الرَّائدُ العِصَاميُّ الشَّيخ أَحمَد عَبَّاس الأَزْهَرِيّ (1853-1927)

د. وجيه فانوس*

حِكايَةٌ عن مرحلةٍ وأجيالٍ ولَيْسَت أبَداً حِكايَةً عَن شَخصٍ

ما قبل الولادة

تمهيد:

إنَّ المصدرَ الوحيدَ المتوافِر، حتَّى اليوم، عن سيرة الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، هو نَصٌّ أَثْبَتَهُ الشَّيخ «مُحمَّد رشيد رضا»، في مجموعة «مجلَّة المنار»، المجلَّد رقم (28) ذو الحجَّة – 1345هـ/ 1927م. بعنوان «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري البيروتِيّ وفاتُه وترجمته»؛ وذلك نَقْلاً عن خِطابٍ ألقاهُ الأستاذ «عبد الباسِط فتح الله» (1871-1928)، في الاحتفال الذَّهبي التَّكريمي الذي أقيم سنة 1926، في مدينة بيروت للشَّيخ «الأزهري»؛ لمناسبة مرور خمسين سنة على اشتغاله بالتَّعليم؛ وقد صاحبَ هذا الاحتفالُ رَفْعُ صورة الشَّيخ، في قاعة «المكتبة الوطنيَّة في بيروت».

كان الأستاذ «عبد الباسِط فتح الله» تلميذَ «الأزهري» ومرافقه ومساعِدُهُ طيلةَ سنواتٍ؛ وقد أخذ عن هذا المصدر، كلُّ من تناول سيرة «الأَزْهَرِيِّ»، بقليلٍ أو كثيرٍ؛ ويُمْكِنُ التَّرجيحُ أنَّ المادَّةَ المعرِفِيَّة في الخِطاب، وخاصَّة في ما تُشير إليهِ من تفاصِيلٍ لأحداثٍ وأمورٍ تعود إلى مراحل مِنْ طُفولةِ «الشَّيخ» وصِباه وشَبابه، مُسْتَلَّةٌ مِن ملاحظاتٍ وإشاراتٍ مَصْدَرُها الشَّيخُ «الأزهريُّ» شخصِيَّاً؛ خاصَّة وأنَّ الأستاذ «فتح الله»، كان يَصْغُرُ «الشَّيخ» بحوالي عِشْرين سَنَةٍ.

انْحَصَرَ جهدي، هَهُنا، في وَضْعِ هذه السِّيرة، للشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأَزْهَريِّ»، بالعَمَلِ على تَوْثِيقِ المادَّةِ المَعرِفِيَّةِ التي قدَّمَها الأُستاذ «فتح الله» وتَحْقِيقِها، والإضافةِ المُوَسَّعَةِ والمُوَثَّقِة، إلى كَثيرٍ مِن مَضامِينها وخَلفيَّاتِها؛ وتالِيَاً، تَحْليلِ المُتَحَصِّلِ مِنْ كُلِّ هذا، بِما قد يُؤَمِّنُ مَزيداً من الضَّوء والوضوحِ على سِيرَةِ «الشَّيخ»، من جهة، والبِيئتين الاجْتِماعِيَّةِ والثقافيَّةِ حَيْثُ عاشَ وتَفاعَل، مِن جِهَةٍ أُخرى.

انْمازَت مَسِيرَةُ حياةِ «الشَّيخ أَحمَد عَبَّاس الأَزْهَرِيّ»، بعاملين أساسَين؛ انتظما، فيما بينهما، معظم إنْ لَمْ يَكُنْ كلَّ مسيرة حياته. يتمثَّل العامل الأوَّل، بما يمكن تسميته «الحدث العام»؛ وقد يكون «حدثاً» ذا طابعٍ إيجابيٍّ أو سلبيٍّ، بالنِّسبة إلى «الشَّيخ». ويَتَجلَّى العاملُ الثَّاني، في «مواجهةِ الحَدَثِ»، مِن قِبَلِ «الشَّيخِ»، والإفادةِ القصوى منهُ؛ بوضوحِ الرُّؤيا الشَّخصيَّة والتَّصميم المُصرِّ على تحقيق هذه الرُّؤيا. يُشيرُ واقعُ الحالِ، أنَّ ما مِن أمرٍ واجَهَهُ «الشَّيخ أحمَد عبَّاس الأزهري»، مُنذ يَناعَةِ طفولته وحتَّى وَهَنِ شَيْخُوخَتِهِ، إلاَّ وتمكَّن من استخدامِه لصالحِ رؤياه الفِكْرِيَّة والعِلِمِيَّة والثَّقافيَّة الاجتماعيَّة؛ ساعِياً، بتصميمٍ مُكِدٍّ وإصرارٍ عنيدٍ، إلى تحقيق هذه الرُّؤيا، بمثابرة السَّير في رحابِ الحَدَثِ والإفادةِ من إيجابيَّاتِهِ، وتَحَدِّي سلبيَّاته، مِن ثَمَّ، بتحويلها إلى إيجابيَّات.

تشكَّلت أحداثُ حياةِ «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، ضمن لوحةِ وجودٍ إنسانيٍّ رحبةِ الانفتاحِ على الآخرِ، أكان آخراً مناطقيَّاً أو دينيَّاً أو اجتماعِيَّاً؛ لكن هذا الانفتاح، ما كان له أن يكون مُساهِماً في تحقيق ما يراه «الشَّيخُ»، لولا التمسُّكِ الفّذِّ بجوهر الوجودِ الذَّاتيِّ لـ «الشَّيخ»؛ وهو الجوهرُ المنبثقِ، كذلك، مِن وضوحِ رؤياه الشَّخصيَّة ومن تصميمه المُصرِّ، وباستمرارٍ وعنادٍ، على تحقيق هذه الرُّؤيا.

تبدأ مطالع حكاية «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، قبل ولادته بثلاث وعشرين سنة؛ إذ تنفتحُ ستارتها على «إبراهيم باشا»، ابن خديوي مصر «محمد علي باشا»، يوم انطلق في حملته على بلاد الشَّام سنة 1831؛ وتمكَّن خلال هذه الحملة، من إنفاذٍ للحُكمِ المصريِّ على مناطِقِ «جَبَلِ لُبنان» و«بيروت»؛ غير أنَّه، ولأسبابٍ عديدةٍ معروفةٍ في غالِبِها، أضطُرَّ إلى انهاء هذه الحملة، سنة 1840؛ ومغادرة البلاد؛ مُخْتَتِماً حكمه فيها، في أواسط شهر كانون الأوَّل من سنة 1840. (محمد فريد: 468).

