إنَّ القصائد المجموعة في «ديوان عُمَر حَمد»، كما يقول «عمر فاخوري» في المقدِّمة التي وضعها للدِّيوان، ليست كلَّ ما نظمه «عُمَر حَمَد»؛ إنَّها، كما يشير «الفاخوري»، مختاراتٌ من شِعره؛ ولذا، فليس من المُستبعد أنْ يكون لـ «عُمَر حَمَد» قصائد ومنظومات أخرى. ثمَّةَ احتمال كبير أن تكون هذه القصائد والمنظومات منشورة، في بعضِ صحف ذلك الزَّمن، مثل «المفيد»؛ أو قد تكون مثبتة في مجلاَّت أو مطبوعات مدرسيَّة، مثل منشورات «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»؛ أو لعلَّها ما برحت مخطوطة؛ وعسى أن تكون، محفوظة ومصانة عند أهله وذويه؛ كما يمكن الظَنَّ أنَّ بعض شعر «عمر حَمَد» ظلَّ محفوظاً في صدور جماعة مِمَّن عاصروه، ونقله هؤلاء مشافهة إلى أهل هذا الزمن. والأمل أن يتمكَّن الباحثون مِن جمع شتات ما نظمه «عُمَر حَمَد»؛ فِعْلَ عرفانٍ لنضال هذا الفتى، ومفتاحَ معرفةٍ لفهم أبعادٍ من التَّفكير السِّياسيِّ والممارسة الأدبيَّة في مرحلة أساسٍ من مراحل العيشِ في لبنان.
تتألَّفُ مجموعة ديوان «عُمَر حَمَد» من ثمانٍ وثلاثين نصَّاً شعريَّاً، بين مُطَوَّلٍ وقصيرٍ ومقطَّع؛ كلُّ ذلك بلغةٍ سهلةٍ واضحةٍ، وأسلوبٍ جَلِيٍّ، مع نزعة خطابيَّة جَلِيٍّةٍ. أمَّا الموضوع الغالب على ما في «الدِّيوان»، فالدَّعوة إلى نهضة العرب وقيامِ عزِّهم واعتمادهم العِلمَ وسيلةً لارتقاء نفوسهم وسموِّ عقولهم ورفعةِ مكانتهم؛ وقد تسربلت هذه الدَّعوة بمشاعر إسلاميَّة واضحة. والملاحظ أنَّ «عمر حَمَد»، لم يقدر أن يبتعد كثيراً عن مشاعره العروبيَّة، ودعوته إلى النَّهضة العربيَّة، حتَّى في بعض القصائد، ذات الطَّابع الشَّخصي أو الخاص، التي نظمها، على سبيل المِثال، في رثاء صديقٍ أو تهنئة بزواجٍ أو مولودٍ أو حتَّى تبريكٍ بتشييد منزل؛ إذ كان يتطرَّق فيها إلى موضوع العرب وضرورة نهضتهم. فشعر، «حمد»، يدور في معظمه ضمن هذا الفلك، الذي اتخذ فيه الشَّاعر، على صغر سِنِّه، منحىً توجيهيَّاً إصلاحيَّاً.
بلاد العربِ، في شِعر «عمر حَمَد»، هي الموطن والملجأ، ولا يمكن لغيرها أن يأخذ مكانها في نفسه(1):
دَعْ ذِكرَ «روما» فلا صحبَ ولا آل
بِهــــــــــــــــــا لنا وبِها لا يَنْعَمُ البالُ
وشُــُـَّـــد للشَّامِ ترحــــــــــــــــــالاً وخفَّ لها
فمـــــــــــــــا لِمِثْلِ ربوعِ «الشَّامِ» تِرْحالُ
عشقتُ قومي وأوطاني وكلُّ فتىً
في النَّاسِ يعشقُ والعُشَّاقُ أشكالُ
فالعربُ أهلي وحَسْبي ذاكَ مِنْ نَسَبٍ
أميلُ نحــَـــو حِماهُم كَيْفمـــــــا مالوا
تَمَسُّكٌ يَقينِيٌّ بالعروبة، وإصرارٌ شديدٌ على الإنتماء العربيِّ؛ بل عِشْقٌ جارفٌ لكلَّ ما هو عربيٌّ. و«عُمَر حَمَد»، إذ يُعبِّر عن فكره ويقدِّم وجوده، ههنا، صادقٌ جدَّاً، فقوله لا يخالف فكره، وفكره يتَّفق تماماً مع حياته ومع المصير الذي سار إليه بإرادته ووعيه. الالتزامُ الروبيُّ شديد الجلاءِ عند «عُمَر حَمَد»؛ كما أنَّ النَّزعة إلى القوميَّة العربيَّة عنده، قويَّة ولافتةٌ للنَّظر؛ خاصَّةً وهي تصدر في مرحلة زمنيَّةٍ كانت تتأرجَّح فيها توجُّهات النَّاس الفِكريَّة منها كما السِّياسيَّة، في البيئة التي عاش فيها «عمر حمد»، بين غلبةٍ لتوجُّهٍ إسلاميٍّ عثمانيٍّ وآخر إسلاميٍّ بحتٍ، مع إرهاصات لتوجُّهٍ عربيٍّ صرف وآخر علمانيٍّ.
