محطة لا بد منها في مقهى “الديك”!
يسابق صيادو “عين المريسة” شروق الشمس ساعات الفجر الأولى، مع سماع الأذان من مئذنة مسجدها الجامع، الممزوج مع الألحان التي تعزفها كنشيد الصباح، الأمواج المترامية على صخورها الشاهدة على روايات وحكايات الأباء والأجداد والأجيال المتعاقبة مع بحرها..
يتجمعون على المحبة والتعاضد في مقهى “الديك” العتيق في أسفل منزل آل سبليني القرميدي مقابل “مينتهم” وكأنها صومعتهم التي تختزن تاريخ من سبقهم من الصيادين والبحارة وتختزله، لدرجة أن المقهى إرتبط بهم، حتى أنه كان يعرف “بمقهى الصيادين”، علماً أنه قبل أن يحمل إسم “الديك”، كان يُعرف عند تأسيسه سنة ١٩٢٠ بإسم مقهى “السباعي” نسبةً لصاحبه سعد الله السباعي (والد بطل الملاكمة والإطفائي وفيق السباعي)، لتنتقل ملكيته تباعاً لآل الظريف والغضبان، إلى أن تملكته زينب الديك سنة ١٩٥٢، فأداره شقيقها شفيق الديك والد الريس نجيب الديك (رئيس تعاونية الصيادين) والمناضل الوطني صالح الديك، فعُرف منذ ذلك الحين باسم مقهى “الديك”، ليصبح ملتقى الصيادين ومركز تجمعهم، وواحداً من أبرز معالم “عين المريسة”…
وكان الصياديون يجلسون خارج المقهى على قارعة الرصيف على كراسي القش، يحتسون قهوة الصباح “سكر زيادة” قبل أن ينزلوا المالح، مصحوبة بنفس “أركيلة” تتناغم قرقعة مياهها مع أصواتهم وهم يتبادلون أطراف الأحاديث غير المتناسقة، مجموعة تتحدث بالسياسة، وأخرى تتناول أحداث مسلسل أو فيلم شاهدوه بالأسود والأبيض، فيما يصغي البعض بتركيز لسماع أخبار إذاعة صوت العرب أو إذاعة لندن.
رغم أن مقهى “الديك” إرتبط بالذاكرة الشعبية لدى أهالي “عين المريسة” إلا أنّه وللأسف تمّت إزالته سنة ١٩٩٣ بعد هدم مبنى آل السبليني القرميدي، ليشيّد مكانه بناية حديثة بنشأتها وهندستها…
***
تسلم وتسليم بين صيادي الليل والصباح
عند الغسق يرتسم مشهد رائع على مشارف “المينة”، حيث تتراكم القوارب ذات الأحجام والأشكال المختلفة : “السنبك” أي الزورق الخشبي مع مجدافين، “البلطة” المركب الصغير (الشختورة) وله شراع، “الفلوكة”وهي عبارة عن مركب مصنوع من الخشب والخام مع المجاديف، “المبطنة” وهي القارب الذي يوضع في وسطه محركاً يعمل على المازوت، لتحريكه بدلاً من المجاديف. أما في المياه “الضحلة” القوارب المربوطة بالحبال بحائط “المينة” تنتظر صياديها إستعداداً للخروج…
كل واحدة من هذه الزوارق مطلي بألوان مختلفة ومكتوب عليها بخط يدوي مموج كالبحر أسماءها وأرقامها، منها ما هو منطلق في رحلة الإبحار الصباحية، ومنها ما هو عائد من رحلة الصيد الليلية، كأنها مشهدية عفوية إنسيابية كالأمواج المتلاحقة لمراسم الإستلام والتسليم بين حراس “المينة” وبحر عين المريسة، تشبه تماماً حركة المد والجزر…
