“لغن الغسيل”، “الطبلية”، “بابور الكاز”، “النملية”
مع تمديد الحجز المنزلي (على غرار كل شيء في لبنان) الذي هو تلطيف لعبارة الحجر الصحي، تنفيذاً وإلتزاماً بشعار المرحلة “خليك بالبيت” للوقاية من الوباء الزاحف إلى بلادنا من بلاد الغرب، مما يؤكد المثل الشعبي: “ما في شي من الغرب بسر القلب”، تبقى السياحة المنزلية ملاذنا الآمن للتغلب على هذا الوقت الثقيل من جراء “الزربة” لاستكمال إكتشاف ما تختزنه خبايا المنزل من كنوز أيام الزمن الغابر، حيث باتت تربط بيننا وبين المطبخ علاقة شديدة الود والحميمية، بعدما بتنا نقضي أغلب وقتنا فيه لنملأه بطيبات ما رزقنا الله، مما يمنكننا من الإستمرار في عملية نبش قصص هذا “العالم” القائم بحد ذاته، الذي هو المطبخ بكل ما يخبئ في كل زاوية منه من ذكرايات وأسرار البيوت…
•”لغن” الغسيل:
أول ما تستعيد ذاكرتنا ونحن نمارس “رياضة اللقمشة” في المطبخ، هو عندما كنا نستيقظ في الصباح الباكر على روائح عطرة تسود أجواء المنزل تنبعث من المطبخ حينما تكون الأمهات يقمن بغسيل الملابس بعد غليه؛ حتى أن المارة في الشوارع كانت تعشق رائحة الصابون البلدي المعطر المصنوع من الغار وزيت الزيتون، التي تفوح من خلف “أباجورات” المنازل والمنبعثة من “لغن النحاس” (غسالة الزمن الغابر) المخصص لغسيل الملابس، حيث أن النسوة يجلسن حوله ويقمن ب”عك” (فرك) الغسيل ومن ثم تفويحه (إزالة الطابون بالماء) ثم عصره يدوياً قبل نشره على مناشر الغسيل التي كانت عبارة عن حبال مخصصة لذلك، سواء في حديقة المنزل في حال توفرت، أو فوق سطحه.
• الطبلية:
أما “الطبلية” الخشبية الدائرية، فلها مكانة لا تنسى في ذاكرتنا، إذ كانت تسكن قلب المطبخ وتتسيده بكل ثقة، وسط هالة حب عميقة، تدل على العشرة والألفة والأصالة ودفء وسلام العلاقة بين أفراد العائلة الواحدة والأقارب والجيران على حد سواء، في زمن كانت تتحكم به البركة والبساطة وراحة البال، فهي قصة قائمة بحد ذاتها.
فكانت “الطبلية” تستخدم من قبل ربات البيوت لإعداد وتحضير الطعام، الذي يتم تناوله عليها أيضاً بعد أن تكون قد إستوت الطبخة (ليس طبخة البحص)، وبعد أن يكون قد عاد الرجال من أعمالهم والأولاد من مدارسهم، وذلك قبل أن يحل محلها المائدة الفخمة “المتوحشة” المحاطة بكراسيها الجلدية و”الدريسوار” المتوحش الذي يحبس في داخله أنفاس الأواني الفضية و”طقم الصيني” ، التي يطلق عليها طاولة “السفرة”، التي صار يخصص لها غرفة خاصة ومستقلة في المنزل.
ف”الطبلية” الخشبية، كانت جوهرة المطبخ التي لا غنى عنها، قبل أن تغزوه طاولات الرخام و”الستانلس”، حيث كانت ربات البيوت، قبل أن يتحولن إلى ستات للمنازل يجلسن حولها القرفصاء بكل كبرياء وقوة على “الحصيرة” ويتعاون فيما بينهن بكل ألفة ومحبة على إنجاز أعمالهن المطبخية من “طبخ ونفخ” بنفسهن الطيب.
فعلى تلك الطبلية كانت النسوة تحضرن عجين الخبز الذي كان يعد في المنازل من قبلهن، حيث كن تتولين عجنه بنفسهن وتقطيعه ومده يدوياً بواسطة “الشوبك” و”تستيفه” في الصواني الكبيرة المربعة ذات اللون الأسود، قبل إرساله مع أحد الأبناء إلى الفرن لخبزه، وتكون إجرة صاحب الفرن إقتطاع بضعة أرغفة.
وعلى الطبلية نفسها كانت تتم عملية إعداد وتحضير كل مكونات الطبخة قبل “التعليق” عليها. فعليها كن “ينقين” الحبوب والبقوليات من أرز وعدس وفاصوليا لإزالة الحبات المضروبة “بالسوس والزوين”، وكن عليها أيضاً يفرمن البقدونس والكزبراء والنعناع، ويخرطن البصل والبندورة، وينقرن الكوسا والباذنجان والقرع، وعليها كذلك كان “يِلف الورق عنب والملفوف والصلق، ودق الثوم بالمدقة المصنوعة من الخشب والحبوب بالهاون النحاسي…
وبما أن “الطبلية” مرتفعة عن الأرض حوالي ثلاثين سنتيمتراً، فقد كان يستخدم أسفلها لوضع الأغراض التي ستحتاجها النسوة خلال مراحل إعداد الطعام، و من هنا جاء المثل: “من تحت الطبلية”…
• بابور الكاز:
إذا كانت “الطبلية” جوهرة المطبخ فإن “بابور الكاز” (البريموس) هو “سلطان” المطبخ” رغم بساطته بالمقارنة مع طباخات وأفران الغاز الحالية، إذ كان يستخدم للطبخ والغسيل والإستحمام وتسخين الماء. وكان يتألف “البابور” من ثلاثة أرجل ورأس وجرس وخزّان نحاسي ودفّاش ومكان للتنفيس محكم الإغلاق من خلاله ينطفئ “البابور”ويوضع من خلاله الكاز داخل الخزّان.