يؤكِّد «عُمَر حَمَد» اعتقاده بأنَّه لا يمكن أن يتحقَّق للعرب أيُّ نهوض أو عزٍّ لهم، إلّا بالعِلم والعمل:
يا أيها العربُ لا مَجْدٌ ولا حَسَبٌ
إنْ لـــَمْ يشرع بكم للعِلمِ عَسالُ
يا أيها العرب لا عزّ ولا نسب
إنْ لَمْ يَقُمْ بَينكُمْ يا عرب فعالُ
أمَّا «الإصلاح العربيُّ» عند «عُمَر حَمَد» فواضح جداً؛ إذ تقوم رؤية «حمد» المستقبليَّة للوجودِ العربيِّ، على عنصري العِلْم والعَمل؛ ولعلَّ في هذا خير توافق مع الخطَّة التي سبق أن أعلنها الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري» لـ «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»(2). ويبدو، جَلِيَّاً، من خلال ما يرد في «الدِّيوان»، أنَّ «حمد» قد التزم، فعليَّاً، بخطَّة كليَّته؛ وفي هذا دليل على نجاح «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة» في نهجها التَّربويِّ الذي مارسته مع «عُمَر حَمَد» ورفاقه.
عمر حمد
كان الإلتزام بالعمل العربيِّ، في وعي «عُمر حَمَد» وفهمه له، أساساً لتقويم الرِّجال؛ إذ حين يرثي صديقه «فؤاد حنتس»، يعتبره خسارة قوميَّة أكثر منه خسارة فرديَّة لصديق. فـ «فؤاد حنتس»، كما رآه «عُمَر حَمَد»، كان ثروة قوميَّة بإمكانها أن تنهض بالعرب، وأن تُعلي من شأنهم؛ ولذا فلقد أسقط «حمد» مشاعره الشَّخصيَّة، تجاه الصَّديق الذي مات، على الأمَّة العربيَّة برمَّتها:
خَسِرَ العربُ فيكَ رُكناً رَكينا
خَسِرَ الكَوْنُ فيــــــــــــكَ بَدراً أتَمَّاّ
خَسِرَ العربُ فيكَ رُكناً رَكينا
كانَ عَوْناً لَهُم إذا الخَطب أَلَمَّا
مَنْ أُعّزي بالخَطْبِ فالخَطْبُ قد جلّ
على العربِ والمُقَدَّرُ تمَّا
وإذا ما أحسَّ «عُمَر حَمَد» تفوُّقاً للآخرين على العربىِّ، في حقل من حقول العلم، فإنَّ «حمد» كان ينتهز هذه المناسبة ليذكِّر بماضي العرب الزَّاهر في هذه الميادين، ويحثَّ العربَ على استعادة هذا المجد. هكذا كان حال «عمر حَمَد» يوم استقبلت بيروت أوَّل طائرة حطَّت على أرضها في 25 كانون الأوَّل سنة 1913، يقودها الفرنسيُّ «فيدرين»؛ وإذ بـ «حمد» يرحِّب بالطيَّار الفرنسي، ويطلب منه أن يحلِّق فوق ربوع الأندلس يسألها عن أوَّل من حاول الطَّيران، «عبَّاس بن فرناس»، ويذكّر العربَ بضرورة عودتهم إلى ما عرف عنهم من عزّ ومجد(3):
جول فيدرين
فلا حياةَ لِمَن يرجو الحياةَ بِلا
جدٍّ وليسَ العُلى إلّا لِمَنْ دَأبا
وكذا كان حال «عمر حمد» إذ أنشد عند وصول الطيَّار التُّركي «فتحي بك» إلى أرض الشَّام(4):