تَلُوحُ بعضُ ملامحِ حكايةِ «الشَّيخ» عِنْدِ واقعٍ أوَّلٍ، كان بمثابةِ نَثْر بذورِ ما سيكوِّنُ الخيوطَ الأوَّلِيَّة لمنطلق نَسْجِ هذه الحكاية؛ إذ يُقرِّرُ عددٌ لا بأس به من الجُند، الذين كانوا مع «إبراهيم باشا»، في الحملة المصريَّة على بلاد الشَّام، أن لا يرجعوا معه إلى مصر أو سائر البلدان الأخرى التي قدموا منها. صَمَّمَ هؤلاء على البقاء حيثُ كانوا يخدمون عسكريَّتهم؛ أكانت هذه الخدمة في «بيروت» أو في «جبل لبنان». ولمَّا كان من تقاليد الجيش، وكثيرٍ منَ النَّاسِ، زمنذاك، أن يُنْسَبَ الجنديُّ خاصَّةً، أو الشَّخصُ العاديّ عامَّةً، إلى مدينته أو بلدته؛ فإنَّ أسماءَ عائلاتٍ مثل «الجيزي» و»المصري» و«الدُّسوقي» و«الاسكندراني» و«الدِّمياطي» وسواها، المنتشرةِ حتَّى اليوم في «بيروت» وبعض المُدن والبلدات في لبنان، تَشْهَدُ لهذا الأمرِ وتؤيِّده.

كانَ «عبَّاس سُليمان»، وهو أحد هؤلاء الجنود المصريين الذين آثروا البقاء في مدينةِ «بيروت»؛ وهو، في الوقتِ عينهِ، ما سيكوِّنُ الأمرَ الواقعَ الثَّاني مِن بذورِ حكاية «الشَّيخ»؛ إذ يبدو أنَّ المناخ قد طابَ لعبَّاس سليمان في هذه المدينة؛ خاصَّة أنَّ «بيروت» بدأت، إثر الحُكم المِصريَّ فيها، تَتَحَوَّلُ مِن مدينةٍ قديمةٍ محصورةٍ داخلَ سورِها العتيق، إلى مدينةٍ مُتَطَوِّرةٍ تَنْهَدُ بثباتٍ إلى خوضِ مساراتِ الحداثة. لقد أنشئ فيها، إبَّان حُكْمِ إبراهيم باشا، مجلسُ الشّورى والمحاكمُ المَدَنِيَّة وديوان التِّجارة والمَحْجَرِ الصّحيّ، كما ازدهرَ فيها المرفأ، واشتد العملُ على توسعةِ «حرج الصَّنوبَرِ» القائم عند مدخلها الجنوبي (الغول، بيروت خلال حكم محمد علي باشا). 

مِن جِهَةٍ أُخرى، يبدو، أنَّهُ لمَّا لم يُبْدِ إبراهيم باشا اهتماماً بتحصينِ «سُورِ بيروت» القديم، أو حتَّى ترميمه؛ فكأنَّ هذا الأمر ألغى، عند بعضِ «البيارتة» آنذاك، مفهومَ «المدينة المُغْلَقَةِ داخِلَ سورٍ تَتَقَوْقَعُ ضمنهُ؛ فَشَرَعَ القومُ يتعاملونَ مع «بيروت»، بمفهومِ «المدينة المنفتِحة» على ما يُحيطُ بها وبناسِها من مناطق وأوضاع. وكأنَّ إهمال أمرِ السُّور، ساعدَ على تحفيزِ النَّاس للسُّكنى خارجه؛ فتمدَّدت مساكنُ بعض «البيارتة» إلى ما هو أبعد مِن موقعِ السُورِ، وبدأ إقبالٌ واعدٌ على السُّكنى في المناطق المحيطةِ بـ «بيروت ذاتِ السُّور»، مثل «رأسِ النَّبعِ» و«الباشورة» و«البسطَّة» و«المصيطبة» و«برج أبي حيدر»، وسِوى ذلك من المساحات، التي كانت، في معظمها، مجرَّد بساتين أو مزارع محيطة بالمدينة.

وكانَ أنْ تزوَّج الجُندي المصريُّ «عبَّاس سُليمان»، المُسْتَقِرّ في «بيروت»، في هذه المرحلة، بفتاةً مِن أُسرةِ «الشَّامي»؛ وأقامَ معها في واحدةٍ من المناطقِ المُسْتَحْدَثَةِ للسَّكن، وهي «البَسْطَة الفَوْقا». ما لَبِثَ أَنْ رُزِقَ الزَّوجان عدَّة أولاد؛ كانَ منهم صَبِيٌّ، وُلِدَ لهما سنة 1853؛ بَعْدَ ثلاثَ عشرةَ سنةٍ مِنْ بِدءْ استقرارِ والدِهِ، الجُنْدِيِّ المصريِّ، في بيروت، وأسميَاهُ «أَحْمَد»؛ فهوَ «أحمد عبَّاس سُلَيْمان».

______

المراجع:

– محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العليا العثمانية، دار النفائس، بيروت، 1981.

– زكريا الغول، بيروت خلال حكم محمد علي باشا، جريدة «اللِّواء»، 11 تشرين الأول 2019.

**

الدِّراسةُ في بيروت

ما أَنْ بَلَغَ الطّفلُ «أحمد عبَّاس سليمان»، الخامسة من سني العمر، حتَّى ألحقته عائلته، مثل كثيرين من أترابه في بيروت، بما كان يعرف، عهد ذاك، بـ «الكُتَّاب»؛ وهو مكان يهتمَّ القيِّمون عليه بتعليم، الأطفال الصِّغار، بعض أوَّليَّاتِ القراءة والكتابة والحساب، كما يسعون إلى تحفيظهم ما يمكن من قصارِ سُوَرِ «القرآن الكريم».

أنهى «أحمد عبَّاس سُليمان»، إذ بلغ العاشرة من العمر في سنة 1863، بنجاح المُقرَّراتِ المطلوبة للتَّخَرُّجِ في «الكُتَّاب»؛ الذي سبق أن أُلحقه به ذووه، في محلَّة «البسطة الفوقا»، في بيروت، خلال السَّنوات الخمس السَّابقة. أصبح «أحمد عبَّاس سُليمان»، هذه المرَّة، تلميذاً في «المدرسة الرَّشيديَّة»، التي أنشأها الشَّيخ «حسن البنَّا»، حوالي سنة 1863. كانت «المدرسة الرَّشيديَّة» أوَّل مدرسة إسلاميَّة عصرية، تُنْشأ في بيروت، للتَّعليم المتوسِّط أو ما يعرف بالإعدادي؛ وثمَّة من يذكر أنَّ مؤسِّسها سمَّاها بـ «الرِّشيدِيَّة»، نسبة إلى والي سورية، عهذاك، «راشد باشا»، (1283-1285 هـ/ 1866-1871)، واسمه الكامل «محمَّد راشد باشا». ولعلَّ اسم المدرسة الفعلي هو «المدرسة الرَّاشدِيَّة»، إذ ما كانت التَّسمية نسبة إلى «راشد باشا» هذا؛ وقد جرى على الاسم تصحيفٌ ما. ومِمَّا يثبتُ العلاقة بين هذه المدرسة، وراشد باشا، والي سوريا، أنَّ الوالي استدعى، زمنذاك، أحد أساتذة المدرسة، «الشَّيخ إبراهيم الأحدب»، ليقدِّم إحدى رواياته المسرحيَّة، «الاسكندر المقدوني»؛ وليشرف «الشَّيخ الأحدب»، بنفسهِ، على إخراجِها وتمثيلها في احتفال خاصٍّ في قصر الوالي وبحضوره. (حمو: 272). وبقال إن الشيخ إبراهيم الأحدب نال مكافأة على عمله من قبل راشد باشا، عبارة عن خاتم ماسيٍّ ومئة ليرة عثمانيَّة. (طرزي:139). والجدير بالملاحظة، ههنا، أنَّ هذه المدرسة، هي غير ما سيعرف لاحقاً، في بيروت، بإسم «المدرسة الرُّشديَّة»، التي ستستحدثها الدَّولة العثمانيَّة، سنة 1845، ضمن سلسلة «المدارس الرُّشديَّة» ، في عهد السُّلطان عبد المجيد الثَّاني؛ بهدف تكوين مؤسَّسة تعليميَّة عثمانيَّة تتبع النِّظام التَّعليميِّ الغربيِّ؛ بعد أن كان التَّعليم المتوسِّط يقتصر على «مكاتب السَّلاطين العظام» التي أسَّسها السُّلطان محمود الثَّاني.

