لا يُمْكِنُ للإنسان إلاّ أن يكون شاهداً على الزَّمن الذي عاش فيه، وذلك بحُكْمِ تفاعلهِ مع بيئةِ ذلك الزَّمنِ في مختلف تنوُّعاتِها. ومِن بديهيَّات القول، إنَّ الإنسان لا يستطيع العيش في عزلة عن بيئته؛ ولا يمكن له، تالياً، أيَّاً كان مزاجه الفرديّ، وأيَّاً كانت ظروفه الشَّخصيَّة أو الاجتِماعِيَّة، إلاّ أن يحيا ضمن مجموعة من النَّاس، متجاوِباً مع ما يجده أو رافضاً له، وربما ساعِياً إلى تغييرٍ ما فيه. هكذا، يمارس الإنسان وجوده، عبر عيشه في مجموعته فاعلاً، ومنفعلاً؛ فلا يكون إلاَّ بها ومنها وإليها. وكلما كَبُرَت هذه المجموعة، بِعَددِها ونَوْعِيَّة أحداثِ حياتها، كلَّما ازدادت شهادةُ إنسانها عليها!
من هذا المنظار يمكن الانطلاق في التَّعامُل مع موضوع «عُمَر حَمَد»، الذي اشتُهر اسمه شابَّاً ثائراً عُلّق، حتَّى الاستشهادِ، على مشانق «جمال باشا» سنة 1916؛ لكن ما يُعرف عن «عُمَر حَمَد» قليلٌ وقليلٌ جدّاً. ويبدو أنَّ حادث استشهاد «عُمَر حَمَد» طغى على ما عداه من أحوال الرجل؛ إذ هذا الإستشهاد، وإن أتى نتيجة حياة صاحبه وظروف هذه الحياة؛ فإنَّه كان، بدراماتيكيَّة حصوله، أكبر من حياة صاحبه وأعظم من كلِّ ما أنتجه صاحبه.
عُلّق «عُمَر حَمَد» على حبل مشنقة «جمال باشا»، في أجواءٍ مأساويَّة ضاغطة. فعمر، عهد ذاك، كان بين كوكبة عارضت «الحُكم العثماني الطُّوراني»؛ وكانت هذه المعارضة في السِّرِّ كما في العَلَنِ؛ وكان الجانب العلنيُّ المُعلنُ منها، حدثاً فذاً قلَّما اعتاد ناس ذلك العهدِ، على مثل جرأته وقوَّته، خاصَّة وأن مَن يقومون بهِ، أمثال «عمر حمد»، يمثل «الحكم العثماني»، وليس الطُّورانيُّ، بالنسبة لكثير من ناس بيئتهم الاجتماعيَّة والثقافيَّةِ غطاء قوياً لوجودهم. وارتقى «عُمَر حَمَد»، حبل مشنقة «جمال باشا»، قائد الجيش العثماني (الطُّوراني) الرَّابع»، ليواجه الموت؛ وهو، كما يقال، غضّ الأهاب، لم يتجاوز الثَّالثة والعشرين من عمره على أبعد تقدير. ثم إنَّ استشهاد «عُمَر حَمَد»، في مجموعة كان فيها المسيحي والمسلم معاً، ضمَّت أبناء معظم المذاهب في هاتين الطَّائفتين الدِّينيتين، كان فعلاً جبَّاراً في الدَّلالة على معارضة وطنيَّة للحكم «العثماني الطًّوراني» في البلاد، وهذا حدث كبير في ذلك العهد. يضاف إلى كلِّ هذا، أنَّ استشهاد «عُمَر حَمَد»، والمجموعة التي عُلِّقت معه على أعواد مشانق «جمال باشا» في بيروت، لم يكن الحدث الوحيد من نوعه في تلك المرحلة؛ فثمَّة مجموعات أخرى، سبقت تلك المجموعة أو لحقت بها، كان استشهادها في دمشق، أو عن طريق الاغتيال السِّياسي الفردي.
