في زمن العزلة “الكورونية”، أي الحجز المنزلي، المسمى بالحجر الصحي (الطوعي أو الإلزامي)، خلف الأبواب المغلقة والنوافذ الموصدة على الفناء الخارجي، الذي يخيم عليه صمت عميق مطبق، وتنعدم فيه مظاهر الحياة المعتادة، كأننا بتنا نعيش في فضاء من العدم، علينا أن نملأ الوقت القاتل لإبتكار هواية جديدة علنا نسعد بها ولو مؤقتاً، ألا وهي ممارسة “السياحية المنزلية”، لنكتشف ما تحتويه منازلنا من “آثار” منسية، ورثناها من حضارات الآباء والأجداد المتراكمة والمترامية عبر سنين وحقب مديدة من الزمن العابر والغابر…
فنتنقل سيراً على الأقدام بملابسنا المريحة، وسط بيئتنا العائلية- الداخلية، بين غرف النوم والجلوس والطعام، مروراً بالمطبخ والحمام، وصولاً إلى “التتخيتة”، بعيداً عن ضجيج المدينة وتلوثاتها، فتكتشف كنوزاً مخبأة منسية، لا تقدر بثمن، رغم أنها ليست تحفاً ولا لوحات ولا مجوهرات؛ منها ما غطاه الغبار، ومنها ما علاه الصدأ…
هي ببساطة عبارة عن أدوات وأوان ومقتنيات منزلية متعددة الإستخدامات، قبل حياة الترف والبذخ والمطالب التي لا تنتهي، والتي كانت محل إفتخار لكل من كان يقتنيها في زمن القناعة والبساطة، قبل أن تغذونا مظاهر الحياة المتوحشة، منها ما كان يتم شراءها، ومنها ما كانت تهدى في المناسبات المختلفة، ومنها ما كانت من أساسيات جهاز العروس…
هي مقتنيات أهملها الزمن، وأنستنا إياها الحداثة والعصرنة، صارت من الماضي البعيد البعيد (!) حتى ذاكرتنا خانتها ولم تعد حتى تأتي على ذكرها ولو بخاطرة عابرة!
فها هي جولتنا “السياحية-المنزلية، جعلتنا نتعرف على مدخرات من نوع آخر، لم نكن ندرك قيتمها الثمينة والباهظة، بل كنا نعتبرها مجرد “كراكيب”، ننتظر “كيالاً أعمى” يأتي ويحملها، ليخلصنا منها.
فمن حسنات (خليك بالبيت) إكتشفنا: صندوق العروس” المفصص بالصدف، “النحاسيات” المنقوشة بكتابات لأمثال وحكم وآيات قرآنية، “قنديل الكاز”، “النملية”، “الطبلية”، “كراسي القش”، “الجنطاس”، “اللكن”، “الخلقينة”، “البقج”، “بابور الكاز”، “الصاج”، “جرن الكبة”، “مدقة الثوم”، “كيس اللبنة”، “طقم الصحون والكبايات والكاسات الصيني- ماركة روميو وجوليات”، وغيرها من الموروثات التي كانت عنواناً لزمن القناعة والبركة…
إنها قساوة قلوبنا مع ماضينا وتراثنا ومع الأجيال التي بنت لنا الأصالة، الذين أهدرناهم ولم نحافظ عليهم، لا بل لم نستحقهم !
لذلك، سنجول تباعاً بالحنين إلى الزمن الجميل…
صندوق العروس
خصصت اليوم “سياحتي المنزلية” الطوعية في ظل الحجز الإلزامي “الكوروني، لإقتحام هذا “العالم المجهول” المهمل منذ سنيس والمتروك وحيداً في زارية منسية من “التتخيتة”، ألا وهو “صندوق العروس”، الذي لا أعلم لأي جيل عائلي يعود، لكن بالتأكيد يختزن حكايات وتفاصيل، وذلك بهدف التعرف على ما تحتويه خباياه من أسرار، وفي نفس الوقت للتغلب قدر المستطاع وبالإمكانيات المتاحة على الحجم الهائم من ملل العزلة…
إنه “صندوق العروس” المصنوع من خشب السنديان المطلي بدهان خاص من السمسم ليمنحه بريقاً ولمعاناً، والمزيّن بمسامير فضية، تبعاً للإعتقاد الذي كان سائداً بأن الفضة تجلب الخير وتبعد الحسد، على عكس ما يفعله الحديد، كما أنه مرصع بالصدف والعاج بأشكال هندسية ونباتية منسقة بدقة حرفية متناهية، لتجعل منه قطعة فنية غاية في الروعة، وهو يقوم على قاعدة بأربعة أرجل مصنوعة من الخشب المقوى المزخرف بنقوش يدوية. وعلى كل جانب مقبضين من النحاس الثقيل المشغول، وفي الجهة الأمامية قفل مربع، ما زالت مفاتيه معلقة فيه، تحمل جرساً صغيراً (ربما كان المقصود من وضعه أن يشكل إنذاراً لمن عمد على فتحه دون إذن).