تلقَّى التِّلميذ «أحمد عبَّاس سُليمان» العِلْمَ في هذه المدرسة على أيدي مُبَرِّزين مِن الأساتذة في ذلك الزَّمن، منهم الشَّيخ إبراهيم الأحدب؛ ويبدو أنَّ نظام المدرسة كان يعمد إلى تشجيع المتفوِّقين من التَّلاميذ، لِمتابعة دراستهم بإشراف مباشر، من شخصيَّات أدبيَّة وثقافيَّة، على تعليمهم وتثقيفهم. وهكذا، تسنَّى للتِّلميذ «أحمد عبَّاس سٌليمان»، وبعد ثلاث سنواتٍ من بدء دراسته في المدرسة «الراشِديَّة» هذه، أن يحظى سنة 1866، وقد بلغ حينها الثَّالثة عشرة من العمر، بتوصيَّة من المربِّي الكبير، في تلك المرحلة، «علاَّمة عصره»، الشَّيخ عبد الله خالد، ليكون من مريدي الشَّاعر عمر الأنسي، فيثقف الأدب والمعرفة مباشرة منه وبرفقته.

يعتبر الشَّاعر عمر بن محمَّد بن ديب الأنسي (1237 -1293 هـ) (1821 -1876م)، من الشخصيَّات الإداريَّة والأدبيَّة والثقافيَّة الفذَّة في زمانه؛ إذ كان مطبوعاً على الشعر، فكان أكثر اشتغاله به، على أنه تقلّب في مناصب عديدة؛ منها أنه تقلَّد «نظارة النٌّفوس» (الأحوال الشَّخصيَّة) في جبل لبنان سنة ١٢٦٤ﻫ، بأمر قائمقام جبل لبنان، الأمير الدُّرزيِّ، أمين أرسلان؛ فأقام في بلدة «الشُّويفات» نحو أربع سنوات (زيدان: 346). ويبدو أنَّ صداقة قويَّة نشأت بين الشَّاعر عمر الأنسي، والأمير محمَّد، ابن الأمير أمين أرسلان؛ خاصَّة بعد أن ألغي نظام القائمقاميَّة، وسكن الأمير الدُّرزيُّ، محمَّد في بيروت؛ متفرِّغاً للقراءة والتَّأليف، وصار رئيساً للجمعيَّة العلميَّة السُّوريَّة (أرسلان: 41)؛ وكان الأمير محمَّد، هذا، مثقَّفاً واسع الاطلاع، يهوى الشِّعر والرَّسم ويتقن عدداً من اللُّغات الأجنبيَّة.

تشاء الصُّدف أن يزور الأمير الدُّرزي المثقَّف، صديقه الشاعر السنِّي البيروتي سنة 1867، وأن يلتقي هناك بالتَّلميذ «أحمد عبَّاس سليمان»، الذي يشرف الشَّاعر الأنسي على تعميق معارفه وتوسعة آفاق ثقافته. ويبدو أنَّ الأميرَ صار يُباحث الفتى «أحمد عبَّاس سُليمان» في بعض مسائل النحو، وكان الفتى يُحسن الجواب على كلِّ ما كان يُسائلهُ فيهِ الأمير المُثَقَّفُ من موضوعات؛ فما كان من الأمير محمَّد أرسلان، وهو الدُّرزيُّ الألمعيُّ، إلاَّ أن أُعْجِبَ بما خَبِرَهُ شخصيَّة الفتي «أحمد عبَّاس سُليمان» ورآه مِن اندفاعه نحو المعرفة؛ فاقترحَ الأميرُ عليهِ أنْ يَسْتَكْمِلَ تعليمه، وقد بلغَ الرَّابعة عشرة من سني العُمر، في مِصر؛ وتحديداً بالالتحاق هناكَ طالباً في «الجامع الأزهر». ويصادفُ، أنَّ زميلاً للفتى «أحمد عبَّاس سليمان»، اسمه «خضر خالد»، تمكَّن آنذاكَ مِن الالتحاق بـ «الأزهر» لمتابعة دراسته؛ الأمر الذي ضاعف من حماس الفتى «أحمد عبَّاس» للمثابرة في السَّعي إلى تحقيق سَفَرهِ إلى تلك المؤسَّسة المعرفيَّة العريقة.

يبدو أنَّ المسؤوليَّات العائليَّة التي كانت مُلقاة على عاتقِ، «عبَّاس سُلَيمان»، والِد الفتى «أحمَد»، خاصَّة وأنَّه كان المعيل الوحيد لعائلته، كانت تقفُ عائقاً كبيراً أمامَ تحقيقِ أيَّةَ إمكانيَّةٍ لِسفَرِ ابنهِ «أحمد» على نفقةِ والده وحدها؛ خاصَّة وأنَّ الوالد كثيراً ما كان يَسْتعينُ بابنِهِ، هذا، لِيَعينه في أمورِ عَمَلِهِ الذي تعتاشُ العائلةُ مِنْهُ. ويبدو، كذلكَ، أنَّ خبر الفَتى «أحمد»، ورغبتَهُ الشَّديدة في متابعة تحصيلِ علومِهِ في مِصر، وصلت، عبر الشَّاعر عُمر الأُنسي، إلى الحاج حُسَيْن بَيْهُم (1833-1881)، وكان من كرام ناس بيروت ومِن أدبائها وأثريائها؛ أسَّس في بيروت مكتبة كبيرة، ضمَّت عديداً من المخطوطات النَّادرة والمؤلَّفات القَيِّمة؛ وأنشأ «الجمعيَّة العلميَّة السُّوريَّة»، وكانت مهمة هذه الجمعيَّة العمل على جَمْعِ الشَّمل وإعادة الوُدِّ المفقود بين مختلف الطَّوائف؛ ولقد تولى، الحاج «حسين بيهم»، رئاستها، إثر رئاسة زميله الأمير «محمد بن أمين أرسلان» لها. ولقد أنشأ الحاج «حسين بيهم»، لهذه الجمعيَّة، صحيفة تنطق بإسمها؛ وكان، فضلاً عن هذا كُلِّه، عضواً في «مجلس إيالة صيدا»، وانتُخب، أوائل عهد السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، عضواً في «مجلس المبعوثان»؛ فصار نائباً عن مدينة بيروت.