يا عرب قام القائمون
ومـــــــــا برحتم نائمينا
يا أيها العرب انتباهاً
حسبُكُم تتغافلونا
طاروا كما طار الحمام
إلى السماء محلقينا
وَلَبِثتُم في رَبْعِكُم
سُبُلَ التَّأَخُّرِ سالكينا
أَشْبَهْتُم شُعراؤكُم
في كُلِّ وادٍ هائمِينا
يدعو «عُمَر حَمَد»، في توجُّهه الإصلاحيِّ، الذي تتشابك فيه الرُّؤية الإسلاميَّة مع البُعد القوميِّ، الخليفةَ العثمانيَّ إلى مدِّ يده للعرب؛ فعم، وفاقاً لما يقوله «حمد»، أهل ثقة الخليفة وأهل معونته(5):
فخُذ يــــــا عميدَ المُلكِ منهم بطانةً
تَكُن لكَ عَوْناً في الدَّواهي الجسائمِ
دعونا إلى الإصلاحِ كلَّ ابن همَّة
لمنعِ الأذى عنَّـــــــــــا ودفعِ المظالــــــمِ
فكان نهوضُ العربِ في طلبِ العُلى
قذىً في عيونٍ أو شجىً في حلاقمِ
لم يكن «عُمَر حَمَد» ليكتفي بالقول؛ فلا بدّ، عنده، مع القول، من العمل؛ ولا بدّ، تالياً، من الثَّورة؛ وقج أنشد في احد احتفالات التَّخرُّجِ في «الكليَّة العُثمانيَّة الإسلامِيَّة»(6):
تنبَّهوا وانهضوا فالحقُّ مهتضَمٌ
من نام عن حقِّه أودى به العدمُ
هذه ومضات من شِعر «عُمَر حَمَد»، شاهداً على صاحبه وعصره؛ ومن البَيِّن أنَّ هذا الشِّعر بحاجةٍ إلى دراسة متعمّقةٍ ومتأنيّةٍ، تبحثُ في أبعاده الفكريَّة وإلإجتماعيَّة، وتدرس أساليبه الفنيَّة، وتساعد على تقويمه بالنِّسبة إلى عصره وبيئته وأدب مرحلته.
لقد استُشهد «عُمَر حَمَد» بسبب آرائه التي ضمَّنها شعره، الذي كان المجال الأرحب لنضاله؛ والأمل أن لا يبقى شعر «عمر حَمَد» منسيَّاً في ضمائر أبناء وأحفادِ مَن استُشهد من أجل قضيتهم. إنَّهُ دَيْنٌ في أعناق أبناء الوطن، والأمل أن تُتاح الفرصة في عمل متكامل وشامل حول «عُمَر حَمَد» وشِعره.
هوامش:
1 – عمر حمد، ديوان الشهيد «عُمَر حَمَد»، يتضمن مختارات مما نظمه الشاعر وبعض ما قيل فيه من قصائد الرثاء، مطبعة وزنكوفراف طبارة، بيروت، 1969، ص. 9-10.
2 – حويلي محمد علي، التطور الثقافي لمدينة بيروت منذ الفتح المصري لبلاد الشام وحتى الحرب العالمية الأولى (1831-1914)، أطروحة أعدّت لنيل شهادة الدكتوراه اللبنانية في التاريخ، الجامعة اللبنانية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية الفرع الأول، 1990، ص 176ـــ179.
3 – عمر حمد، ديوان عمر حمد، ص. 19.
4 – عمر حمد, ديوان عم حمد، ص. 21
5 – عمر حمد، ديوان عمر حمد، ص. 23
6- عمر حمد، ديوان عمر حمد، ص. 26
________
*رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي