أبجدية خاصة بالصيادين!
مهنة صيد السمك، تلك الحرفة الشعبية المتوارثة عبر أجيال صيادي “عين المريسة” المتعاقبة وعشقها للبحر الذي لم ينقطع، حتى بات جزءاً أساسياً من حياتها اليومية، جعل لصيادي “العين” أبجديتهم الخاصة في تعريف لغة البحر ومصطلحاته وتوصيفاته، التي تشكل قاموساً لغوياً وألسنياً تفوح منه رائحة البحر وملوحته ورطوبته، و تزهو بحكاياته التي لا تنتهي، وتعبر عن ثقافتهم البحرية، التي لا يجيدها غيرهم.
ومن قاموسهم البحري، عبارات ومفردات، ما يزالون يستخدمونها ويتحاورون فيما بينهم بها، عندما يدور الحديث عن البحر والصيد، ولا أحد سواهم يجيدها أو يفهمها.
فإذا كان “البحر نازل”، يكون المد أو التيار متجه للأسفل، عكس مقدمة المركب، وهو الافضل في عملية الصيد. وإذا كان “البحر طالع”، يكون المد أو التيار متجه إلى أعلى أو إلى اليمين أو إلى اليسار. ولما يكون “عامل شمالي”، فهذا يعني أن الريح شمالية وشديدة، ويسمون الهوا الشمالي (سماوي) لأنه مؤذٍ كالسم. ولما يعود البحر إلى هدوئه بعدما كان هائجاً، يقولون “البحر عَدَل”. وعندما تكون الأمواج مرتفعة وغير منتظمة، فيكون “البحر لبش”، وبالمقابل إذا كان البحر هادئ جداً، يكون البحر “حوال” أو “زيت”، أي كسطح الزيت. وعندما يكون مليئاً بالأمواج الصغيرة البيضاء، فيطلق عليه “البحر منورس”، كأن مياهه عليها طائر النورس. وعند إنخفاض مياه البحر، فتعريفهم “المي ضحلة”.
أما المصطلح الأكثر إستخداماً فهو “البحر نو”، عندما يكون موجه عالي، خصوصاً وأن لصيادي “عين المريسة” مع “نوايات” البحر حكايات ومغامرات ومخاطر.
و من أبجديتهم البحرية أيضاً:
“الفرشة”، أي المكان معروف لتجمع للسمك، و”الحوشه”، وهو المكان الوعر في عرض البحر. و”الطرحة”، أي المكان أو المنطقة التي يتم فيها الصيد. و”التمنيع”، فترة الظهيرة و توسط الشمس في السماء حيث أن السمك لا يأكل الطعم في هذا الوقت. وكذلك “التزهيد”، وهو مصطلح يطلقه ريس المركب في العلامات التي يتخذها في معرفة الأماكن التي يرمي فيها شباكه أو أقفاصه. و”رجاع (عُدّ)على ميتك”، وهو مصطلح ينطق به فى حالة و الرغبة فى اللف مرة اخرى على نفس المكان.
***
الإبحار نحو المجهول بحثاً عن الرزق
مع بزوغ الشمس المتسللة بلطف، يمتطي صيادون الصباح “فلايكهم” و”سنابكهم” مبحرين بحثاً عن رزقهم، وهم يرددون: “رزق البحر..بحر”، والرزاق الله… وهم مفعمون بالنشاط والحيوية والسرور، في مشوارهم اليومي إلى عالمهم المجهول المتناقض والممزوج بالحب والغدر والغضب والمخاطر والهدوء والرزق والكرم والكسب والشح والشؤم والسخرة..
يبحرون إلى عرض البحر في رحلة كفاحهم اليومية، حيث الزمن قد فعل أعاجيبه في تجاعيد بشرة وجوههم السمراء التي تحكي أسرار مهنة لا تزال تسرد حكايات من تاريخ منطقتهم. فهم توارثوا حرفة الصيد وركوب مخاطر البحر وهم صغاراً بالفطرة والإعتياد لمواصلة تراث الأجيال المتعاقبة بإنسيابية تشبه تدفق موجه، فهو يجلب لهم الخير والرزق، كما أنه مورد عيشهم اليومي المحفوف بالمصاعب والمشقات.
فترى كل مركب يتجه نحو المساحة المخصصة له، وكأنها حصته من البحر دون صك ملكية يوزعونها بالإتفاق والتراضي بينهم كأنه ميثاق شرف بين رياس المراكب.
على كل مركب صيد مبحر في عرض البحر ريّسه، يحمل على كتفيه مديداً من السنين قضاها مبحراً مكافحاً باحثاً عن رزقه في أغوار البحر وأعماقه وخباياه. يعاونه شباب تملؤهم الحيوية ويسكنهم الإندفاع بشغف ليكتسبوا خبرة الشيوخ ويكتشفوا أسرار البحر الغامض المجهول ومهارة الصيد فيه.
فالرعيل القديم من رياس “المينة” الذين ذاع صيتهم ما زالت أسماءهم عالقة في ذاكرة كبار السن من أبناء “عين المريسة”، لا سيما منهم الذين كان مشهود لهم بشجاعتهم وجرأتهم في قهر البحر وقت الظروف المناخية الصعبة، وكيفة التعامل معه وترويضه في هكذا ظروف، فكانت مغامراتهم أشبه ببطولة تعتمد على المعرفة بالفطرة، لا سيما عندما يتوجهون في موسم بحري معين نحو منطقة بحرية، يعتقد أن فيها “جورة كلاب البحر” لآصطياد الكلاب، رغم ما تنطوي عليه من مخاطر ومجازفة.