عَيَّنَ الحاج «حسين بيهم»، للفتى الطَّموحِ، «أحمد عبَّاس سليمان»، منحةً مالِيَّةً شَهْرِيَّةً مِن رَيْعٍ أَو لعلَّهُ كان وقفاً، خَصَّه آل بيهم، لطلبة العِلم. وانتدب، الحاج «حسين بيهم»، تالياً، كلاَّ من الشَّاعر «عمر الأنسي»، ورفيقه الشَّيخ «عبد الرَّحمن الحوت»، لِتَليينِ مَوْقِفِ الوالد «عبَّاس سليمان» تجاه الموضوع، وإقناعِهِ بالموافقةِ على سَفَرِ ابْنِهِ إلى مِصر للدِّراسةِ في جامِعِها «الأزهر».

أَذِنَ «عبَّاس سليمان» لابنه الفتى «أحمد»، بالسَّفر إلى مصر، لمتابعة تحصيله العلميِّ فيها في «الجامع الأزهر»؛ وفَرَضَ هذا الوالدُ على نفسه، كذلك، مبلغاً من المالِ، أضافه إلى ما رتَّبه الحاج حسين بيهم، لمساعدة الفتى؛ وكان أن ولَّى «أحمد عبَّاس سليمان»، وهو في الخامِسَةِ عَشَرَةَ مِن سِنِيِّ عُمْرِهِ، وَجْهَهُ شَطرَ مُؤسَّسةِ «الجامع الأزهر» العريقةِ في مصر، سنة 1285هـ الموافقة لِسَنَةِ 1868 للميلاد.

______

– حورية محمّد حمو، حركة النقد المسرحي في سورية 1967 – 1988، دار المحرر الأدبي للنشر والتوزيع والترجمة، 1998.

  • فيليب دي طرازي، تاريخ الصحافة العربية – الجزء الثاني، وكالة الصحافة العربية، 2020.

– جرجي زيدان، تراجم مشاهير الشرق – الجزء الثاني، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.

***

الدِّراسةُ في الأزهر

غادَرَ «أحمد عبَّاس سليمان»، حِينَ كانَ في الخامِسَةِ عَشَرَةَ مِن سِنِيِّ عمره، مدينته بيروت سنة 1868، إلى القاهرة؛ ليتابعَ تحصيله العلميِّ في جامِعها الأزهر، بِدَعْمٍ مالِيٍّ متواضِعٍ تمكَّن تأمُينهُ من والده؛ وبِمنحةٍ دِراسيَّةٍ أَمَّنَها له الحاج «حُسين بَيْهُم»، مِنْ وَقْفٍ خصَّصَهُ «آل بَيْهُم» في بيروت، لِطَلَبَةِ العِلْمِ مِن أبْناءِ المَدينة.

أَمْضَى «أحمَد عبَّاس» أوَّل سَنَتَينِ لَهُ مِن الدِّراسةِ في «الجامِع الأَزْهَر»، في «القاهرة»، فَرِحاً بِما كانَ يُحَصِّلُهُ مِن معارف، وسَعيداً بإقامةٍ كريمةٍ تَسَنَّت لهُ في «أمِّ الدُّنيا»، ومجاورةٍ لعِلماء ودارِسينَ مِن ناسِها والوافدينَ إِلَيْها. نَجَح الفتى الطَّموحُ في تحدي العَوزِ الماليِّ، في بيروت؛ وأَفْلَحَ في تجاوزِ صعوباتِ الغربةِ في القاهرة، وأَغَذَّ سَيْراً في مسالِكِ المعرِفَةِ ومعارِجِ العِلمِ التي كانَ عليهِ الخوضَ فيها في مطلع مراحلِ دراستِهِ «الأَزهرِيَّة». وكانَ للطَّالب الطَّامِحٍ إلى العُلا، أن يعودَ، بعدَ سنتين متوالِيَتَينِ من هذا، في إجازةِ العُطلةِ الصَّيفيَّة لسنة 1870، وقد بلغ السَّابعة عشرة من العمر، إلى مدينته بيروت.

مِنَ الطَّبيعيِّ، أنْ يكون الطَّالِبُ الأزهريُّ «أحمد عبَّاس» قد اغتبطَ بلقاء وَالِدَيْه وأخوتِهِ في بيروت؛ كما أنَّه سعدَ بإخبارِهِ لأساتذته فيها، حين التقاهُم، عمَّا حَصَّلَهُ مِن علومٍ واكتسبهُ مِن معارِفَ وعاينهُ مِن خُبُراتٍ في دراسته الأزهريَّة. وكانت زيارة موسمِ العطلةِ الصَّيفيَّةِ هذه إلى بيروت، مناسبةً أُخرى أثبتَ فيها «أحمد عبَّاس» إصراره على الإقبال المستمر على تحصيل المعارف، إذ خصَّص وقتاً، خلال إقامته القصيرة في بيروت مع ذويه، لمتابعة دروس في المنطق والأدب على، كبيرٍ من علمائها، هو الشَّيخ «يوسف الأسير» (1817-1889).

عاد «أحمد عبَّاس سُليمان» إلى القاهرة، خريفَ سنة 1870،؛ ليتابع دراساته في جامعها الأزهر؛ وما أن مضت ثلاثُ سنواتٍ، وكان حينها في السَّنة ما قبل الأخيرة من سنوات الدِّراسة، حتَّى وصلهُ، من بيروت، نبأ نَعْيِ والدهِ؛ فما كانَ على هذا الطَّالب، آسِفاً، أن يواجِه تحدِيَّاً جديداً وصاعِقاً يخترِق مسيرتهُ العِلميَّةِ في «الأزهر»، وربما يكون مُحْبِطاً لجميع آمالِهِ في متابعةِ ما تبقَّى لهُ مِن هذهِ الدِّراسَةِ وإتمامِها، والعودةِ إلى مدينتهِ بيروت، مِن ثَمَّ، شَيْخَاً أَزْهَرِيَّاً، بِكُلِّ ما لِهذِهِ «المَشْيَخَةِ»، عِنْدَ ذويهِ وأساتِذَتِهِ وناسِه في بيروت، مِنْ قِيمةِ عِلْمِيَّةٍ، وما يُمكنُ أَنْ تُشَرِّعُهُ لِصاحِبِها مِن آفاقِ العَمَلِ الكَريمِ والنُّهوضِ السَّامي.

يبدو أن المَدَد المالي، الذي كانت توفِّره منحةَ «آل بيهم»، للطَّالبِ الأزهريِّ «أحمد عبَّاس سُليمان»، ما عادت تكفي، إثر انقطاعِ الرَّفد الماليِّ مِنْ والِدهِ، لِسَدادِ ما يجبُ مِن مُسْتَلْزماتِ الدَّرسِ والإقامةِ في «القاهرة»؛ والظَّاهِرُ أنَّ ما مِنْ جِهَةٍ، في القاهرةِ، تمكَّنت مِن تقديمِ أيَّ إِنْجَاد لهذا الطَّالِب. لقد التَأَمَ شملُ جَحيمُ الفاقَةِ مع ضَنَكِ الحِرمانِ وشقاءِ الوحدة في الغربة، في مُجَابَهَة طموحات الطَّالب الأزهريِّ الشَّاب؛ فلم لم يكن أمامه، والحالُ كذلك، سوى قَطْعِ دراستهِ الأزهرِيَّةِ، وإن كانت في مرحلتها الأخيرة؛ والعملِ، مِنْ ثمَّ، تَعجيل الرُّجوعِ إلى بيروت؛ وتعزيز الظَّنِّ الشَّخصيِّ بأنَّ عائلته في بيروت، قد تكون بحاجة ماسَّةٍ إلى وقوفه إلى جانبها، بعد أن فقدت مُعِيلِها الأكبر.

لَمْلَمَ «أحمد عبَّاس»، وقد بلغ العشرين مِن سِنِيِّ العُمر، سنة 1873، ما خالَهُ قد صار أطلالَ طموحه في اكتساب «الشَّهادةِ الأزهريَّة»، فالْتَقَطَ ما استطاعَ وضعهُ في حقيبةِ السَّفرِ مِنْ كُتُبِهِ وأوراقه وسائر حاجيَّاته، وأمسَكَ بالأغلى من ذكرياتِهِ، وقد ضمَّها، في باقةِ حُزْنٍ وأسى، إلى الأجمل من طموحاتِه المُنْكَسِرَةِ وآلامِهِ المُتَعاظِمَةِ، وغادر «الجامع الأزهر»، ورَحَلَ مُحَطَّمَ الكيانِ عن القاهرة، عن «أمُّ الدُّنيا». تَوَجَّه الشَّابُ، المكروبُ؛ بكلِّ ما في وُجْدانِهِ، لَحْظَتَذاكَ، مِن بؤسٍ وحُزنٍ وفَجيعَةٍ، إلى ثَغْرِ «الاسكندريَّة»؛ لِيُسافِرَ مِن هُناكَ، بالباخِرَةِ المتوجِّهة إلى مرفأ بيروت.

***

أَزْمَةٌ فِي الاسْكَنْدَرِيَّة

كانت «الاسكندريَّة»، زَمَنَ سَفَرِ «أحمد عبَّاس سُليمان» إِلَيْها، مُغادِراً إلى مدينتِهِ بيروت، مَرْكَزَ تَسْويقٍ ماليٍّ شديدِ الأهميَّة في المِنْطَقَةِ، وخاصَّة للأوروبيين الذين ساهمَ كثيرٌ مِنْهُم في بعثِ حَيويَّةِ النَّشاطاتِ التِّجارِيَّةِ والماليَّة للأسواق ونشرِها. وكانَ بعضُ أهلِ «بلاد الشَّام»، الذين يُقِيمونَ في المدينةِ، يساهِمونَ بشطرٍ لا بأسَ بهِ مِنْ تلكَ النَّشاطات؛ مِمَّا كان يُساهِمُ في تعزيز النَّشاط التجاري وحركة السَّفر بين مِصر وبلاد الشَّام.

كان يقيم في الاسكندريّة، عهدذاك، رجلُ أعمال مشهورٍ، يُقالُ أنَّه من أصولٍ ترتبطُ بمدينةِ «حلب»، في بلاد الشَّام، اسمه «سَعْد الله حَلابُو»؛ وسيكون لهذا الرَّجُل أثرٌ بَيِّنٌ في تَصْويِبِ مَسيرةِ حَياةِ «أَحمَد عَبَّاس سُلَيمان»؛ الطَّالبُ الأزهريِّ الذي اِضْطُرّهُ ضِيِقُ الحالِ المادِيِّ إلى الانْكِفاءِ المُرِّ عَن تَحصِيلِ عُلومِهِ مِن «الأزهرِ» في «القاهِرةِ». كانَ «سعد الله حلابو»، وقد وَرَدَ اسمُهُ، في ما حَفِظه الشَّيخ «محمَّد رشيد رضا» مِن كلامِ الأُستاذ «عبد الباسط الأنسي» عن سِيرةِ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، مُصَحَّفَاً بـ «حلابه»، يَمتلكُ مؤسَّسةً تجاريَّة كبرى؛ مِن بينِ نشاطاتِها، العديدةِ والمتنوِّعَةِ، استخدامُ باخرتين لِنَقْلِ البضائعِ والرُّكَّابِ، بَين «الاسكندريَّة» وبعضِ مرافيء «البَحرِ الأبيض المتوسِّط»؛ وكانت الباخرة «قاصد كريم» تعمل على خطِّ الاسكندريَّة-بيروت، في هذا المجال.

لم يكُنْ «سعد الله حلابو»، مجرَّد رجلِ أعمالٍ عاديٍّ، على الإطلاق. كانت له صلاتٌ أساسٌ مع أهلِ السُّلطةِ والحُكْمِ وناسِ السِّياسة في عصره؛ وكان مِن المُساهمين الكِبارِ في «الشَّركة العزيزيَّةِ»، التي أُنْشِئت سنة 1868، في عهد «الخِدِيوي «إسماعيل» (1863- 1879م)، نسبةً إلى السُّلطان العثمانيِّ «عبد العزيز»؛ وكان الأسطولُ التِّجاريُّ الذي تملكه «الشَّركة العزيزيَّة»، مُكَوَّنا مِن سُفُنٍ مخصَّصةٍ لِنقل البضائعِ، بين موانئ البحرين الأبيض والأحمر. ومِن جِهَةٍ أخرى، فقد كان «سعد الله حلابو»، مِن الكِبار الذين ساندوا الثَّائر المصري «عبد الله النَّديم» (1842-1896)، الذي يُعْتَبَرُ من زُعَماءِ النُّخْبَةِ المصريَّةِ المُثَقَّفةِ في عصرهِ، ومِن الصًّحفيين الذين واجهوا مع القائد المصريِّ «أحمد عُرابي» (1841-1911)، الفسادَ السِّياسي والاستبداد السُّلطوي للأجانِبِ في مصر؛ كما ساهمَ «حلابو»، ضمن نشاطاته الثّقافيَّة والسِّياسيَّة، في إنشاء «الجمعيَّة الخيريَّة الإسلاميَّة»، في «الإسكندريَّة»، سنة 1879م.؛ وعمِلَ على تشجيعِ الحركة المسرحيَّة في الإسكندرية وتنشيطها؛ إذ نجح في استقطاب مَسْرَح «أحمَد أبو خَليل القبَّاني» مِنْ «دِمَشْق» إلى «الاسكندريَّة» و«القاهرة»، سنة 1884؛ بعد أنْ كانَ السُّلطان العثماني قد أصدر أمراً بإغلاق هذا المسرح في «دِمَشق» سنة 1883. وقد يكونُ من الطَّريف، ههنا، أن أسرة «سعد الله حلابو»، ارتبطت بالعائلة المالكة في مصر، بصلات قربى ونسب؛ إذ اقترن، «شفيق»، ابن «سعد الله حلابو»، بـ «زبيدة»، ابنة الأمير «حسين كامل»؛ وكانت الممثلة المصريَّة المشهورة، «زبيدة ثروت»، من أحفاد هذين الزَّوجينِ؛ كما أنَّ «بلديَّة الاسكندريَّة» أطلقت اسم «سعد الله حلابو» على أحدِ شوارعِ منطقة «مُحَرَّم بِك» فيها؛ وما فَتئَ الشَّارع يحملُ هذا الاسمَ حتَّى اليَوْم. (مصباح: الموسوعة التاريخية لأعلام حلب).

يبدو أنَّ الشَّاب اليائِس «احمد عبَّاس سليمان»، لَفَتَ نَظَرَ بعضِ العاملينَ في «الشَّرِكَة العزيزيَّة» التي تنقل بواخرها المسافِرِينَ مِن «الاسكندرِيَّة» إلى «بيروت»؛ وعلى الأرجح، فإنَّ خَبَرَ الشَّابَّ البَيْرُوتِي البائِسِ واليائِسِ وَصلَ إلى مسامِعِ السيِّد «سعد الله حلابو»؛ المعروف بِحَدْبِهِ على أهلِ العِلْمِ والثَّقافَةِ بشكلٍ عام، وعلى أبناءِ «برِّ الشَّامِ» مِنْهُم، بشكلٍ خاص. ويُمْكِنُ للمرءِ أنْ يَتَصَوَّرَ، هَهُنا، مَنْظَرَ الطَّالب الأَزْهَريِّ الكَئيبِ، وَهُوَ يَسْتجيبُ، بِكُلِّ ما فيهِ مِن أسى، لدعوةِ من السيِّد «حلابو»، لمقابلته والتَّعَرُّفِ عَلَيْهِ. وتُشْرِقُ المُفاجأةُ، ههُنا، فَجْرَ حَياةٍ، يَعِدُ بِأَلْفِ أُغنيةٍ عَذْبَةٍ للظَّفرِ والنَّجاحِ والمُسْتَقْبَلِ الخَيِّر، إذْ يُبْلِغُ السيِّد «سعد الله حلابو»، الشَّاب الأزهريَّ «أحمد عبَّاس سُليمان»، أنَّه لَنْ يُسْمَح لهُ بِالصُّعودِ إلى الباخرةِ المتوجِّهة إلى «بيروت»؛ فَلا مَناصَ لهُ مِنَ الرُّجوعِ إلى «القاهرة»، والعملِ فوراً على مُتابعةِ ما تبقَّى لَهُ مِن الشُّهورِ القليلةِ في دراسةِ مُتَطَلِّباتِ السَّنةِ الأخيرةِ مِن تَحصِيلِهِ لِشهادَةِ «الأَزْهَر». ويُمكنُ للْمَرءِ أنْ يَتَخَيَّلَ، ههنا، الإرباكَ والحَيْرةَ اللَّذانِ أصابا الشَّابَ «احمد عبَّاس سُليمان»، وَهُو يَسْتَمِعُ إلى هذهِ التَّوجيهاتِ الصَّارِمَةِ للسيِّد «حلابو»؛ بلْ لعلَّهُ مِنَ المُمْكِنِ جِدَّاً أنْ يَعيشَ المرءُ مَع هذا الشَّاب ارْتِبَاكَهُ مِن تَدَخُّل هذا الغريبِ عنهُ، بِشأنٍ شخصيٍّ خاصٍّ بهِ؛ وأنْ يَخْتَبِرِ، كذلكَ، حَيْرَة الشَّابِ، إنْ كانَ لا مفرَّ لَهُ مِن هذهِ العودةِ إلى «الأَزهر»، في كَيْفيَّةِ تَدَبُّرِ الأَمْرِ، وَهُوَ صِفْرُ اليَدينِ، لا مُعينَ لَهُ على فَقْرِهِ الماليِّ ولا مساعدَ يعرفه لِيَرْفَعَ عَنْهُ بَعضَ ما كانَ يُعانِيهِ مِن أَلَمٍ نَفْسِيٍّ خانِقٍ، ومِن كآبةٍ قاتِلَةٍ، ما انفكَّت تَتَفشى في كلِّ ما لَدَيْهِ مِنْ وُجدان. ولم يَطُل هذا الحالُ كثيراً، إذ يُخْبِرُ السيِّد «حلابو»، الشَّاب «أحمد عبَّاس سُليمان»، أنَّ كلَّ ما سيحتاجُ إليهِ مِن مالٍ، لإتمامِ ما تَبَقَّى لَهُ مِن دراسةِ هذهِ السَّنةِ الخامِسَةِ والأخيرةِ لتحصيلِ الشَّهادة الأزهريَّةِ، سَيَتكفَّل هو شخصِيَّاً بتأمينه له؛ ومِنْ دُونِ قَيْدٍ أو شرطٍ، سوى قَيْدِ المثابرةِ على الدَّرسِ وشَرْطِ النَّجاحِِ في الحصولِ على الشَّهادة.

يرْجع «أحمد عبَّاس سُليمان» إلى «القاهرة»، وهو مأخُوذٌ، بما يُشبه السِّحرَ وأكْثَر، في كَيْفِيَّةِ حُصولِ هذهِ العقبةِ الكأداء التي انتصبت مارداً طاغِياً في وجهِ إتمامِهِ للمرحلةِ الأخيرةِ من الدِّراسة؛ وكيف كان لكلِّ هذا أن يَضْمَحِلَّ، وكأنَّ شيئاً لم يَكُن، بمبادرة خّيِّرَةٍ، مِن شَخْصٍ لَمْ يحصلْ أنْ ألتقاهُ مِنْ قبل، أو رَبَطَتْهُ بِهِ أيَّةُ مصلحةٍ شَخْصِيَّةٍ؛ ولَعَلَّ «أحمد عبَّاس سُليمان» أدرك، ههُنا، في وَعْيِهِ، أو حتَّى في لا وَعْيِهِ، أنَّ ثَمَّة خُيوطاً تَرْبُطُ ما بينَ تَلْمَذتِهِ على الشَّاعِرِ «عُمَر الأنسي» في «بيروت»، ولقائِهِ، مِن ثمَّ، الأمير «محمَّد أرسلان»، الذي حَضَّهُ على متابعةِ تحصيلهِ العِلْمِيِّ في «الأزهر»، إذْ كان يزور أستاذه الشَّاعر «عمر الأنسي»؛ وبينَ هذينِ، واندفاع الحاج «حُسين بَيْهُم»، لتقديمِ منحةٍ ماليَّةٍ لَهُ، مِن وقفِ «آل بيهم»، للالتحاقِ بالأَزهر؛ مع هذهِ البادِرَةِ الطَّيِّبةِ لإتمامِ دراستِهِ، يُقَدِّمُها لهُ، بمحبَّةٍ وسخاءٍ، السِّيد «سعد الله حلابو». ولَمْ تمضِ سِوى أشهرٍ قليلةٍ، مِنْ سنة 1874، حتَّى كانَ للشَّابِ «أحمَد عبَّاس سُليمان»، وقَدْ صارَ في الحادِيَةِ والعِشْرين مِن عُمْرِهِ، أنْ تَخَرَّجَ في «الأزهر» حيثُ «القاهرة»، «أمّ الدُّنيا»؛ ويعودُ، مُظَفَّراً بالفَوْزِ ومُكَلَّلاُ بالسَّعادةِ، إلى مدينتِهِ «بيروت»، وقد ارتدى الزِّيِّ التَّقليديِّ لعلماء الدِّينِ الإسلاميِّ، وصار، مُذْ ذاكَ اليوم، يُعْرَفُ باسمِ «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري».

______

المراجع:

د. مجدي مصباح، من أعلام حلب والإسكندرية، الموسوعة التاريخية لأعلام حلب، صفحة FaceBook.

www.facebook.com/1041017155927655/posts/3046991575330193/ 19/6/2020.

