نتابع الحلقة الثانية من مراجعة كتاب “السفر في فلسطين وسوريا” لمؤلفه “جورج روبنسن” ونتعرف من خلاله الى بيروت كما شاهدها وعايشها في عام 1830.
نتوقف مجددا مع “روبنسن” وقوله ان القنصل البريطاني “أبوت” (1) المقيم في بيروت, كان يُمثل بلاده في عموم سوريا, متابعا ان “جميع البلاد الأوروبية الأخرى لها قناصلها أيضا في بيروت, فهي مكان للتجارة, وهي الميناء الرئيسي لمدينة دمشق التي تبعد عنها تسعين ميلاً”.
ثم يذكر لنا مجموعة من المواد والمنتوجات التي كانت تُصدّر من ميناء بيروت :”الصادرات هي نبيذ, جرار وصموغ , ونبات الفوّة (2) وحرير خام ومشغول, إضافة الى منتوجات الجبال, وزيت زيتون السهول الواقعة بين هذه الجبال وصيدا تُعتبر الأفضل في سوريا.
اما المواد المستوردة فهي اقمشة الموسلين, والخيوط القطنية, ,والبياضات و المطبوعات, والقصدير, والمعدات, والملابس, ومنتجات من الهند الغربية(3). والتجارة في بيروت, رغم أنها محدودة حتى الآن, كما فهمت, الا انها آخذة في الازدياد”.
ويتابع “روبنسن” كلامه عن الوضع الاقتصادي في بيروت, ليشير الى وجود حوالي اثنتي عشرة مؤسسة أوروبية يبدو انها كانت تعمل في مجال تبديل العملات وتحويل الأموال, فينبه المسافرين الى انهم”يحسنون صنعاً عند وصولهم إلى بيروت بالقيام بترتيبات بشأن أموالهم للمدة التي سيقضونها في الداخل السوري”. ويلفت الى ان “بيروت هي واحدة من الأماكن القليلة في سوريا حيث يمكن دفع قيمة الصكوك المالية بدون متاعب وخسارة مبلغ كبير”. ويوضح ان الدفع كما هو الحال في أجزاء السلطنة العثمانية, بالقروش العثمانية او الدولار الإسباني(4), حيث يساوي الدولار خمسة عشر قرشا, والذي يساوي أربعين بارة”؟
ولأن الاثار تُمثل دلالة ملموسة وهوية حضارية لأمم سابقة, وهي مما يجذب السائحين والرحالة والعلماء ويدفعهم لشد الرحال الى بلاد مهما بعدت, فقد اخبر “روبنسن” قراءه بأنه “لا يوجد الكثير في بيروت للرحالة المهتمين بالاثار. فعلى الرغم من أنها تقوم في نفس موقع بيريتوس القديم, إلا أن هناك القليل من آثار العصور المبكرة التي يُمكن رؤيتها” وفي مكان آخر يذكر “وإلى الشمال من الميناء يوجد بعض الآثار المتهالكة للمسرح الذي أقامه هنا الامبرطور الروماني “هيرود أغريبا”.
من الآثار القليلة ينتقل بعد ذلك الى تقديم وصف لميناء بيروت وبعض الأماكن القريبة منه, فيقول:”يوجد على مدخل الميناء المكوّن من خليج صغير , برجان مربعان, واحد منهما ينتصب على صخرة معزولة, في مشهد خرائبي مهيب. اما الآخر فهو متصل بالشاطئ بواسطة جسر يقوم على قناطر غير متساوية الحجم, يتدفق من خلالها البحر”.
ثم يتابع “روبنسن” وصفه لأجزاء من الميناء “واجهة هذا الرصيف مؤلفة بكاملها من أجزاء قديمة من الأعمدة. وعلى طول الشاطئ, الى الجهة الغربية التي تعدى عليها البحر, يوجد توجد بقايا أرضيات فسيفساء مصنوعة بشكل جميل وما زالت صامدة”.
ويشير أخيرا الى موضوع المياه, حيث توجد في عدة أجزاء من المدينة صهاريج محفورة في الصخر وآبار, و أخرى موجودة تحت الأرض”.
يختم “روبنسن” مجموعة المشاهد التي نقلها لنا, بسرد بعض المحطات التاريخية للمدينة, مبتدأ بقوله :”من الواضح أن بيروت عانت كثيرًا من الزلازل الأرضية, لكنها عانت أكثر من الغزوات التي تعرضت لها مرارًا وتكرارًا. ولا تزال بيروت مكانًا لطيفا للغاية, وبسبب موقعها الجميل, وصحة مناخها, والمزارع الغنية التي تحيط بها, يميل الغرباء غالبا, إلى إطالة إقامتهم هنا لفترة طويلة زيادة عن المدة المحددة أصلاً لمغادرتها”.
بعد ذلك, يخبرنا “روبنسن” انه قام بزيارة الى عدة قرى مسيحية و درزية في المتن, يعود بعدها الى بيروت, فيلتقي القنصل الفرنسي “هنري جيز”(5), و يتناول العشاء معه.
وعن بيت “جيز” يحدثنا انه ” أحد أفضل المنازل في بيروت؛ فإلى جانب كونه رحبا للغاية, فإنه يتمتع بإطلالة رائعة على البحر, خاصة من الشرفة التي تعلوه, و التي وجدنا في إحدى زواياها راية تعلمّنا حتى الآن, أن ننظر إليها على أنها معيار للثورة”.
أخيرا, في الثالث عشر من شهر تشرين الأول \ أكتوبر , يغادر “روبنسن” بيروت برفقة صديق له متوجهين على ظهر بغلين الى طرابلس, و يرافقهما سيرا على الاقدام, صبي ماروني اسمه “حنا”, مهمته كانت أن يعود بالبغلين بعد الوصول الى طرابلس.
________
الحواشي:
(1) القنصل الإنكليزي في بيروت وعكا منذ عام 1820, بيتر أبوت.
(2) الفوّة , نبات كان له استخدامات طبية.
(3) تسمية كانت تُطلق على الأراضي الأمريكية التي وصل إليها المستكشفون الإسبان.
(4) نقد فضي كان متداولا زمن الإمبراطورية الإسبانية منذ القرن السابع عشر.
(5) ديبلوماسي فرنسي, له عدة كتب عن بلاد الشام وتاريخها.
***
*باحث في التاريخ. عضو جمعية تراثنا بيروت.