ومن رياس “المينة” المحفورة أسمائهم في الذاكرة الشعبية: حسن وسعد الله السباعي، رشيد الظريف، أحمد حمدي وولديه محي الدين وسعد الدين، إبراهيم الديك وأبنائه: بهيج ومنير وعزيز، حسن الخانجي وأولاده، ديب سعود وإبنه عبد الوهاب، حسن نجم وأولاده الشهيد علي والمرحوم إبراهيم (بطل الغطس، ومؤسس المتحف البحري التراثي بمجهود فردي، الذي تحول إلى جزء من منزله، والذي جمع جميع مقتنياته من قعر البحر، إذ تضم محتوياته حوالي ستين ألف قطعة أثرية) وعادل، أحمد مرزى، عبد وعفيف الغضبان، عبد فاخوري، نجيب وصالح الديك، خضر المصري وأولاده، أنور سلام وأولاده، وغيرهم من الكثير من الرياس والصيادين…
يذكر أخيراً في سياق الحديث عن الرياس، أنهم كانوا يزاولون صيد الأسماك بموجب رخصة تصدر عن السجل البحري في وزارة الأشغال والنقل، وتسجل مراكبهم في رئاسة ميناء بيروت، وتمنح تذكرة بحرية تحمل اسم ورقم الزورق.
***
تحدي مخاطر الطقس والليل
“صيادة” “عين المريسة”، الذين إرتبطت حياتهم ببحرها، لم يهابوا مخاطره ومصاعبه يوماً في رحلة بحثهم النهارية والليلية عن قوتهم ومورد رزقهم، بل كانوا دوماً يروضون العواصف والأخطار، ويمخرون عباب البحر بحثاً عن الرزق، حيث إعتادوا مكابدة المصاعب من أجل الحفاظ على تراثهم البحري.
فكل طرق الصيد لا تخلو من الخطر، وكثيرة هي الأيام التي يسرح فيها “الصيادة” في ظروف مناخية صعبة للغاية، يتحدون فيها العواصف الشديدة، وعلو الموج، وسرعة الريح، خصوصاً في أوقات “النو”، إضافة إلى دوران التيارات البحرية. فالبحر متقلب ومزاجي، لا يُعرف متى يهدأ ومتى يهوج ويثور، لكن “صيادة العين” يجيدون التعامل معه ومع غموضه وأسراره، لأنه حياتهم وعالمهم.
ولا تقتصر مخاطر ومصاعب مهنة صيد الأسماك على العوامل المناخية وتقلباتها، بل تشمل أيضاً إضطرار الصيادين ومن ضمن رحلة كفاحهم اليومية أن يسرحوا ليلاً بقواربهم في عرض البحر، متحدين سواد الليل ووحشته، في وقت كل الناس نيام بهدوء وسكينة ودفئ، إلا هم يقتحمون الظلام مستدلين طريقهم بضوء القمر الصامت المراقب، متحدين شدة الرطوبة صيفاً وسموم البرد القارص شتاءاً .
فصيد السمك في الليل في نظر ثقافة الصيادة أفضل بكثير من صيده في النهار لأن البحر يكون مظلم في الليل وبذلك يشعر السمك بالراحة، كذلك يكون الصياد ليس له ظل فيخرج السمك بكثرة، فضلاً عن أن المياه تكون باردة في الليل فيكثر السمك على سطح الماء، ويكون الصيد في الليل مضاعف عما هو عليه في النهار.
فبحسب خبرة “الصيادة” تتفاوت ساعات النهار والليل في صلاحيتها للصيد، إذ أن من غرائز السمك الإقتراب من الشواطئ بعد غروب الشمس باحثاً لنفسه عن طعام يأكله أو عن مكان آمن يرقد فيه.
فإذا ما بدأت الشمس في البزوغ تراه يهرع من جديد إلى داخل البحر حتى لا يكشف أمره ولا يبقى على الشواطئ إلا صغير السمك الذي يستطيع أن يظهر بسرعة بين ثنايا الصخور. لذلك، يجوز القول بصفة عامة أن الصيد في الليل خير من الصيد بالنهار. وهذا ما يؤمن به الصيادون وما يعمل به العديد منهم، حيث يباشرون الصيد بعد أن يرخي الليل سواده.
فمن يشاهد من على الشاطئ إنتشار المراكب في البحر، يشعر نفسه أنه يشاهد لوحة سريالية لناس يسهرون على شرفات بيوت عين المريسة القرميدية، في ليلة قمرية مضيئة، وكأن المراكب البحرية هي إمتداد للنجوم المتلألئة في السماء.
في حين أن الواقع ليس كذلك على الإطلاق، فالساهرون من الصيادة على سطح البحر على ضوء قناديل “اللوكس” ليسوا في رحلة إستجمام، بل في رحلة كفاح لا يدرون إذا يعودون صباحاً إلى “المينة” مظفرين، أم أن البحر سيغدر بهم…
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراث بيروت.