نفضت عن “صندوق العروس” غبار النسيان والإهمال وفتحته (وكأنني سارق غير محترف يحاول خلع خزنة حديدية)! ولكي أتمكن من من الغوص في عملية الإستكشاف أزلت “الناموسية” المصفرة التي هي قطعة قماش شفافة كانت تستدل فوق السرير للوقاية من الناموس والباعوض، والتي غطيت بها محتويات الصندوق، فإذا أنا أمام كنوز الماضي الغابر، المصنفة في زماننا “بالكراكيب” من: مناشف الحمام المطرزة يدوياً والمعتقة فيها رائحة التطييب البلدي، و”المكحلة” المنقوشة بشكل وردة ومطعمة بالفضة، حيث تحجر فيها الكحل المطحون من “الأثمد”، التي كانت مخصصة لأم العيون الكحلى، فالمثل الشعبي يقول: “الكحل العربي من تراثنا، وجمال نباتنا”، وزجاجات عطر العود والمسك والعنبر التي وبالرغم من جفافها فهي تعبق بطيب ذكريات شاهدة على الماضي الجميل، فقد قيل لمن نحبهم: “أطيب من الطيب وأصل الطيب من طيبك”…
وخلال عملية “التنقيب” وجدت “بقجة” من القماش بداخلها “القبقاب المصفد” المصنوع من خشب الجوز و”سره” (القطعة الجلدية) مطرزاً بخيوط القصب، وهو من نوع ال “الشبراوي”، (أي المرتفع نحو الشبر عن الأرض)، حيث كانت تستخدمه المرأة لزيادة طولها، ولرفع ثوبها الطويل حتى لا يلمس الأرض، فتذكرت المثل البيروتي القديم “صار للشوحة مرجوحة، ولأبو بريس قبقاب”، وقادتني الذاكرة أيضاً إلى ما قيل في “القبقاب” شعراً على لسان إبن هاني الأندلسي واصفاً لسان حال “القبقاب”:
كنتُ غصناً بين الأنام رطيباً
مائس العطف من غناء الحمام
صرتُ أحكي رؤوس أعداك في الذل
برغم أداس بالأقدام…
أكملت رحلة الفضول الإستكشافية داخل الصندوق، فوجدت إبريقاً نحاسياً أصفراً متجهماً حزيناً من شدة الإهمال، رغم أنه مزين بحجر العقيق ومنقوشاً عليه بعض أبيات الإمام الشافعي.
إلى جانب الإبريق، هناك “طاسة الرعبة” منقوش عليها آية الكرسي والمعوذات وبعض الأدعية القرآنية، تتوسطه أقراط وأجراس ومفاتيح صغيرة جداً، ورغم بساطته الواضحة في الشكل، فقد كانت له هيبته الهائلة، إذ كانت الأمهات تخبئه في خزائنهن مع أغراضهن الثمينة والنفيسة، وكنا كلما حاولنا ونحن أطفالاً لمسه بدافع الفضول نتعرض للتوبيخ وربما أكثر.
هنا أخذتني ذاكرتي رغم ما يشوبها من بعض النسيان إلى زمن الطفولة، لما كانت ستي الحنونة تسقيني منها الماء المبارك بعد أن يكون قد نقع سابقاً مع بعض حبات الزبيب والتمر وإبقائه مكشوفاً طيلة ليلة كاملة لضوء القمر، وذلك كلما تعرضت لحالة خوف أو رعب، أو إستيقظت من نومي مذعوراً “مكوبساً” من منام مزعج، مصحوباً مع تمتمة بعض الأدعية والآيات القرآنية، حتى تزول عني آثار الرعبة… بعد هذه الرحلة في أعماق “صندوق العروس” مزهولاً بما رأيت، أعدت إغلاقه، ليعود كما كان مجرد مقيم في زاوية من زوايا “التتخيتة” يضيق به المكان، بعدما كان موضع تفاخر وتباهي بحسب حجمه وثمنه وما كان يحتويه من جهاز للعروس…
المطبخ
في زمن العزلة الإجبارية خوفاً من الغزوة الكورونية، وإختصاراً للوقت والمجهود، قررت أن أنقل غرفة الجلوس إلى مطبخ المنزل، طالما أن مفهومنا لمقومات الصمود المنزلي هي أن يبقى جهازنا الهضمي في حركة دائمة، كسباً للمناعة الغذائية القاتلة للوقت، وليس للفيروس، فإذا بالمطبخ في خضم “الزربة” بالبيت يتحول إلى الركن الأكثر إستحواذاً على وقتنا وإهتمامنا من كل أركان المنزل.
