يا فتاح ياعليم يا رزاق يا كريم، سبحان مين مقسم الأرزاق، أصطبحنا وأصبح الملك لله“…
بهذا الدعاء كان يفتح صاحب “دكان الحي” قديماً، زمن الخير والبركة، بابه محله الخشبي في الصباح الباكر من كل يوم، إستعداداً لآستقبال زبائنه من “أولاد المحلة” (المنطقة) لشراء حاجات بيوتهم قبل مغادرتهم إلى أعمالهم أو وظائفهم…
الدكان زمن البركة والقناعة
فقبل الحرب المشؤومة بكل تحولاتها التي عصفت ببلدنا، وأطاحت بالكثير من بناه وسلوكياته وأنماطه وقيمه المجتمعية، كان “دكان الحي” الذي يلبي حاجات الناس الضرورية، له مكانته وخاصيته وحضوره المميز في سائر المناطق السكنية، بمختلف طبقاتها ومستوياتها الإجتماعية والمعيشية، حيث كان صاحب الدكان يعتمد على محيطه السكني، وبالمقابل أهل الحي يقصدونه لشراء كل موادهم الإستهلاكية “كل يوم بيومه”، فوقتها لم تكن المواد المعلبة والمثلجة لا دارجة ولا رائجة، فربات البيوت كن يحرصن على كل ما هو طازج من خضار وفاكهة ولحوم ودواجن وسواها.
إذا كان الدكان مقصد الناس في زمن البركة والبساطة والقناعة، للتسوق وتأمين الإحتياجات اليومية الأساسية من مواد تموينية وغذائية وإستهلاكية للبيوت والمنازل، وذلك قبل زمن التخمة و التحول الإستهلاكي الجشع، و قبل أن تتوحش شهوات الناس بِنَهم ماهو ضروري وما هو غير ضروري من المنتوجات الكمالية من “المولات” و”السوبر ماركات” العملاقة، على سبيل التباهي والتفاخر والمباهاة!
علاقة ثقة بين “الدكنجة” والزبون
فالعلاقة التي كانت تربط إبن الحي ودكاكينها المنتشرة، علاقة حميمة ودافئة، علاقة ثقة وأمانة، لم تقتصر يوماً على علاقة البائع والمشتري، بل علاقة ترسخ النسيج الإجتماعي الذي كان قائماً بين الناس، وأساسه القيم الأخلاقية والإنسانية ومراعاة عامل الجيرة والعشرة، “فالعشرة لا تهون إلا على إبن الحرام”.
في الدكان كان يجد المشتري ضالته، دون تكلف، وبكلفة حلال، ودن بطاقة إئتمان إلكترونية، ودون أن يحتاج إلى “عرباية” يجرها ليضع بها مشترياته، بل كان عليه أن يطلب من صاحب الدكان إجتياحاته ليعبئها له في أكياس الورق البنية، ويرسلها له إلى باب بيته بواسطة “الصبي” على دراجته الهوائية السوداء، لأن “الدكنجي” أو (التكنجة) باللهجة البيروتية القديمة، كان عنده “مخافة الله” ويرضى بالربح القليل، ويغار على إبن محلته، وكان يطول باله عليه في الدفع، فغالباً ما كان يُدَّين الموظف حتى يتقاضى راتبه آخر الشهر، ويدوين “سحوباته” على دفتره الخاص.
الدكان ينقذ زبائن “المولات” و”السوبر ماركت“
وها هو الإعتبار في زمن “كورونا” اللعين يعود إلى “دكان الحي”، بعدما كان تعيش آخر أيامه، وكأن عجلة العدالة تدور دورتها، وكل شيء يرجع كما كان دون قيود، فها هي الدكاكين تنقذ الناس المحاصرين بفعل العزل الإلزامي في منازلهم، لجهة تأمين مستلزماتهم الأساسية، خصوصاً وأن أغلبية “المولات” والسوبر ماركت” قد أغلقت أبوابها، في حين إتخذ من بقي منها مشرعة أبوابها أمام الزبائن إجراءات مشددة وأقرب ما تكون إلى الإجراءات المذلة.