الصيادون العائدون يقتربون من المدخل البحري “للمينة”، ينزلون منها ببدلاتهم المصنوعة خصيصاً من النايلون لتحميهم من رطوبة الليل السامة، فرحين، مظفرين، مقتنعين، راضين بما قسم الله لهم من رزق، ويتعاونون بزنودهم السمراء وعافيتهم على جرّها صعوداً إلى اليابسة، تمهيداً لإنزال “القفف” ثم البديء بعملية فكّ الشباك وتخليص ما علق بها من أسماك وإزالة الأصداف والأعشاب بحرية، وتعريبها، وفرز كلّ نوع من الأسماك في “فرش” خشبي، تمهيداً لبيعها لصاحب مسمكة “عين المريسة” الوكيلة الحصرية لشراء رزق صياديها…
***
مسمكة عين المريسة
إذا اقترنت “عين المريسة” بميناء الصيادين، فإن الميناء إرتبط إرتباطاً وثيقاً بمسمكة “عين المريسة” أو مسمكة “أبو إبراهيم سلطاني”، كونه كان يشتري من الصيادين كلّ ما يصطادونه من أسماك، ليبيعه بدوره للزبائن، الذين كانوا يقصدون مسمكته من مختلف المناطق البيروتية، كما أن العديد من المطاعم كانت من زبائنه الدائمين، لثقتهم بأن أسماكه طازجة غير مثلجة أو مستوردة.
ولكن، قلة من كان يدرك أنه قبل إنشاء المسمكة، كان أهالي المحلة يشترون السمك مباشرة من الصيادين، إلا أنه ومع تطوّر وإزدهار صيد السمك في المنطقة، أسس القبضاي مصطفى علوان مسمكة صغيرة في نفس المكان الذي أنشئ فيه لاحقاً ملهى “الفونتانا”.
أما مسمكة “عين المريسة” فقد أنشئت بداية فوق مسبح “الجمل”، حيث كان يُقام فيها مزاد علني لبيع السمك بإشراف محمد سلطاني وعارف شقير، لينتقلا بعدها إلى المسمكة الأشهر التي هي عبارة عن مصطبة صغيرة بمحاذاة الرصيف عند مدخل ميناء “الفاخورة”، التي سُمّيت مسمكة “عين المريسة”، لينفرد في وقت لاحق محمد سلطاني “أبو إبراهيم بملكيتها، حتى صارت تُعرف باسمه.
وكان أبو إبراهيم يشتري السمك من الصيادين ومن سوق السمك، ويفرد على مصطبته الأسماك بشكل يجذب الناظر، ويضع تحتها الثلج المكسر للحفاظ على جودتها، وكان بين الحين والآخر يرش السمك بماء البحر بواسطة “طاسة” موضوعة في “سطل” على يمين المسمكة، أما على شمال المسمكة، فكان يضع الميزان الحديدي ذات الكفتين النحاسيتين وإلى جانبه “العيارات” من مختلف الأوزان، وجنبها أكياس نايلون شفاف…
وكان معروفاً عن المرحوم أبو إبراهيم سلطاني رغم طيبة قلبه، طبعه الحاد وعصبيته، حيث أن “روحه في راس مناخيره”، سيما وأنه في شبابه كان من قبضايات المحلة، والمسدس لا يفارق وسطه، لذلك لم يكن يتحمل الزبائن ولا “الصيادة” الذين يحاولون “مفاصلته” على سعر شراء أوبيع السمك، فيعلو صراخه وتظهر إنفعالاته العصبية.
كذلك، كان يُعرف عنه أنه وفور الإنتهاء من بيع “الرزق”، كان يحمل “غلته” ويتوجّه إلى المصرف لإستبدالها بأوراق نقدية جديدة، حيث كان يصرّ على التعامل بها، لأسباب احتفظ بها لنفسه…
بقي الريس أبو إبراهيم سلطاني متسيّداً مصطبته حتى العام ١٩٧٤ إلى أن تقدم بالسن ونال منه المرض، فآلت إلى الريس نجيب الديك الذي عمد إلى توسعتها وتحديثها وإدخال البرادات إليها…
________
*باحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراث بيروت.