اثناء زيارته للجزر الايونية اليونانية (1) رأى “جورج روبنسن” ان فضوله وهواه يغرياه للذهاب بعيدا في رحلته وعبور مناطق متفاوتة الجمال, الى أماكن بعيدة وغير متوقعة, متجاهلا ما قد يواجهه المرء من مفاجآت, ومتناسيا ان في السفر في ذلك الوقت مخاطر غير معروفة؛ فوضع لنفسه هدفا طارئا وبنظرة طموحة وآمال كبيرة في زيارة عمق الشرق, رغم انه قرر سابق ان يمضي فصل الشتاء في ازمير التركية.
و وفقا لكتابه “السفر في فلسطين وسوريا”(2) فقد شرع في بداية عام 1830, في رحلته الشرقية من مصر ثم عاد منها الى يافا, وزار مناطق فلسطين وسوريا, بما في ذلك البلدان الواقعة شرق نهر الأردن وما بعد السلسلة الشرقية لجبال لبنان وصولا الى حلب حيث امضى فصل الشتاء فيها.
ثم اكمل في ربيع وصيف عام 1831 , فتجول في آسيا الصغرى وزار اكثر الأماكن اثارة للاهتمام, ووصل إلى إسطنبول في خريف نفس العام. وفي عام 1832 عاد إلى موطنه في أوروبا الغربية عن طريق ادرنة.
كان هدفه الوحيد في نشر الجزئين من كتابه, هو رغبته في أن يكون مفيدًا للمجتمع كما قال, من خلال نقل ملاحظاته الحقيقية والشخصية بشكل مبسط, وما رآه وشاهده في الأماكن التي زارها, ويعتبر ان قلة من المسافرين قاموا بمثل جولته الكاملة والشاملة في بلاد الشام, متجنبا عمدًا إعطاء ارائه وانطباعاته راغبًا في أن يكون مجرد أداة لنقل نسخة دقيقة لما رآه إلى أذهان قرائه.
تعالوا نبدأ مع “روبنسن” الرحلة الى بيروت من خلدة و خانها الذي غادره “قبل شروق الشمس بقليل, وفي غضون ساعتين وصلتُ إلى بيروت.
عند انحرافنا عن خط الساحل, مررنا على سلسلة من التلال المنخفضة المزروعة بأشجار التوت الأبيض, المستخدم لتربية دود الحرير . هذه الأشجار مزروعة في تربة ذات لون أحمر, تمر فيها أخاديد, لنقل مياه المطر بشكل متساوٍ إلى الجذور. تُقطف الأوراق من أجل تغذية دودة القز مرتين , في الربيع والخريف من كل عام”.
قبل الوصول الى بيروت, يتوقف “روبنسن” قليلا “على بعد حوالي ميل ونصف إلى الجنوب من المدينة, ودخلنا غابة كبيرة من أشجار الصنوبر المعمّرة بشكل واضح, وتحتل مكانًا بارزًا يطل على البحر ورأس بيروت و المدينة. وتشكل رؤوس الشجر على نطاق واسع ظلًا لا يمكن اختراقه , ويبدو أن النسيم الناعم من البحر ، أثناء مروره عبر الأغصان, يدعو المسافر المرهق إلى الراحة.
هذه الغابة هي ملاذ مفضّل لسكان بيروت في الصيف وفي أوقات الطقس الجيد, وتُسمّى غابة فخر الدين (3), ويقال ان أول من زرعها أمير بهذا الاسم”.
وصل “روبنسن” الى بيروت في العشرين من شهر أيلول \ سبتمبر 1830, و كعادة الرحالة و المسافرين, يبدا بالحديث عن موقع بيروت الجغرافي, فيقول “تقع بلدة بيروت الحديثة, التي تمثّل بيريتوس القديمة, في الطرف الغربي من مثلث ارضي يبرز في البحر على بعد حوالي أربعة أميال من خط الساحل. وتقوم بيروت على أرض مرتفعة قليلا بالقرب من شاطئ البحر ، ويبلغ محيطها حوالي ثلاثة أميال”.