العودة الإلزامية للدكان
فها هم من ركبوا موجة الحداثة المدنية والرفاهيه والإستعراضات الذي كانوا يمارسونها في الأروقة الفسيحة، حيث كانوا يتجولون بين أجنحة البضائع المختلفة التي يستدل عليها بواسطة اللافتات والسعام والإشارات، والتي كانت بالنسبة لهم مكاناً لهم للنزهة والتجوال، عادوا مرغمين إلى بيئتهم وإلى محيطهم، بعدما خانوها، فيكفي الواحد أن يتصل ب “الدكنجي” القريب من منزله، حتى يؤمن له كل إحتياجاته في طرف ربع ساعة، أما في حال رغب أن “بخطف رجله” إلى الدكان فيجد صاحبه يستقبله بكل حرارة وترحاب، بعيداً عن العتب أو الإنتقام لهجرته الطويلة له، لأن “الجار للجار”، و “عند الشدائد تظهر معادن الناس”.
واليوم لسان حال تلك الدكاكين الشعبية المتواضعة يقول: “صحيح الزمن دوار”، وكذلك: “إحفظ عتيقك، جديدك ما بدملك”!!!
“صحيح الدكان صغير، بس القلب كبير”؛ إذ أن الدكان رغم صغر حجمه، كان يضج بالسلع والبضائع “أشكال ألوان”، “على مد عينك والنظر”، فيه “ما هبّ ودبّ“…
بهذه التعابير المصطلحية المستمدة من القاموس الشعبي يمكن أن نصور ما كان عليه الدكان أو محل البقالة، “كوحدة” إجتماعية، دورة الحياة فيها كاملة، حتى غدت تلك الدكان البسيطة والمتواضعة عنصراً يضاف إلى باقي العناصر القديمة التي كانت تتكون منها “المحلة” (المنطقة) كالمقهى الشعبي واللحام والفوال والنجار والسنكري والكندرجي والمنجد والمجلخ، و باعة الخضار المتجولين الذين كانوا ينادون على بضاعتهم بأصواتهم الجهورة، قبل أن تستخدم مكبرات الصوت، من دون إلغاء الوظيفة الإقتصادية المركزية والعامة لوسط بيروت التجاري (البلد) كسوق عام، وتحديداً أسواق “النورية” و”اللحامين” و”السمك” و”أبو النصر” و”درج خان البيض”…
الآرمة المعدنية
أول ما كان يلفت الإنتباه عند النظر على الدكان “الآرمة” المعدنية أي اليافطة في أعلى واجهته، التي لم يوفرها الصدأ من جراء قدمها، وكانت غالباً تقدمة من إحدى كبرى الشركات التجارية، كنوع من إعلان لها، لا سيما شركات المشروبات الغازية والسجائر، وكانت يكتب عليها تخطيطاً “بالبويا” إسم صاحب الدكان ورقم هاتفه والأصناف التي يبيعها. وقتها لم تكن قد درجت “الآرمات” المضاءة، وإن توفرت، فإن لا قدرة لصحاحب الدكان من تركيبها، بسبب كلفتها الباهظة بالمقارنة مع موازنة دكانه.
الباب الخشبي والساقوطة
وكانت أغلب الدكاكين القديمة أبوابها عبارة عن “درفتين” خشبيتين لهما “ساقوطة” حديدية يوضع فيها قفل كبير. وعند فتح البابين أول ما يظهر أمام الناظر “أقراط” الموز البلدي “أبو نقطة” المعلقة على سقف مدخل الدكان بواسطة خيط “المصيص” لتتدلى منه لشد الإنتباه إليها.
بسطة الخضار والفاكهة الرصيفية
وبعد أن يفتح الدكنجي الباب، يبدأ بتوضيب بسطة الخضار والفاكهة، التي تتوزع ما بين محله وجزء من الرصيف، والتي كانت تعرض في “السحاحير” (الصناديق) الخشبية، قبل أن تستبدل في زماننا بالبلاستيكية منها، وذلك بعد أن يكون قد أخضرها بنفسه مع ساعات الفجر الأولى من سوق الجملة التي كان يعرف “بسوق المعلمين” أو “سوق الأرجنتين” (نسبة لإسم ذالك الشارع في وسط بيروت التجاري (البلد). وكانت توضب “بسطة” الخضار بشكل منسق، فتبدو كلوحة فنية مرسومة بحبات الخضار والفاكهة الطازجة التي “تشق القلب”، والتي هي أشبه بمهرجان من الألوان الزاهية.
