“الرزق محدود والرب معبود“،
“حسب نواياكم ترزقون“،
“الحسود لا يسود“،
“من راقب الناس مات هماً“،
“يا بني آدم مهما تكوش، غير رزقك ما بتحوش“…
“الدكان حد الدكان والرزق على الرحمن“…
حكم وأقوال مأثورة يعلقها “الدكنجي” في دكانه لتعكس ثقافته الشعبية وما يتمتع به من خبرة عميقة إكتسبها من تراكم تجربة السنين التي قضاها يتفاعل مع مختلف شرائح مجتمع “الحي”.
فكان “الدكتجي” سيد “مملكته”، مستبدلاً التاج بالقلّوسة البيضاء، التي هي جزء مكمل للمريول “كاكي” اللون الذي يرتديه فوق ملابسه، مشمراً عن أكمامه، ويلف رقبته شتاءً بشال من الصوف، وصيفاً يضع منشفة صغيرة على الجانب الخلفي من رقبته لتقيه عرق الحر، وغالباً ما يضع نظارتين سميكتي الزجاجتين.
يجلس على كرسيه المصنوع من خشب “الزين” خلف مكتبه الصغير الذي “أكل عليه الدهر وشرب”، المزدحم بكل “كراكيبه” من لوازم عمله، فعليه يضع الميزان ذات الكفتين وجنبه الأوزان، ودفتر الديون، و”الترانزستر”، وأكياس الورق البنية…
مواصفات الدكنجي
“الدكنجي” .. غالباً ما يكون كبيراً في السن، حيث أن عمره يتراوح ما بين الستين والسبعين، فمهنته لم تعد مهنة شبابية، بل يطغى عليها صورة العجوز، التي تختزن تجاعيد ملامح صاحبها أخبار وخبايا أبناء “محلته”، مما يجعله يستحوذ على إحترام جميع أبنائها.
من يتعامل معه مرة لن ينساه أبداً لما يتركه فى نفسه من إنطباع جميل، فهو بشوش الوجه، يقابل زبائنه بإبتسامة تعبر عن بساطته وطيبة قلبه، لطيف المعشر، على خلق ودين، يتحدث إلى الطفل كأنه طفل، ومع الكبير كأنه أكبر منه…
عشراوي و”مسايرجي:
لذلك كان الجميع يحبونه ويحترمونه ويستلطفون حديثه ويتشوقون إليه، لأنه “عشراوي ومسايرجي”، فترى الجميع يتوددون إليه كباراً وصغاراً…
كان له تعابيره الخاصة التي يخاطب فيها زبائنه وجيرانه نساءً ورجالاً وأولاداً، و”يتحركش” (بالمعنى الإيجابي) “بالرايح والجايي” بالكبير والصغير و”المقمط بالسرير”:
“الله معك يا جار، تفضل ميل، شايلك حبتين لوبية بادرية على ذوقك، وشوية ملوخية خضرة فشقوا القلب،
“وين هالغيبة؟ صرلوا زمان هالقمر مابان! وجك ولا ضو القمر!؟” قرب على الفي يا خاي”.
“الله معك يا أختي، عجبوكي الخضريات مبارح؟” ناقصك شي اليوم؟”
“كيفك عمو؟ ماشي حالك بالمدرسة؟ بعدك (بتعفرت) بالبيت؟ سلملي على أبوك”، قلّلو ناطرو على عل “دقّ طاولة” بعد العصر”…
دفتر الدكنجي
دفتر “الدكنجي” أو “التفتر” كما كان يلفظ باللهجة البيروتية، أي دفتر الحساب الشهري للمستدينين، (بالرغم من تلك اليافطة المعلقة في صدر الدكان المكتوب عليها: “الدين ممنوع والعتب مرفوع والرزق على الله”!) ذلك الدفتر الشهير الذي كان حاضراً في كل دكاكين الأحياء السكنية، وحافظاً أسماء سكانها وحساباتهم الشهرية في مقابل مشترياتهم المتفرقة للتموين اليومي كلما دعت الحاجة.
وهذا الدفتر كان غاية في الفوضى المنظمة حصراً في زهن “الدكنجي” التي لا أحد غيره بإستطاعته تفكيك “شيفرته”، التي يدونها بقلم “كوبيا”، (كلما كتب يبله بريقه)، إذ كان يخصص صفحة منه لكل من زبائنه، لتسجيل ما “يسحب” (يشتري) من عنده من مواد تموينية. وكان الزبون يصق به ثقة “عمياء” لأنه يدرك تماماً أنه “صاحب ضمير” و”ذمته واسعة” و”بخاف ألله”. ومن خلاله كان “الدكنجي” يعرف الأوضاع الاقتصادية لزيائنه وتفاصيل حياتهم وقدرتهم الشرائية.
مختار وكاتم الأسرار
“الدكنجي” كان دليل الحي، العالم بأسرار ناسه وأهله وأخبارهم، هو الذي يعرف عناوينهم، وتودع لديه الرسائل وفواتير الكهرباء والمياه والبلدية لمن ليس له عنوان بريدي.
هو أقرب إلى ما يكون مختار الحي، يعرف الجميع، يستمع إلى مشاكلهم وأحوالهم، بكل تفاصيلها وأسرارها، التي يحافظ على كتمها في داخله، لا يبوح إلا بما هو مفيد منها، فإذا به أشبه “بالصندوق الأسود”، مما يضفي على مهنته بعداً إنسانياً وإجتماعياً، فمن أراد من أبناء “المحلة” أن يخطب لإبنه كان يسأله عن بنت الحلال، وبالمقابل الأب الذي تقدم أحد أبناء الحي لطلب يد إبنته، يسأله عن أخلاقه وسمعته على سبيل المشورة.
ها هي اليوم “كورونا” اللعينة تستيقظ ضمير الناس التي أهملت دكان الحي، ليستعيد حيويته من خلال قدرته على تأمين إحتياجات الناس خلال “زربتهم” في منازلهم، هؤلاء الناس الذين خانوه بفعل ركوبهم موجة الحداثة، وإنحيازهم إلى المحلات ذات المباني العالية و الطوابق الشاهقه.
لكن السؤال: هل هذه الصحوة تجاه الدكان آنية، مرهونة بالتخلص من هذا الوباء؟ بعدها.. يعود رصيف الدكان ليتحول مجدداً مجرد ملتقى للعجائز والمتقاعدين؟ لتمضية وقت فراغم بجلسات تبادل أطراف الحديث، بإنتظار دخول “زبون العوافي” أو “زبون آخر الليل”، فيكون لسان حال “الدكتجي”: “خود هالزبون وسكر”!!!
________
* إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراثنا بيروت.