***

مِنَ التَّدريسِ إلى بَيعِ الخُضار

وَصَلَ «الشَّيخ أَحمَد عبَّاس الأزهري»، على الباخِرَةِ «قاصِد كَريم» المُنْطَلقة من ثغر «الإسكندريَّة»، إلى مدينته «بيروت»، سنة 1874؛ وكان قد بلغ حينها الحاديةَ والعشرين من سنيِّ العُمر. وكان أن دعاه، فور وصولِه، المُعَلِّم «بُطرس البُستاني» (1819-1883) إلى أن يكون مدرِّساً لمبادئ الدِّين الإسلاميِّ وبعضِ علومه، للمسلمين من تلاميذ «المدرسة الوطنيَّة»؛ التي كان قد سبق للمعلِّم «بطرس البُستاني» أنْ أفتتح أعمالها في «بيروت»، قبل عشر سنواتٍ، سنة 1863م. وفي منطقة «زقاق البلاط» تحديداً.

مثَّلت «المدرسة الوطنيَّة» ظاهرةً أساساً في الحياة الوطنِيَّةِ والتَّربويَّة والثقافِيَّة والاجتماعِيَّةِ في بيروت، خاصَّةً، والمناطق المحيطةِ بها إنطلاقاً من «جبل لبنان»، ووصولاً حتَّى مدينةِ «البصرة» في العراق. ويُذْكَرُ عن المعلِّم «بطرس البُستاني» أنَّهُ نشرَ في جريدة «الجنان»، إعلاناً وردَ فيهِ قَوْلُه «قرَّرنا اِنْشاءَ المدرسة الوطنيَّة على أساسٍ وطنيٍّ لا طائفيٍّ»، وإنَّ «أبوابها كانت وستظلُّ مفتوحةً أمامَ تلامذةٍ مِن جميعِ الطَّوائِفِ والمِلَلِ والأَجْناسِ؛ مِن دونِ أنْ تَتَعَرَّضَ لِمذاهِبِهِم الخُصوصِيَّةِ أو تُجْبِرُهُم باتِّباعِ غَيْرِ مَذْهَبِ والِدِيهِم، مَع اِعْطاءِ الرُّخْصَةِ التَّامَّةِ لَهُم في اِجْراءِ فُروضِ دِيانَاتِهِم». (نجاريان: النَّهضة القوميَّة، الفصل الثالث). وانمازَت «المدرسةُ الوطنِيَّةُ»، وكما يُشيرُ اسُمها تحديداً، وكما دلَّت عليهِ وقائعُ الأمورِ فيها، بأداءِ رسالةٍ وطنيَّة عربيَّة علمانيَّة، بديلاً مِنَ التَّبشيرِ المَذهبيِّ الدِّينيِّ، الذي كانت تعتمده، في ذلك الحِينِ، عِدَّةُ مدارسَ تابعةٍ لِلإرساليَّات التَّبشيريَّةِ؛ كما كانت أوَّل مدرسةٍ وطنيَّةٍ في البلد؛ تُعنى بتدريس اللُّغات العربيَّة والإنكليزيَّة والفرنسيَّة، وتسعى إلى تركيز خاصٍّ على محبَّة الإنسان والارتباط الإيجابيِّ بالأوطان، وقد توافَدَ إليها الطلاَّب مِن الطَّوائف الدِّينيَّة كافَّة، ومِن عديدٍ مِن المناطقِ في لبنان والبلدانِ المجاوِرَة، وضمَّت في رحابِها أساتذة من المسلمين والمسيحيِّين، على حدٍّ سواء.

يمكن القَوْلَ إنَّ التحاقَ الشَّيخ الشَّاب «أحمد عبَّاس الأزهري»، بالهيئةِ التَّعليميَّة في هذه المدرسةِ، قدَّم لهُ شخصيَّاً، ولمنطلقاتِ فِكْرِهِ الوَطَنيِّ، وللجانب العروبيِّ من هذا الفكر بصورة خاصَّة، كما سيظهرُ لا حقاً، فضلاً عن منطقِ رؤيتهِ التَّربويَّة، فرصة طيِّبةً للعملِ في أجواء دينيَّةٍ ومعرِفِيَّةٍ وثقافِيَّةٍ ووطنِيَّةٍ بعيدةٍ عن التَّعصُّب الأعمى والتَّحيُّز الجاهِل.

واقع الحال، لم يكن الشَّيخ «أحمد»، المُسلِمَ الوحيد، بَيْنَ أعضاءِ الهَيْئَةِ التَّدريسيَّة في هذه المدرسة، على الإطلاق؛ فقد كان، أستاذُه الشَّيخ «يوسفُ الأسير»، وقد تلمَذَ عليهِ الشَّيخ «أحمَد»، في المنطِق والآداب، سنة 1870، إبَّان تمضية إجازتِهِ الصَّيفيَّة من «الأزهر» في بيروت؛ مِنْ كِبار الأساتذةِ فيها؛ ولعلَّ الشَّيخَ «الأسير»، هو مَنْ زكَّا الشَّيخ الشَّاب، خرِّيج «الأَزْهَر»، «أحمَد عبَّاس الأَزهريِّ»، للتَّدريسِ في هذه المدرسةِ، لدى مؤسِّسِها المعلِّم «بطرس البُستاني».

لئن ظَنَّ الشَّيخ الشَّاب «أحمد عبَّاس الأَزْهَري»، أنَّه بدأ بتحقيقِ طموحِهِ العِلميِّ والتَّربويِّ، بقَدَمٍ ثابِتَةٍ وخُطُواتٍ واثِقَةٍ، يوم التحقَ بالهيئة التَّدريسيَّة في «المدرسة الوطنِيَّة»، فإنَّه ما لبثَ أن وَجَدَ نفسَهُ، وبعد أقلِّ من ثلاث سنواتٍ، خارِج صفوف التَّدريسِ بل وبعيداً عن المدرسةِ ومن فيها من زملاء التَّدريس وأصدقاء العمل. لقد حصل أنَّ المعلِم «بطرس البستاني» اضطُرّ، جرَّاء ما كان يُخْشى من انتشارٍ لوباء «الهواء الأصفر»، وقتذاكَ من سنة 1877، إلى إيقاف التَّدريس، وتجميد جميعِ نشاطاتِ المدرسةِ، وصَرْفِ جميعِ أساتِذَتِها والعامِلِين فيها مِنَ الخدْمةِ، والانتهاءِ مِن كلِّ هذا إلى إقفال أبواب المدرسةِ. وهكذا يَجِدُ «الشَّيخ أحمَد عبَّاس الأزهري» نفسه، وهو في الرَّابعةِ والعِشرين من سِنِيِّ عُمْرِهِ، بلا وظيفةٍ يعيشُ فيها ما اكتسبه من عِلْمٍ ومعرفة ويمارس عبرها ما آمن به من وجود تربوي ووطنيِّ؛ ويعتاشُ، مع عائلتِهِ، مِن المُرَتَّبِ الماليِّ الذي كان يتقاضاه من إدارَتِها. ويا لها من داهِيَة زَلْزَلَت كيانَ الشَّاب الطَّموح، بل يا لها من نكبةٍ حارقةٍ للقلبِ ومقلقةٍ للكيان قد حلَّت في دنياه التي تحوَّلَت عن إشراقها البهيجِ إلى ظُلْمَةٍ دَكْناءٍ، ويا لكلِّ هذا من ابتلاءٍ قاسٍ مُرْعِبٍ على الشَّيخ «أحمد» أن يُواجِهُ، وأن يتحدَّاه، وأن يَنْجَح في تَحَدِّيه.

