يتملكني شعور من الشغف عندما أتجول بشوارع بيروت، لكل ما هو تراثي أو أي شيء يرجع بالزمن الى بيروت القديمة .. بيروت التي لم أعشها، ولم يعشها أبناء جيل ما بعد اندلاع الحرب الأهلية 1975. بيروت التي تسحرك بدفء بيوتها القديمة حتى المهجورة منها، والمنسية بناسها واثر ذكرياتهم، رسائل او كتب، ألعاب او صور. وتصبح الجولة جولة بحث عن هذه الأماكن، فالحقبات التاريخية التي مرت على مدينتي تركت بصمات استشعرها في كل مرة ادخل لأصور بيت او قصر مهجور.
قصر منسيّ
خلال تجوالي في صبيحة يوم أحد في منطقة القنطاري وشارع سبيرز تحديداً، استوقفني سور قديم من الحجارة الرملية، تتوسطه بوابة حديديّة مقفلة. تمكّنت من الدخول بصعوبة لأجد نفسي في حديقةٍ كبيرةٍ مليئةٍ بالأعشاب البرية وشجر النخل.
اقتربت من مدخل القصر، الأعمدة تشعرك بانها تستقبلك بحفاوة رغم المشهد المحزن. تخطيت بعض “بلوكات” الحجر لادخل! كمٌّ من الأوراق والكتب والصور القديمة، وكراسي “بلاستيك” و بعض الأمتعة التي تدلّ على وجود بعض الأشخاص في هذا القصر لفترة غير قصيرة.
إنه قصر دولة الرئيس تقي الدين الصلح رحمه الله – هكذا عُرف سابقاً ويُعرف الآن – يقع في شارع مي زيادة في قلب منطقة القنطاري.
مشاهدات للقصر
القناطر الثلاثية المعقودة التي خشيتُ الاقتراب منها لعدم وجود الأعمدة الرخامية، والتي يُرجّح انها مسروقة، والأسقف المرتفعة الجميلة تشعرك بأنك في صرحٍ كبير، لا في منزل يسكنه النّاس.. كأنك في حضرة محكمة او في بهو دار للأوبرا.. أو ما شابه. اقتربتُ من ورق الجدران الأخضر المُعتّق الموجود على جزء من الجدران، أحاول ان اكتشف ما هو لون الجدار الأساسي، وأن أقرأ بعض الكتابات أو الرسوم على هذه الجدران لعلّها تخبرني بشيء ما.
النوافذ الكبيرة وعلى كثرتها في القصر، تسمح بدخول أشعة الشمس التي تتسلل لتدفئ هذه الغرف المنسية.. وكأنّها هي سيدة القصر في فترة النهار. غرف متعددة ودهاليز، دخلتُ غرفة واسعة وعلى الأرجح هي غرفة النوم الرئيسية ولها شرفة تطلّ على حديقة خلفية. قصر أقل ما يقال فيه: يا حسرةً على زمن الذوق الرفيع في العمارة والسخاء في المساحات الممنوحة لكل تفاصيل القصر من صالونات وغرف استقبال وجلوس وغرف النوم، وغيرها من منتفعات ضرورية تخدم كلّ هذه المساحة التي أدمعت عيني لتركها هملا.
عندما خرجتُ إلى الحديقة الكبيرة اكتشفت ان للقصر مدخلاً رئيسيأ آخر لجهة شارع كليمنصو مقابل جامعة هايكزيان، المدخل عبارة عن حديقة وفيها ممرّ للسيارات لتوصل الزائرين إلى درج نصف دائري في وسطه باب يؤدي إلى بهو القصر الداخلي.
نبذة عن القصر
قصر الرئيس تقي الدين الصلح تعود ملكيّته الأولى إلى محمد عبود عبد الرزاق المرعبي (وآخر يقول من آل النعماني) الذي كان وزيرًا للماليّة في عهد الرئيس كميل شمعون، وقد قتل عام 1956 قرب مجلس النواب. وبعد وفاته بست سنوات تزوجت أرملته فدوى البرازي من الرئيس تقي الدين الصلح وعاشا في هذا القصر، ومتنقلين بينه وبين منزل الرئيس الصلح في عاليه، ولذلك أطلق عليه تسمية قصر تقي الدين الصلح.
يعود بناؤه إلى ثلاثينيات القرن الماضي، كما معظم القصور والبيوت القديمة التي تذخر بها منقطة القنطاري وتتناسق من حيث الطابع التراثي مثل قصر القنطاري، وعكر، وحنينة وغيرها. القصر الذي بنيّ من حوالي 90 سنة، وبعد وفاة رئيس الوزراء الأسبق تقي الدين الصلح في العام 1989 في باريس، تقبلت أرملته السيدة فدوى البرازي والعائلة التعازي في قاعاته وأروقته، ومكثت فيه لنحو سنتين، ثم انتقلت منه.. وبات عرضةً لسكن المهجّرين وبعدهم المسلحين غير الشرعيين..إلى أن آل مآله حالياً مهجوراً مهملاً، لا مالكي القصر من الورثة يعتنون بترميمه، ولا وزارة ثقافة تستملكه لترممه وتعيد إليه بهاءه وتحيله مؤسسة ذات منفعة عامة، ولا بلدية تخطط لاستملاكه واستملاك ما يشابهه من قصور وبيوت تراثية للحفاظ على ما تبقى من هويّة مدينة بيروت سيدة العواصم والمدن.
________
*منسقة الأنشطة في جمعية تراثنا بيروت.