إن أولى خطوات المرأة البيروتية في تحصيل العلم، بدأت بشكل جدي، حينما تأسست جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت في 31 تموز 1878 وبدأت بتعليم الفتاة، وبعد أربع سنوات جرى حلّ جمعية المقاصد سنة 1882. ولكن مدارس الإرساليات التبشيرية الأجنبية في تلك الفترة، كانت عاملاً رئيساً، لتبدأ الفتاة البيروتية في مشاركة الرجل في العمل، فكانت أنيسة صبيحة من طرابلس أولى طبيبات المشرق العربي، وقد تخرجت في كلية الطب في جامعة أومبور سنة 1899، ومارست المهنة في مصر. وكانت إميلي سرسق إحدى الرائدات القلة اللواتي كرسن جهودهن لتعليم المرأة في بيروت.
وكانت ماري تابت أول طبيبة بيروتية سنة 1901، وزهية بركات أول صيدلانية في المشرق العربي سنة 1905، وسنية حبوب أول بيروتية مسلمة زاولت الطب النسائي سنة 1931 وقد تخرجن جميعاً في الولايات المتحدة الأميركية. في حين تعبتر سهيلة سعادة أول قابلة قانونية بيروتية مسلمة تخرجت في لندن سنة 1926. كما تعتبر كاترين شامية أول عالمة لبنانية في علم الذرة، منذ أن نالت الدكتوراه في الفيزياء والكيمياء من جامعة جنيف سنة 1913.
إن إقبال الفتاة البيروتية على تلقي العلم ودخول ميدان العمل، بدأ مع نهاية الحكم العثماني، ليتبلور منذ الانتداب الفرنسي، وإعلان دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920. فتمكنت سهيلة سعادة (1902-1992) التي درست فن التمريض في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت لمدة ثلاث سنوات (1917-1920). أن تسافر إلى لندن سنة 1926 وتتخرج في معهد كوين شارلوت لتكون أول بيروتية وعربية تحمل شهادة قابلة قانونية، وبعد عودتها أسست عيادة خاصة بها، عملت فيها حتى سنة 1951. وكانت قدوة، بدأ معها توجه الفتاة البيروتية لدراسة مهنة القابلة القانونية التي حلت شيئاً فشيئاً مكان «الداية» أي القابلة غير القانونية.
وكانت سنية حبوب، جارة سهيلة سعادة في السكن، وتقاربها بالعمر، فأرادت أن تحذو حذوها في متابعة العلم، والتحقت بالجامعة الأميركية لدراسة الطب، وكانت تلبس الملاءة والحجاب، فتعرضت لإهانات الرجال، لأنها تدرس مع الشبان داخل الجامعة. فقررت السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية سنة 1926، وتخرجت في جامعة فيلادلفيا سنة 1931، وعادت إلى بيروت مع لقب دكتورة في الأمراض النسائية، وأسست عيادة لها في محلة باب إدريس، زاولت فيها مهنة الطب النسائي طوال ثلاث وأربعين سنة انتهت مع اندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975.
وكما تحدت سهيلة سعادة وسنية حبوب الأعراف والتقاليد، ومتابعة دراسة التمريض في لندن والطن في فيلادلفيا، فقد تحدت البيروتية نينا طراد الأرثوذكسية، التقاليد والأعراف، حينما التحقق بعهد الحقوق، غير مصغية إلى نصح عمها بترو طراد المحامي اللامع، حيث كانت مهنة المحاماة تقتصر على الرجال، وانتسبت إلى نقابة المحامين في 6 كانون الثاني 1932، بعد مناقشات ومداولات طويلة ومضنية سبقت الموافقة. فكانت أول إمرأة بيروتية ولبنانية تنتسب إلى نقابة المحامين، لتعمل في مكتب عمها المحامي بترو طراد، ومعها بدأ عصر المحاميات في لبنان. وقد تزوجت المحامية نينا طراد الأرثوذكسية من شارل حلو الماروني وبفضل وقوف زوجته إلى جانبه أصبح نائباً ووزيراً ثم رئيساً للجمهورية سنة 1964.