وبما أن الإقامة الإختيارية طويلة في المطبخ، فلا مانع من إستغلالها إلى جانب المحافظة على أمننا الغذائي، بأن نقوم بسياحة منزلية داخله، لإسترجاع حنين الماضي وأيام البركة التي كانت تسوده، يوم كان يعج بنشاط وهمة النسوة ربات البيوت الحقيقيات والمدبرات اللواتي كن يحرصن على تحضير كل أنواع المأكل والمشرب بأنفسهن وبنفسهن الطيب، الذي كان يطفي نكهة خاصة على ما يقمن به من “طبخ ونفخ”، إذ كنّ يقضين أغلب أوقاتهن فيه، حيث لم تكن إقامتهن فيه تقتصر على الطبخ، بل أيضاً على الغسيل والكوي، وحتى “الصبحيات” فيما بين الجيران وشرب القهوة وقراءة الفنجان، دون أن تخلو جلساتهن من “تركيب المقلة” الملطفة والتي لا تلحق الأذى بما هنّ غائبات عن تلك الجلسات…
أول ما يستوقفك في سياحتك الإستذكارية في المطبخ، الأدوات والأواني المطبخية التي كانت مستخدمة قديماً قبل أن غزوة البرادات وأفران الغاز و”المييكرويف” وطناجر الضغط و” الألمونيوم” و “الستانلس ستيل” و”التيفال”والبيركس” وخلاطات “المولينكس” والخفاقات الكهربائية، حيث كانت الطناجر والجاطات والصواني وأدوات التحريك والسكب بأنواع وأحجام مختلفة، كأن تكون مجوفة أو مثقوبة للإستعمالات المتعددة، ومنها “الكبشة” (وهي ملعقة لها تجويف كبير وعميق مع ذراع طويل وتستخدم لأغراض تقليب السوائل والحساء أثناء الطهي)، و”الكاشطة” (وهي عبارة عن شريحة مستوية على شكل مستطيل تقلب بها “الكبة بالصنية” والمعجنبات عند خبزها في حالة إلتصاقها بالأسطح)، وجميعها كانت تصنع من النحاس الأبيض (كانت تبيض كل عام بواسطة المبيض في حديقة المازل).
وأيضاً “القدر” الفخارية للطهي والسكب وحفظ اللبن، وأباريق الفخار لتبريد الماء المغطاة بغطاء قطني مشغول يدوياً، والسكاكين ذات المقابض الخشبية (التي كانت تجلخ من قبل المجلخ النقال كلما ضعفت قدرتها على التقطيع).
وكذلك الأدوات الخشبية كمدقة الثوم والمنخل والملاعق وملقط الغسيل و”الشوبك” الذي كان يستخدم لرّق ومدّ العجين، (كم نلنا به علقة سخنة، بسبب “العفرتة” ونحن أطفالاً)، حيث أن الخبز كان يعد في المنازل من قبل ربات البيوت اللواتي يتولين عجنه بنفسهن وتقطيعه ومده يدوياً، قبل إرساله مع أحد الأبناء إلى الفرن لخبزه، وتكون إجرة الفران إقتطاع عدد من الأرافة.
ومن الأدوات التي كانت المطابخ لا تخلو منها أيضاً والمصنوعة من “التنك” أي الصفيح “المبرشة” الرباعية الجوانب، وقمع الزيت، والمصفاية، وبرميل غلي الملابس.
ولا ننسى “الصاج” (هو إناء مُستطيل كبير “مفلطح” به تحديب خفيف، مصنوع من الحديد، يُحرق بالسمسم حتى يسودَّ ويصير سطحه أملس)، كان يستخدم لقلي كل أنواع المقالي بواسطة السمن الحموي “الحديدي”، (اليوم لم نعد نراه إلا عند بائع الفلافل).
ومن أساسيات المطبخ زمان محمصة ومطحنة البن، فالمحمصة هي إناء معدني دائري من الحديد موصول بيد من حديد، توضع على النار، ويتم تحميص حبوب البن فيها إلى الحد المناسب، وتقلب المحمصة بواسطة اليد مربوطة فيها كي لا تحرق حبات البن. أما مطحنة البن فهي آلة يدوية تصنع من النحاس ولها مقبض محوري وفتحة علوية لإدخال حبوب القهوة أو الهيل المحمصة وفي الأسفل فتحة يخرج منها القهوة المطحونة، وكان الأولاد من يتولى برم المقبض حتى يطحن البن، لأنها عملية شاقة وتحتاج للقوة والصبر.
أما “كيس اللبنة” المصنوع من الخام، كان في ذلك الزمان بمثابة معمل لصناعة اللبنة آنذاك، حيث كان “يروب” اللبن، ويسكب في الكيس ويعلق ليلاً على “حنفية” المجلى حتى صباح اليوم التالي ليصفى منه مصل اللبن، ويتحول إلى لبنة صناعة منزلية ولا أطيب ولا أشهى.
يذكر أن الحليب الذي كان “يروب” لبناً كان يحضر في الصباح الباكر “بياع” الحليب المتجول من مزارع رأس بيروت”، وكان ثمن الرطل الأصلي، غير المغشوش (دون إضافة الماء إليه) ثمانية قروش.
يتبع الجزء الثاني
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراث بيروت.