البراد ذات الواجهة الزجاجية
أما البراد الأبيض العريض ذات الواجه الزجاجية، إذ كان بإمكان الزبون مشاهدة ما هو معروض في داخله، حجمه يتفاوت بين دكان ودكان، بحسب حجمه، أما سبب وضعه في منتصف الدكان لأن باببيه المخصصان لوضع وإخراج المواد الغذائية التي تحتاج للتبريد، كان من الخلف، وليس من الجهة الأمامية كما هي عليه البرادات الحديثة، لذا كان يتم وضعه في منتصف الدكان، تسهيلاً لفتح وإقفال البابين. وفي داخلها كانت توضع “تنك” الجبنة الحلوم والعكاوي والبلغاري والبلدية، والسمن البلدي والزبدة “الفلت”، وقوالب الحلاوة و”القشقوان”واللبن في “القدر” الفخارية، وأكياس اللبنة، كما كانت تصف “قناني الكازوز” الزجاجية التي كانت ترد ذات “الطبة”، لا سيما منها ما كان على نكهة التمر الهندي والليموناضة، والفائض منها و”الفراغة” كانت “تستف” صناديقه الخشبية فوق بعضها في إحدى زوايا المحل.
الحبوب والبهارات في أكياس “الخيش” أو البراميل الخشبية
كان يخصص في الدكان ركناً مخصصاً لعرض الحبوب والبقوليات من أرز وبرغل وفول وحمص وعدس والفصوليا، إضافة إلى البهارات على أنواعها، فضلاً عن السكر والملح والنشاء والطحين والسميد، وكانت توضع في أكياس من “الخيش”، مصفوفة إلى جانب بعضها، أو في براميل خشيبة تقوى دوائرها السفلية والعلوية بالحديد للتثبيت، التي تستخدم أيضاً لوضع الزيتون فيها، حيث أنه في ذلك الزمان كانت جميع هذه المواد تباع بالوزن حسب رغبة الشاري، قبل أن تدرج عادة بيعها جاهزة في أكياس النايلون. وفوقها كان يستدل من السقف “شناشيل” الملوخية والبامية الناشفة.
الرفوف
أما الرفوف الخشبية التي تحيط كل جوانب الدكان، فإن كل قسم منها مخصص لصنف معين من المواد الإستهلاكية، والموزعة وفقاً للخارطة التي يرسمها “الدكنجي” في فكره، فعليها تعرض مختلف البضائع من الصابون البلدي والبرش والصابون الحلو المصنوع من الغار وزيت الزيتون، وحبات “النيل” الأزرق (لتبييض الغسيل)،والمكانس والمقشات والمماسح والليف والإسفنج وملاقط الغسيل، ومعجون الأسنان والحلاقة والشفرات وزجاجات العطر، والدخان والكبريت والشمع، وعلب الشاي والزهورات والمليسة، و”كراتين” البيض، والمعكرونة والشعيرية وراحة الحلقوم، والطحينة… واللائحة تطول بما يخطر على بالك من حاجيات وسلع غذائية بأدق تفاصيلها، حتى الأطفال الذين يريدون أن “يتشبرقوا” لهم ما يشتهون من شوكولاتة وبسكوت وسكاكر ومعلل ونعومة وملبس على قضامة، كلها توضع في “مراطبين” زجاجية شفافة لتجعل الأطفال يشتهونها لصرف “خرجيتهم” التي هي عبارة عن بضعة قروش على شرائها…
سرقتنا الحداثة وسرقنا زمن السرعة، وإندثرت تلك الدكاكين بدفئها وحنانها، وإستبدلانها بالمخازن الكبرى!
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراث بيروت