ولا يمكن إغفال رائدات النهضة النسائية ابتهاج قدورة ونجلاء كفوري وسلمى صائغ وجوليا طعمة اللواتي أسسن جمعية النهضة النسائية في بيروت سنة 1924، فأقامت هذه الجمعية المعارض ومستوصف في المصيطبة، بهدف تنشيط الإقتصاد الوطني والصحة العامة. وقد انتقل المستوصف إلى جمعية الصليب الأحمر اللبناني سنة 1946.
ومما يذكر أن إبتهاج قدورة هي أول بيروتية مسلمة تدخل المدرسة الأميركية للبنات لتتخرج فيها سنة 1909، لتصبح رائدة من رائدات النهضة النسائية في لبنان.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى زاهية دوغان التي أضربت عن الطعام حتى سمح لها والدها بمتابعة دراستها في مدرسة البنات الإنكليزية، وتابعت دراستها العليا، فكانت أول فتاة بيروتية ولبنانية مسلمة تلتحق في معهد التربية العالي للبنات في القاهرة سنة 1938، وصولاً إلى جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأميركية، حيث حازت على شهادة الماجستير في التربية. علماً أن المربية زاهية دوغان تولت منصب مديرة كلية المقاصد البنات في محلة الباشورة، بعد عودتها إلى بيروت، طوال تسع عشرة سنة (1944-1963) فتركت بصمة متميزة في مسيرة هذه الكلية.
وهؤلاء الرائدات في الطب والمحاماة والتربية والنشاط المؤسساتي الاجتماعي والصحي، نجحن في الإستفادة من التطور الذي حصل على المستوى التعليمي في زمن حكم السلطان عبد الحميد الثاني ومطلع الانتداب الفرنسي، ما فتح الباب واسعاً أمام جيل جديد من المرأة المتعلمة التي شاركت الرجل في مختلف المهن.
فكانت الرائدة سهيلة سعادة القابلة القانونية، هي السبب لإنشاء معهد الماترنيتيه التابع لكلية الطب الفرنسية في بيروت، الذي تخرج فيه أوائل القابلات القانونيات في بيروت أمثال: فاطمة العريس وفوزية عيتاني ومكرم الحسيني سنة 1940، ورمزية مروش وشهباء حلاوي وكلير شويري مطر وكلير نقوزي وكوثر حلاق ولمياء عضاضة ووداد صندقلي سنة 1941. وبذلك أخذت القابلة القانونية تحل محل الداية. وكانت الرائدة سنية حبوب الطبية النسائية، المشجع الأول لمزاولة المرأة مهنة الطب بعد التخرج في الجامعة الأميركية أمثال الطبيبة أدما أبو شديد وطبيبتا الأسنان ماري كريم ونهيل حبوب، والصيدلانية أليس أبو شديد، وفي الجامعة اليسوعية أمثال اطبيبة إيلين صافي، والصيدلانية إميلي صافي.
كما كانت الرائدة المحامية نينا طراد المشجع الأول أيضاً للمرأة بأن تزاول مهنة المحاماة، وبرزت المحامية بلانش عمونة لتكر سبحة المحاميات بعدهما. علماً أن المحامية سميا صبيحة هي أول محامية في المشرق العربي.
والرائدة في الحركة النسائية ابتهاج قدورة، كان المشجع الأول لإبنه شقيقها زاهية مصطفى قدورة، لتدخل المدرسة الأميركية للبنات على غرارها، ثم تتابع دراستها في كلية بيروت للبنات ثم في الجامعة الأميركية لتنال درجة ب.ع في الدراسات التاريخية، حينما كانت الجامعة الأميركية لا تمنح درجة الدكتوراه، فاتجهت إلى القاهرة ونالت الدكتوراه. وبعد عودتها التحقت بالجامعة اللبنانية سنة 1951، وتم تعيينها عميدة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية (1971-1977) فكانت أول عميدة في لبنان والوطن العربي.
________
*دبلوم دراسات عليا في التاريخ/ ناشطة في الشأن العام وعضو جمعية تراثنا بيروت.