فمع تقدم ساعات النهار، بعدما يكون الرجال قد توجهت إلى أعمالها التي غالباً ما كانت في البلد وأسواقها (وسط بيروت)، والتلاميذ إلى مدارسهم أو إلى “الكتاتيب”، تنكب النسوة في تحضير وطهي الطبخة، بعد الإنتهاء من تحضير مستلزماتها على “بابور الكاز”، فتمتزج رائحة الطعام الأخاذة مع صوت هدير “بابور” الكاز، الذي كانت تألفه الآذان رغم ما يتسبب به من إزعاج وتلوث سمعي.
وبإنتظار أن “تستوي” الطبخة كانت ستات البيوت يتجمعن على عتبات باب “الزقاق” (كانت بمثابة صبحيات الجيران ذلك الزمن) فيسردن قصص بيوتهن وأحوال الأزواج والأولاد، وتتباهى كل واحدة منهن بقدرتها على التوفير والتدريب، وبين الفينة والفينة يدخلن مجدداً إلى المطبخ لل”التشقير” (مراقبة) على الطبخة، ثم يستكملن حديثهن مع ركوة القهوة التي تكون دائماً الجامع المشترك بينهن. فيقضون الوقت على هذه الحال إلى أن تنضج الطبخة وتستوي، فيدخلن مجدداً إلى بيوتهن للمباشرة بالأعمال المنزلية المعتادة يومياً من تكنيس وشطف وتعزيل.
• النملية:
“النملية” كانت بالبيت
بركه متل خوابي الزيت
تحفظ خيرات الأيام
وشو ما بتطلب فيها لقيت
“النملية” التي كانت براد وثلاجة بدوم كهرباء، وكذلك بقالة المونة، ومكان حفظ الصحون والكبايات والكبايات، نتذكرها بالشوق والحنين لأيام الماضي، كانت قطعة الأثاث المليئة بالبهجة ومؤونة البيت، إنها خزانة المطبخ حامية الطعام وأدواته المتنوعة، التي مان يصنعها نجار “الحي” من الخشب القوي الذي يعمر لسنوات طويلة متحملاً البرد الشتاء وسخونة الصيف وفصول الحياة.
ف “النملية” هي عبارة عن هيكل خشبي في شكل يشبه خزانة الملابس في هذه الأيام، حيث كان الطعام يوضع بداخلها لكي تحميه من الغبار والحشرات، مع توفر دخول الهواء من خلال الشبك الحديدي “المنخل” الناعم الذي يكسو معظم وجهها الأمامي.
وتقسم “النملية” إلى ثلاثة أقسام: القسم العلوي يضم ثلاثة رفوف يغطيها من الخارج بابان يفتحان إلى الجانبين ويؤمنان دخول الهواء عبر الفتحات الدقيقة للمنخل الناعم “الشبك”، وهو مخصص ل “طقومة” الشاي والقهوة والكاسات وصحون الخزف الصيني ماركة “روميو وجوليت” القادم مع جهاز العروس. بينما يضم القسم الأوسط الذي كان عبارة عن جارورين فهو مخصص لوضع الملاعق والسكاكسن والشوك وكفاكير ومغارف وماكنة “تسنين” السكاكين ومفتاح زجاجات “الكازوز” وكذلك “المبرشة” و”مناقر” الكوسا والباذنجان، والمصافي وماكينة عصر البندورة، والتي كانت تشترى من البائع المتجول في شوراع بيروت الذي كنا نردده وراءه عباراته الشهيرة في المناداة: “معانا صحون معانا كبابات”.
أما القسم السفلي فهو مخصص للمونة، فكان توضع فيه “تنك” الزيت والسمن الحموي،و”مراطبين” كبية تعبأ بالأرز والبرغل وكل أنواع الحبوب، التي يتطلب حفظها البعد عن نور الشمس، وكذلك “مراطبين” أصغر حجماً يوضع فيها الملح والسكر والشاي “الفلت” وجميع أنواع البهارات، فضلاً عن علب الحلاوة ودبس الخروب راحة الحلقوم والطحينة و”قناني” الخل والزيت وماء الورد والزهر، إضافة إلى “مراطبين الضغط” الكبير منها المخصص للزيتون والكبيس المخلل، والصغير المخصص للبنة “الكبتلة” الكبوسة بالزيت والشنكليش والجبنة البيضاء والمربيات.
وعلى جوانب “النملية” كانت تعلق الملوخية والبامية الناشفة والعلقة في خيوط خاصة، وأيضاً أقراض البصل والثوم. أما سطحها فكان مستودعاً للأواني المطبية من طناجر ومقالي وغيرها…
المطبخ كان حقاً عبارة عن لوحة فنية تزين بيوت زمان بكل الأشكال والألوان، لا بل مهرجاناً فيه “ما هب ودب” من ضرورات ومستلزمات حياة البساطة والبركة، التي كانت تتسم بالصفاء والنقاء والأخاء، والتي أحوج ما نحتاج في زماننا المشوش من التمعن بها، عسى نستعيد بعضاً منها.
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراث بيروت