الحدثُ عظيمٌ، وأبعاده جسيمة الأثر وجليلة الشَّأنِ في تاريخ ناس الوطن، الذين عاشوا ردحاً طويلاً وطويلاً جدّاً من الزَّمن تحت الحُكم العثماني، وليس الطُّوراني؛ وكانت فئات كبيرة منهم ترى في الحُكم العُثمانيِّ، وليس الطُّورانيِّ، مجال حياة أصيل لهم؛ بما كان يمثله «الحُكم العُثمانيُّ» من وجود للخلافة الإسلاميَّة، ومن تحقُّق للفكرة الإسلاميَّة في تعامُلٍ «عادلٍ» مع ناسِ القوميَّات المختلفة المنضوية تحت لوائها. والحدث أيضاً كان كبيراً بالنسبة لحياة «عُمَر حَمَد» الشَّخصيَّة. فعمر كان في مطالع العمر، بل في ريعان الفتوَّة، وكانت آثار عهد التَّلمذة لا تزال واضحة عليه؛ فهو لم يكد يترك مقاعد المدرسة حتى كانت له تلك الجولة الغنيَّة، ولكن القصيرة، في دنيا الجهاد والنِّضال. وأخيراً، وليس آخراً، فـ «عُمَر حَمَد»، الذي كان لا يزال في طور العمل على تشكيل شخصيَّته الفكريَّة والأدبيَّة، قد قضى دون أن يكتمل نموُّ هذه الشَّخصيَّة بأبعادها المختلفة. ويبقى القول إنَّ «عُمَر حَمَد»، والمجموعة التي شاركته العمل السِّياسيَّ والاستشهاديَّ، زمنذاك، قد ودّعتهم الدنيا وهي منهمكة في استقبال حدثٍ كبيرٍ ومُزَلْزِلٍ في تاريخها، ألا وهو «الحرب العالميَّة الأولى».
أصبح «عُمَر حَمَد»، والمجموعة التي كان واحداً من أفرادها، رمزاً لإرهاصات التَّغيير في مرحلة هامة جداً من التَّاريخ الوطنيِّ المعاصر. ولعل تحوّله، مع تلك المجموعة، إلى رمز قد أعطى معنى وجوده، بعد الاستشهاد، دلالات طغت على الاهتمام بحقيقة ما كانه ذلك الشَّاب، أو واقعيَّة. وهكذا ظلَّ «عُمَر حَمَد» يعيش في وجدان النَّاس كَياناً وجدانِيَّاً غائماً، أكثر منه وجود حياة لها حلقاتها المتسلسلة المترابط بعضُها ببعضها الآخر؛ والمؤدِّية، بأسبابها المنفصلة والمتَّصلة معاً، الكبيرة منها كما الصَّغيرة، البسيطة منها وكذلك المعقَّدة، إلى ذلك الرَّمز الذي نهض مارداً في ضمير الأمة موسوماً باسمٍ تنفطرُ له القلوبُ كما تخشعُ له الضمائر وتتفكَّر فيه العقول، «قافلةُ شهداء سنة 1916»؛ وصار بداية صرخة التَّحرّر الوطنيِّ الشَّامِلِ من الحكم التُّركيِّ. ولم يقتصر هذا العيش الوجدانيُّ، القائم في ضمير الأمَّة، على مِثالِ «عُمَر حَمَد» وحده؛ بل انسحب على كثير من رفاقه الذين لا تعرف غالبيَّة النَّاسِ، اليوم، عنهم سوى النَّذر القليل، بل النَّادر؛ كما هي الحالُ مع الشُّهداء «محمَّد المحمصاني، وكان، وفاقاً للمتواتر من أخباره، يحمل شهادة الدكتوراه في الحقوق من فرنسا، كما وضع كتاباً بعنوان «الفكرة الصّهيونيَّة»، و«محمود المحمصاني» الذي شغل منصباً في «مصلحة البَرق»، وكان يُتقن من اللُّغات العربيَّة والتُّركيَّة والفرنسيَّة؛ ومعهم رَهْطٌ آخر شبه مجهولٍ، منهم «محمود عَجَم» و«يوسف بيضون» «محمَّد جلال الدِّين البخاري» و«عبد القادر الخَرْسا» و«علي النَّشاشيبي».
إنَّ المتوافِرِ من معلومات مباشرة عن حياة «عُمَر حَمَد» قليل جداً؛ بل لعلَّه الأقلَّ مما أمكن جمعُهُ من معلومات عن حياة رفاقه في قافلة الشَّهادة التي قضى فيها. ولعلَّ المصدر الوحيد لهذه المعلومات هو ما كتبه شقيقه «أحمد حمد»، بلغة بسيطة، أقرب ما تكون إلى عفويَّة اللهجة المحكيَّة وسذاجتها؛ والذي أثبته هذا الشَّقيق في نهاية «الدِّيوان» الذي جمعه لـ «عُمَر حَمَد» سنة 1969. ولا يبدو أنَّ ثمَّة طبعة سبقت من «الدِّيوان»، لانعدام أيَّة إشارة إلى ذلك. وهذا «الدِّيوان» الذي عُنْوِنَ باسم «ديوان الشَّهيد عُمَر حَمَد»، والذي طُبع ونُشِرَ سنة 1969 على «مطابع وزنكوغراف طبَّارة» في بيروت، يحوي مجموعة قليلة العدد من القصائد التي نظمها الشَّاعر، مضافاً إليها بعض قصائد الرِّثاء التي قيلت فيه؛ وهو كلُّ ما يمكن تحصيله، حتَّى الآن، بصورة مباشرة عنه.
لعلَّ «الدِّيوان»، مع تعاقب السِّنين وتباعد الأيام، قد يكون كلَّ ما بقي من «عُمَر حَمَد» الشَّاعر؛ ولكن، يبدو أنَّ محاولة جمع هذا «الدِّيوان» لم تبدأ سنة 1969، فللدِّيوان مقدِّمة كتبها «عمر فاخوري»، الذي توفي سنة 1946؛ وقد أثبتها في كتابه الشَّهير «الباب المرصود» الذي أصدره سنة 1938، وفيها يذكر أنَّ هذا المقال حول «عُمَر حَمَد» قد نشره سنة 1928! يمكن القول، تالياً، إنَّ محاولة جمع ديوان «عُمَر حَمَد» بدأت سنة 1928، أو قُبيل ذلك؛ ثم ما كان لها أن تظهر وتُنشر إلّا في سنة 1969. ويبدو لمُتَفَحِّصِ «ديوان الشَّهيد عُمَر حَمَد»، أنَّ هذا العمل على نشرِ «الدِّيوان» حصل بجهد شقيق الشَّاعر أو بعض أفراد أسرته؛ فلا ذكر للجنة تكريم أو لجمعية أدبية أو ثقافية قامت برعاية هذا العمل والسَّهر على إتمامه. والكلام المثبت في «الديوان» حول الشَّاعر، مأخوذ من منشورات الصُّحف التي ذكرت قصائد بعض الشُّعراء في رثائه، إضافة إلى حديث لشقيقه السيِّد «أحمد حمد»؛ وهو حديث يظهر واضحاً عدمَ مروره على محرِّرٍ يتحقَّق من صحة لغته وتراكيبه. أما القصائد المثبتة، في «الدِّيوان»، فلا تحقيق حولها ولا شرح لظروف وضعها ولا توضيح لما قد يَكْمُن فيها من مراميها التَّاريخيَّة أو ما تشير إليه من أحداث أو أشخاص. كلُّ هذا قد يساعد على القول إنَّ «الدِّيوان» أتى نتيجة جهد فرديٍّ لشقيق الشَّاعر، ودونما أيِّ تدخُّل من أحد من أبناء الوطن؛ الذي طالما تغنَّى كثيرٌ من ناسهِ بإستشهاد «عُمَر حَمَد»! فما كان نصيب «عُمَر حَمَد»، من النَّاسِ، سوى ذكرهم لإسمه، وذِكْرُ اسمه فقط؛ في حين إنَّ البحث فيما قاد «عمر حمد» إلى الإستشهاد، وما يمكن أن يحويه شِعره من أبعاد إنسانيَّة واجتماعيَّة، ناهيك بتلك الثقافيَّة والسِّياسيَّة؛ والانكباب، تالياً، على البحث في حضوره الإنسانيِّ، فكان النَّصيب الأوفر لهذه الأمور النّسيان والإهمال!
________
* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي