إحتفل تلفزيون لبنان بذكرى ميلاده صامتاً، وحيداً، يتيماً، هرماً، متحسراً، منكسراً، مهزوماً، مرهقاً، مستسلماً!
إحتفل، دون أن يحتفل، دون بهجة، دون مظاهر إحتفالية، أنواره خافتة، ألوانه باهتة، وكأن المناسبة مأتماً أو مجلس عزاء في زمن التباعد الإجتماعي!
سوء طالعه ولعبة الأقدار، وسياسة الإهمال المتعمد بحقه، وقلة الوفاء، جعلت من سنواته ال ٦١ أن تنال منه، وأن ترغمه على التقاعد قبل بلوغه السن التقاعدي، وأن يعتزل في أوج عطائه وتألقه، من جراء الشيخوخة المبكرة، التي كانت كفيلة بالقضاء على أمجاده وريادته وعصره الذهبي، يوم كان أثيره يدخل قلوب اللبنانيين ضيفاً عزيزاً قبل منازلهم، دون إستئذان بالأبيض والأسود، ليلون حياتهم وسهراتهم وجلساتهم العائلية بالترفيه والتثقيف والتسلية والموعظة الحسنة….
****
وحّد الوطن وأسقط الفوراق
تمكن تلفزيون لبنان أن يوحد لبنان بمناطقه واللبنانيين بمشاربهم، محطماً كل الفوارق والحواجز الثقافية والإجتماعية والمعرفية، محدثاً خرقاً وتغييراً مجتمعياً جذرياً في السلوك الإجتماعي والوعي بكل أبعاده الإنسانية عند الناس، أقرب ما يكون إلى ثورة حقيقية، ساوت بين الفقير والغني، بين النساء والرجال والأطفال، بين أهل الريف وأهل المدينة، حيث أصبح بإمكان هذه الفئات أن تتواصل للمرة الأولى بعضها مع بعض، ومع العالم الأوسع، بالصوت والصورة، وباللغة التي تتكلمها، بواسطة هذا الصندوق الخشبي العجيب الذين صاروا يتحلقون حوله، دون أن يكون هناك مناطق معزولة في لبنان منذ ذلك الحين.
جامع العائلة على الرقي والإفادة
في التاسع والعشرين من أيار عام 1959 بزغ فجر جديد قلب الموازين كافة رأساً على عقب، معلناً انطلاقة البث التلفزيوني لأول محطة في الشرق، سميّت آنذاك بـ «تلفزيون لبنان والمشرق». روايات كثيرة تناقلتها الألسن عن «الظاهرة» التي أحدثها التلفزيون في تلك الأيام، إذ يقال أن أهل القرى اللبنانية كانوا يلتمون في منزل أحد الوجهاء الذي مكنّته قدرته الشرائية من اقتناء ذاك الجهاز الساحر الذي سمي «تلفزيون» وكانت الجموع تملأ زوايا الصالة، حيث كانت العيون تحدّق منبهرة بهذه الشاشة الصغيرة.
كان يجمع العائلة اللبنانية في بيوتها ومنازلها على الألفة والتلاقي الإجتماعي والأسري، ويملأ سهراتها بالتسلية والإفادة في آنٍ معاً، لا صخب ولا إسفاف ولا إبتذال ولا عري، لا مبالغة ولا مغالاة ولا إسراف. بل إن برامجه كانت تعد بدقة عالية لجهة إختيار المواضيع الهادفة التي تعكس واقع حال حياتنا الإجتماعية، وتستمد منه الأفكار الإبداعية، فضلاً عن أن الإنتاج والصناعة التلفزيونية كانت تتمتع بجودة عالية وبحرفية متناهية، جعلت من تلك البرامج شكلاً ومضموناً قيمة فنية راقية ومتقونة، مع إحترام البعد الثقافي للقيم الأخلاقية والأدبية للمجتمع اللبناني.
لا مبالغة لو قلنا إن جيل تلفزيون لبنان، هو الجيل الذي تأسس وعيه، وتشكل وجدانه، بمتابعة الدراما التلفزيونية الراقية التي شكلت في ذلك الزمان أحد أهم روافد تشكيل الشخصية اللبنانية، وأمدها بزاد ثقافي راقٍ، ونماذج إنسانية وفكرية جديرة بالقراءة والتأمل والاقتداء. إن معظم أبناء جيلنا، لديهم ذكريات لا تنسى مع دراما تلفزيون لبنان على وجه الخصوص، وأغاني المقدمة والنهاية الخاصة بها، التي نحب الاستماع إليها حتى اليوم لاستعادة مشاعر وذكريات زمان، عندما كنا ننسج مع كل مسلسل وأغنية أحلاما كبيرة، ونحلق في آفاق التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي لوطننا، ونحلم بأن نكون مثل هؤلاء الأبطال الدراميين العظام.
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراثنا بيروت.