والواصل الى بيروت, لا بد ان يلفت نظره السور الذي يحيط بها فيصفه بأنه:” يحيط بها من جهة البر وهو حديث العهد وليس قويا جدا, لكونه مبنيٌ من الحجر الرملي الناعم, وحول المدينة أربعة ابراج مربعة”.
من السور الى داخل المدينة المحشورة بين جدرانه, فيقدم لنا وصفا لشوارعها وهي :”بشكل عام ضيقة وغير منتظمة, وموحشة في بعض الأحياء التي تخلو من المحلات التجارية. ويوجد في شوارعها رصيفان مرتفعان للمشاة على الجانبين, وفي الوسط قناة تجري فيها المياه, مما يساهم بشكل أساسي في نظافة المدينة, ويعطيها مظهرًا رائعًا ومرطّبا, خاصة في الشهور الحارة”.
جميل ان نعرف شيئا عن بيروت القديمة بهذا التفصيل الدقيق, و لكن ماذا عن معالمها وبيوتها ومبانيها واسواقها :”لا توجد مبانٍ عامة مميزة, والقليل منها الذي كان يميزّها في يوم من الأيام, أصبح الآن في حالة خراب. البازارات كبيرة, خاصة تلك التي يُباع فيها الحرير, ويحضُر اليها كثيرا سكان الجبال المجاورة”.
بعد الشوارع والأسواق, مالذي يمكن ان يطلبه السائح الذي قطع المسافات البعيدة, برا وبحرا ليصل الى بوابة الشرق, بيروت الهانئة :”التقيت هنا بما لم أتوقع أن أجده في هذه المنطقة؛ فندق ممتاز, يملكه مالطي, يُدعى “جويسبى”, وهذا الفندق كما فهمت, هو المؤسسة الوحيدة التي يحق لها هذه التسمية في جميع أنحاء سوريا”.
يفسّر لنا “روبنسن” سبب كلامه عن هذا الفندق قائلاً:”على الرغم من أنني اعتدت جيدًا على الحرمان في حياة الترحال التي فرضتها طواعية على نفسي, ولكن بالرجوع مؤقتا إلى عاداتي السابقة, لم أستطع الامتناع عن إجراء مقارنات بين حياتي المعتادة في الأسفار, والمزايا التي قدمها هذا الفندق. على سبيل المثال, هناك غرفة جلوس مريحة بها ارائك مع الحد الأدنى من المستلزمات, و سرير ناعم مع ملاءات نظيفة, وسجادتي الصغيرة التي الفّ بها سرجي, و اجعل منها وسادة لي, إضافة الى عشاء متنوع , موزّع على مفرش طاولة دمشقي, و وعائي البسيط من ارز البيلاف, مع ملعقة خشبية للأكل”.
احسنَ “روبنسن” في تقديم هذه الصورة لمؤسسة ينطبق عليها مفهوم الفندق الحديث رغم بساطته, والذي حظي باحترام وتقدير من سبقه من السياح والحجاج , كما يبدو, اثناء توقفهم في بيروت قبل متابعة السير الى الداخل اوالقدس, وقدّم لنا بنفس الوقت علما بأن بيروت كانت في بداية مواكبتها للحداثة و التطور, والانتقال من خدمات الخانات البدائية الى عمل الفنادق بمفهومها الحديث.
(يتبع)
________
(1) مجموعة جزر يونانية في الجهة الغربية من البلاد, تأثرت كثيرا بالثقافة الإيطالية.
(2) Travels in Palestine and Syria – صدر عام 1837.
(3) الحرج كان موجودا قبل فخر الدين , فقد ورد أن الجنود الصليبيين اتّخذوا من أخشاب الأشجار مراكب لهم, وكذلك فعل المماليك بعد دخولهم بيروت.
***
*باحث في التاريخ. عضو جمعية تراثنا بيروت