، وإنما مبدأ السُّؤال والمشاركة في التَّساؤل». (المعجم، ص. 381) ومن هنا، فإنَّ العلّامة لا يحصر البحث اللُّغوي بالتضلُّع اللُّغوي وحده؛ بل يوسِّع في مجال المعرفة مؤكِّداً أن لا بدَّ في البحث اللُّغوي من مشاركات جمَّة «فيما حفلت به المجتمعات البدائيَّة من ترهيَّات (ميثولوجيَّات) وأساطير وعادات، وما تعرَّض له الكائن البشري من تطوُّرات حِياويَّة (بيولوجيَّة) ونفسيَّة وإنسانيَّة وإراميَّة (أثنولوجيَّة) ثمَّ حضاريَّة». (المعجم، ص. 383-384)

الشَّان حَيال اللُّغة، عند العلّامة الشيخ عبد الله العَلايِلي، ولا سيما ماضيها، هو الشَّان حيال أي موضوع آخر داخله الغموض والتَّعقيد. لذلك لا يرى العلايلي، ههنا، اعتماد منهج التَّقرير والقطع، وإنما مبدأ السُّؤال والمشاركة في التَّساؤل. فالتَّقرير القاطع في جوهره، عند العَلايِلي، التزام لتقاليد فكريَّة معيَّنة، وهو توقُّف وجمود مهما اتَّفق وجاء منه. أمَّا التَّساؤل، بمعناه المنطقي، فهو، بنظر العَلايِلي، مواصلة تجربة عقليَّة ظامئة لا تدع شيئاً على أنَّه انتهى. ومن هنا، يبني العَلايِلي المدماك الأوَّل والأساس في منهجه اللُّغوي عندما يقرِّر أنَّ اللُّغة، وهي مفعول طبيعي اجتماعي، لا تقاس بالفرضيَّة، بل العكس هو الصواب، أي قياس مقدار سلامة الفرضيَّة باللُّغة.

2) المعجم العربي

يرى العلّامة العَلايِلي أن لا بدَّ للمعجم من أن «يتضمَّن كلّ ما يشكِّل الألفاظ والكلمات المستخدمة في أزمنة اللُّغة، بغضِّ النَّظر عن كونها قديمة أو محدثة؛ وبغض النَّظر، كذلك، عن كونها من أصل اللُّغة أو وافدة عليها». (المعجم. ص 354-355) وهنا يرى العَلايِلي أن «لا بدَّ من اعتماد الطَّريقة العقليَّة في فهم اللُّغة، والتدرُّج من المحسوس إلى المعقول بمقابلة ما بينهما ووصله في صيرورة مطَّردة». ويلاَحَظُ أنَّ في فلسفة هذا الشَّأن، التي يقدِّمها العَلايِلي، ما يؤكِّد على تعميقٍ في الفكرِ اللُّغوي؛ هو، تعميق المرحلة الزَّمنيَّة التي عاشها العَلايِلي وكتب فيها من جهة، وابن للثَّقافة التَّحليليَّة التَّركيبيَّة التي نشأ عليها عبر دراسته لقضايا الفقه القائمة أصلاُ على أساسيَّة دقَّة التَّحليل وضرورة التَّعمُّق فيه.

إنَّ العلَّامة الشيخ عبد الله العلايلي المَوْسُوعِيُّ، هو كلُّ هذا الذي يُعْرَفُ بينَ النَّاس والدَّارسين بـ «الشَّيخِ عبدِ اللهِ العلايلي». إنَّه رجلٌ تمكَّن من معارف عصره بمعظمها، لا في عالَمِهِ العربيِّ ودُنياهُ الإسلاميَّة وحسب، بل في كثيرٍ جداً مِمّا عرفه زمنه من علومٍ وحقائق، وما حَفِظَهُ ذلك الزَّمنُ مِنْ أزمنةٍ أخرى سبقته وشكَّلت الماضيَ المعرفيَّ للإنسانيَّة. فالمرءُ إذا ما دخلَ آفاقَ عوالمِ العلايلي المعرفيَّة، عَبْرَ ما كتبه سيجد الرياضيَّات مجاورةً للفقه، واللُّغةَ مصاحبةً للحضارةِ وإيقاعِ التَّاريخِ ونموِّ المعرفِةِ وتوسُّعَ الإداركِ وانفتاحِ المجتمعاتِ؛ كما سيجدُ السِّياسةَ تتناغمُ، في فهمِ العلّامة لها، مع الجغرافيا والاقتصاد، والحاضرَ ينبني، عنده، على رؤى المستقبلِ بعد أن يَعُبَّ بنَّاؤه من تجارب الماضي.

ولعلَّ من الطَّريف، ههنا، تبيان أنَّ العلّامة الشيخ عبد الله العلايلي يُفَرِّقُ بين الشَّرحِ المعجميِّ، الهادف إلى إزالة الغموض، والشَّرحِ الموسوعيِّ، النَّاهد إلى التَّفصيل والبيان؛ وهو يخلص، بذا، إلى أنَّ الفَرْقَ بين المعجم والموسوعة فرقٌ في المحتوى والمضمونِ وليس فرقاً في مبدأ الاثبات. ليستنتِجَ، تالياً، بأنَّ ما هو أكثر تعلُّقاُ بالجانب اللُّغوي فهو «معجم»، وما هو أكبر عناية بالجانب العلمي فهو «معجمة».

يتضمَّن المعجم، في نظر العلّامة العَلايِلي، كل ما يُشَكِّلُ الألفاظَ والكلماتِ المستخدمة في أزمنة اللُّغة، بغضِّ النَّظر عن كَوْنِها قديمةً أو مُحْدَثَةً؛ وبغضِّ النَّظر، كذلك، عن كونها من أصل اللُّغة أو وافدة عليها. والمعجم العربيُّ، وفاقاً للعلايلي، في حاجة كبيرة إلى التَّشذيب والتَّخليص من حيرة المعنى؛ وهذا يكون في تحقيق الوحدة المعنويَّة لجذر اللَّفظ، ومن ثَمَّ رسمُ خطٍّ بيانيٍّ، ما أمكن، لسَيْرِهِ حقيقةً ومجازاً.

ويُنْظُرُ العلّامة العَلايِلي، في قضيَّة «المُمَات» من الألفاظ، وفاقاً لناحيتين، أولاهما المعاجم المدرسيَّة، ويرى أنَّ من عملها أن تفرغ للتزوُّد بالنَّافع من اللُّغة للاستعمال؛ وثانيتهما المعاجم الكبرى، ويقوم مبدأ العمل فيها، عند العَلايِلي، على أن لا اعتراف بمُماتٍ؛ لا سيَّما وأنَّ الإماتة ليست لشيء في ذات الكلمة يخنقها إثرَ الولادة، بل هي عضوياً تخضع لظروف الكائن فيما داخَله منها وخارَجَه؛ وواجب هذه المعاجم أن لا تعترف بممات ومهمل ما داما يمدَّان بما هو مُعَبِّرٌ وبما هو سليم الجِرس وعذب الوقع على الأذن. والإماتة، حين توضع في حدود الظَّروف الحافَّة بالمستعمل، وتُنْقَلُ من حيِّز الكلمة بالذَّات إلى حيِّز العلل الفاعلة، توضِّح كيف أن مماتاً لا يظل في مدرجة الموت، وأنَّ حيَّاً لا يظل في زهزهة الحياة.

3) الاشتقاق

يُظهِرُ العلّامة الشيخ عبد الله العَلايِلي، في موضوعِ الاشتقاق، (المعجم، ص 359-360) منهجاً اجتهادِيَّاً تجريبيَّاً ينهضُ على ما يمكن اعتباره براغماتيَّةً لغويَّة. ويرى العَلايِلي، في هذا المجال، أنَّ تُعْرَضَ المشتقَّاتُ من باب الاقتراح الخالص؛ فما استحياه النَّاس يبقى وما أمسكوا عنه آل إلى المنحدر. ولعلَّ من أبرز الأمثلة على هذا ما كان من جهد للعلايلي نفسه في اشتقاق لفظ عربيٍّ سليم بديلٍ من اللفظة الأعجميَّة لما يُعْرَفُ بـ «التِّلفزيون». وقد كان لي حظُّ أن أسمع منه شخصِيَّاً، في إحدى الجلسات الخاصَّة التي تسنَّى لي اللقاء به فيها قُبَيْل وفاته، حكاية هذا الاشتقاق. قال العَلايِلي إنَّه انطلق من اللفظ «رنا – يرنو»، الذي يفيد إطالة النَّظر إلى الشَّيء، ليشتقَّ منه لفظ «مِرْناة»، تعريباً لما يعرفه ناس هذا الزَّمن بـ «التَّلفزيون». لكن جمهور النَّاس، ولأسف العَلايِلي يومها، أبى الرُّكون إلى «مرناة»، رغم كل ما فيها من عذوبة لفظ وسهولة أداء وسلامة تركيب لغويٍّ عربيٍّ، وآثر الإبقاء على «تلفزيون»، بكل ما فيها من عجمة لفظ وإداء وتركيب!

