لئن كان للمرأة بعض شخصيَّات تراثيَّة عاشت في الوجدان البيروتي من خلال حضورٍ لها في مجالات القوة والنُّفوذ والعمل؛ فثمَّة مجال آخر اقتصر على النِّساء في التُّراث البيروتي؛ إنَّه البيت الذي شكَّل المملكة الأساسيَّة للمرأة البيروتيَّة. ومن خلال الوجود في هذه «المملكة» كانت نساء بيروت يتوزَّعن ضمن شخصيَّات احتلت وجوداً لها لافتاً في الموروث الشَّعبي وتركن، عبر هذا الوجود، بصمات واضحة لهن في رسم تَشكُّلات المجتمع النَّسوي في المدينة.
أ) الخَانُم:
هي في الوجدان الشَّعبي البَيْروتِيِّ التُّراثيِّ المرأة صاحبة المقام الاجتماعي المميَّز. وقد تكون، الخانم، ابنة الكبير المتميّز بمكانته، بغضِّ النَّظر عن سنها؛ فـ«الخانم»، ههنا، قد تكون زوجة الرُّجل أو أخته أو إحدى بناته. وقد تكون الخانم كبيرة قومها ونساء عائلتها ومجتمعها، بشخصيتها الفذَّة وعمرها المديد وحكمة تصرُّفاتها. وأصل اللفظة تركي-فارسي، يعني السيِّدة. ويبدو أن شخصيَّة «الخانم»، لكثرة من تمثَّلت عبرهنَّ من النساء، وكان من الواجب أن لا يلفظ الاسم الصَّريح للـ«الخانم» من غير ما مصاحبته بلقب «الخانم»، وفي بعض المرَّات كا يكتفى باللقب من دون الاسم. لم تترسخ شخصيَّة «الخانم» في الوجدان الشَّعبي البيروتي بامرأة بحدِّ ذاتها، بقدر ما تمثَّلَت بقِناع جمعي.
ب) السِّت:
هي ربَّة البيت بشكل عام؛ ولقد كادت هذه الشَّخصيَّة تحتلُّ مكان شخصيَّة «الخانم» في الوجدان الشَّعبي البيروتي بعد غياب الحكم العثماني؛ فاعتبر البيارتة كل من كانت مؤهَّلة لأن تمثِّل شخصيَّة الخانم، مؤهَّلة لأن تمثِّل شخصيَّة «السِّت». ولفظ «السِّت» منبثق من اللفظ العربي الفصيح «السيِّدة». ولقد توسَّع الوجدان الشَّعبي في مفهوم شخصيَّة «السِّت»، حتى بات بالإمكان الإشارة إلى كل أنثى بالغة على أنَّها «ست». ولعلَّ مديرات المدارس كُنَّ من أشهر من عُرِفنَّ بشخصيَّة «السِّت» ولقبها في بيروت؛ ومن بين هؤلاء السِّت عزيزة طيَّارة والسِّت نجاح المحمصاني. ومال بعض البيارتةِ، وخاصَّة المسيحيين منهم، في مرحلة الانتداب الفرنسي وما بعدها، إلى اعتماد لفظ «المَدَام» من اللفظة الفرنسيَّة «madame»، في هذا المجال بديلاً من «السِّت»؛ فعرفت من مديرات المدارس مدام نعمة؛ وجاراهم بعض المسلمين في هذا باستخدام لفظ «مضام»، خاصَّة عند الحديث عن سيِّدة مسيحيَّة أو مخاطبتها، وهو تصحيف لفظي يقوم على إبدال الدَّال ضاداً في اللَّفظة الفرنسيَّة.
ت) الحَجَّة:
هي الصُّنو النِّسائي للـ«حج» في المجتمع الذُّكوري.
ث) بنت البيت:
هي الفتاة ذات المربى الحَسَن والأخلاق الرَّفيعة التي تُضْرَبُ الأمثال بطهارتها وعفّتها وبراءة تفكيرها وبُعْدِها عن كل ما هو دنيء في التصرُّف أو النيَّة. وهي، كذلك المرأة ذات الأخلاق الرَّفيعة التي تصون بأخلاقها كرامة زوجها وأسرتها ومجتمعها، فتصبر على الصِّعاب من دون إفصاح أو عتب؛ وتكدُّ بصمت شريف في سبيل السَّتر الاجتماعي، ولا تخرج من دارها إلاَّ لضرورة قاهرة. وكثر جدَّاً من فتيات بيروت ونسائها من كنَّ على هذه الحال، وكنَّ في الوجدان الشَّعبي يشكِّلن قناعاً جمعِيَّاً لـ«بنت البيت».
{ خُلاصة:
يحفظُ الوجدان الشَّعبيُّ البيروتي بيروت مدينة حديثة نسبيَّاً في تاريخها الاجتماعي المعيش؛ فهي مدينة لا تمتدُّ، عبر ما يحفظه وجدانها الشَّعبي في الزَّمن، لأكثر من قرنين. أمَّا ما كان من حياتها الاجتماعيَّة والشَّعبيَّة في المراحلِ التي سبقت هذين القرنين، فصار في ذمَّة التاريخ الذي يحتاج إلى من ينقِّب عنه في أمهات المصادر، إن حفظت، أو من بعض بقايا أو ترسبات اجتماعيَّة قلَّ أن انتبه إليها الباحثون المتخصصون والدَّارسون المحللون المتعمّقون. فالتاريخ الشَّعبي لمدينة بيروت، في عمق عقود الزَّمن، بحاجة إلى من يكتشفه ويعمل على نفض أكوام من غبار النسيان والإهمال والضياع والتشتت عنه. بيروت التي يعرفها النَّاس، وفاقا للوجدان الشعبي، هي المدينة التي تحوَّلت إلى ولاية عثمانيَّة في منتصف القرن التاسع عشر؛ أمَّا ما سبق هذه المرحلة فيشكِّل دعوة ملحَّة للباحث والتنقيب والاستدلال عن مقومات وجوده التاريخية ومجالات تحوُّلانه الزَّمنية.
ويُظْهِرُ الوجدان الشَّعبيُّ لبيروت بيروت، على صغر مساحتها، مدينة عمل وتجارة وسلطة. ويُظهِرها، كذلك، مسرحاً للأقوياء في شخصياتهم وحضورهم وقدراتهم، بغضِّ النَّظر عن كونهم من الذكور أو الأناث. فللقوَّة والغَلَبَة والقدرة على التَّنظيم والسَّعي في تحصيل ما يمكن من يسير المعرفة والعلم المدرسيين والنُّفوذ لدى الجهات الحاكمة والمجتمعيَّة الدَّور الأساسيَّ في رسم قِيَمِ المدينة ومفاهيمها وملامح مجتمعها. المرأة، كما الرجل، كان لكل منهما حظٌّ للظهور في الشَّأن العام، والمقياس في كلِّ هذا كان عبر إمكانيات القدرة الاجتماعيَّة على التأثير والنفوذ. والحياة العامَّة، على انفتاحها، حفظت للحياة الخاصة، وخاصة في جانبها النَّسوي، احتراماً وتقديرا ومهابة.
________
* رئيس المركز الثقافي الإسلامي