4) الفصيح والمحكي

يتَّخذ العلّامة العَلايِلي من موضوع الفصيح والمحكي، الشَّائك والمثير لكثيرٍ من الجَدَلِ بين النَّاسِ، موقفاً هو ابن المنطق اللُّغوي العام الذي تبناه شخصِيَّاً، والمنادي بحيويَّة اللُّغة وضرورة استمرار تفعيل هذه الحيويَّة في مجالات المعاصَرة الزَّمنيَّة. ويرى العَلايِلي أنَّ ما هو عاميٌّ، في كلام النَّاس، أو يُشَكِّلُ ما يُعْرَفُ بالمحكيَّة، يمكن أن يعمل عليه اللُّغويون لتفصيحه وإدخاله حيِّز الفصحى السَّليمة من غير ما إخلال بأصول هذه الفصحى على الإطلاق. ولذا، فإنَّ العَلايِلي يدعو إلى ما أسماه ضرورة العمل على «تفصيح العاميِّ» أو المحكي.

IV. في الاستنتاج

يتوزَّع منهج العلّامة الشَّيخ عبد الله العَلايِلي، إذاً، على عدَّة محطَّات وجود وفعل؛ تُشكِّل، هذه المحطَّات، فيما بينها، لُبَّ اهتمامه بديناميَّة الحركة بين الفكر من جهة، واللغة والكتابة، من جهة أخرى؛ وهذا ما يشكِّلُ جوهر رؤيته العامَّة وعماد عمله في الحياة.

– المفاهيم:

– الكتابة: أصالةُ ما فيها من الفِكرِ، موجِبَةٌ لأصالةِ ما تَظْهَرُ عَبرهُ من اللَّفظ؛ كما أنَّ لأصالةِ اللَّفظ فيها، أن لا تقودَ إلاَّ إلى أصالة الفِكر الذي يظهرُ عبرها ونُضجه.

– اللُّغة: بوَّابة تُحَضِّرُ لاستقبال الآتي من الزَّمن والتَّفاعل الإيجابي أو السَّلبي مع ما قد يقدِّمه إلى مسيرة العيش الإنساني المستمرَّة.

– الماضي: حضورٌ لا بدَّ من احترامه والحفاظ على منهج عمله؛ لا حبَّاً بالماضي وتقديراُ له فقط، بل رغبة في المحافظة على التَّواصل مع اللُّغة وبها، عبر الأجيال وتوالي الحقب الزَّمنية.

– الحاضر: ضرورة تدعو، بإلحاح، إلى معاصرة للُّغة وللحداثة اللغويَّةِ؛ التي لا بدَّ منها، للتَّواصل مع الزَّمن الرَّاهن بكل ما يحمله هذا الزَّمن من جديد وتحدٍ عبر هذا الجديد.

– الانبناء

من هنا كان على العلّامة الشَّيخ عبد الله العَلايِلي أن يتَّبع منهجاً مركَّباً ينمازُ بأنَّه:

– شديد الإحساس بالماضي والتَّبصُّر به.

– عظيم الاهتمام بالرَّاهن والتَّعامل معه.

– لا يغفل ما يمكن توقُّعه من المُقْبِلِ من الزَّمن ومفاهيمه.

– يتبع الموضوعيَّة العلميَّة والفهم العقليِّ.

– يعتمد مقاييس من صُلب منطق بناء للُّغة، متكاملٍ فيما بين عناصره وقادرٍ على حمل مسؤوليَّة ما يعمل عليه وينهدُ إلى تحقيقه وتفعيله.

________

*رئيس المركز الثقافي الإسلامي ـ بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website