قد يكونُ «الشَّيخ أحمَد عبَّاس الأزهري» استرجَعَ في بالِهِ محطَّات المواجهة والتَّحدِّي التي عرفها منذ طفولته؛ ولعلَّهُ تذكَّر كثيراً من أمورها وناسها وما قدَّموه له، وكيف كان له أن يواجه بتقدماتهم ودعمهم الصِّعاب. ولربما خاطبَ الشَّيخ «أحمَد» نفسه، في هذا الاسترجاع للذكريات، بأنَّه كان في ما مضى طفلاً وفتىً وطلعةً، قد يحَفِّزَ الآخرين على تشجيعِهِ ومساندتِه؛ فهل سيبقى يطلُب المساعدة، وهو اليوم في الرابعة والعشرين من العمر؟ وقد يكونُ الشَّيخ «أحمد» عاين،َ هَهُنا مخاضاً عَسيراً شديدَ الإيلامِ؛ بيدَ أنَّه كانَ مخاضاً مَهِيباً قاد إلى رؤيَةٍ ألْمَعِيَّةٍ في مواجهَةِ التَّحدِّي، ومقارعتهِ الهدمَ بالوجودِ والإلغاء بالبقاءِ والمنعَ بالاستمرارِ. رأى الشَّيخ «أحمَد»، أن لا مجال له أو ربما لسواهُ، للعمل في التَّدريس، طالما أن وباء «الهواء الأصفر» بات يهدِّد بإقفال المدارِس عن بكرَةِ أبيها. ولعلَّ الشَّيخَ اكتنَه، في هذا الرَّأي، أنَّ لا مجال، بات مفتوحاً له، للعملِ بمعارِفِه التَّدريسيَّة، في مثل هذه الأحوال، ولرُبَّمَا أدركَ بوضوح عَمَلِيٍّ وكُلِيٍّ أنْ لا مالَ لديهِ، أو يُمْكِنْ أنْ يَقْبَلَ بِهِ صدَقَةً من الآخرينَ، لِسَدِّ رَمَقِهِ ورَمَقِ مَنْ هُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُم مِنْ عائِلَتِهِ؛ ولعلَّهُ انكشف له، في خضمِ ما كان يراه أو يرى فيهِ من أمورٍ، أنَّ لديهِ قُدٌراتٍ عقليَّة مُعينةٍ لهُ على تفكير سويٍّ، كما لديهِ همَّةً ونشاطاً وقدرة طيِّبَةً على العَمَل، وأنَّ له، قبل كُلِّ هذا وبعدهُ، ربَّاً يَعينَهُ على تجاوزِ هذا البلاء. كانت هذه لحظةَ انبِلاجِ فجر القرار، الذي أشرق على حياة الشَّيخ «أحمد» من نور التَّوكُّلِ على اللهِ، ومِن عزمِ الااعتمادِ على الذَّات، ومِن شَجاعَةِ الإيمانِ بالحقِّ بالعملِ الشَّريفِ، أيَّاً كان هذا العمل.

لقد كان للشَّيخ «الشَّاب، أحمد عبَّاس الأزهري»، خرِّيج «الأزهر» وأستاذ العلوم الإسلاميَّةِ في «المدرسة الوطنيَّةِ»، والتِّلميذ النَّجيب للكبار الذين منهم الشيخ «حسن البنَّا» والشَّيخ «إبراهيم الأحدب» و الشيخ «عبد الله خالد» والشَّاعر «عمر الأنسي» والشَّيخ «يوسف الأسير»؛ ومن نال ثقة الأمير «محمَّد أمين أرسلان» والحاج «حسين بيهم» والسيِّد «سعد الله حلابو»، أن يمضي العَزمَ على البدء بتوجُّه جديد في حياتِه، بل لعلَّه التَّوجُّهَ الأكثر غرابةً عمَّا كانَ قد أَعَدَّ لهُ نفسهُ من سعيٍّ في حقولِ العغِلم وممارسَة التَّدريسِ وعَيْشِ الحياةِ الثَّقافِيَّة. فَرَضَ الشَّيخ «أحمد» على نفسِهِ أن يكون، في هذه المرحلةِ، مجرَّدَ بائعٍ للخُضار؛ وسرعان ما هَيَّأ الشَّيخُ الأزهريُّ مكاناً لهُ في بيروت، جعلَ مِنْهُ دُكاناً لبيعِ الخضارِ؛ وصار يشتري ما يمكنه من سوقِ الجُمْلَةِ، ويبيعُ منهُ في دُكَّانِهِ بالمُفَرَّق؛ ولسانُ حالِهِ يَذْكُرُ، سِرَّاً وعَلانِيَةً، ما كانَ قَوْلَ الإمام «الشَّافعي» (767-820):

تَوَكَّلْتُ فِي رِزْقِــــي عَلَى اللهِ خَالِقِـي

وَأَيْقَنْتُ أَنَّ اللهَ لا شَكَّ رَازِقِــــــي

***

في المدرسة الدَّاوُدِيَّة

كانَ الشَّيخُ الشَّابُ «أحمَد عَبَّاس الأَزْهَرِي»، بعد أن أدرك صُعوبَة، وربما استحالةِ، متابعة عملهِ في مجالاتِ التَّدَّريسِ والتَّعليم، نتيجةَ إقفالِ «المدرسة الوطنيَّة» أبوابها، تَحَسُّباً مِن إدارتِها لانتشارِ وباءِ «الهواء الأصفر»؛ قد قرَّر أنْ يُواجِهَ الحياة بالتَّحوُّلِ إلى بَيْعِ الخضار. كانَ الشَّيخُ «أَحْمَد»، وهو الأُستاذُ الأَزهرِيُّ الشَّاب؛ يقفُ في أحدِ أيَّام سنة 1878، عند بابِ دكَّانِهِ لبِيْعِ الخُضار؛ يَعتني بمجموعات الخَسِّ، ويرصُفُ ثِمارَ الكوسا والباذنجان والخيار، ويرصف حبَّات البطاطا والبندورة، كلٌّ وفاق ما يُبْرِزُ حجمها ولمعانها للشاري، ويَرُشُّ الماء على باقاتِ البقدونس والكُزبره والنَّعناع، حين مرَّ بِهِ صُدْفةً، ولعلَّ الأمر كان عَمَد، الحاج «أبو عُمر»، «محيي الدِّين عُمَر بَيْهُم. كان «محيي الدِّين بيهم»، من كِرامِ أهل «بيروت» المُعْتَبَرين، وقد ذُكِرَ مِن مناقِبِهِ أنَّهُ كانَ معروفاً بالوجاهةِ والحِكْمَةِ وإصابة الرَّأي. (لحد خاطر: عهد المتصرفين في لبنان)، وكانَ قد عيِّنَ، وقتذاكَ، رئيساً للمجلس البلديِّ لمدينة «بيروت»، إثر وفاة رئيسِهِ «أحمد أباظة»، الذي تولَّى رئاسة المجلس البلدي سنة 1872، بعد أن كان يشغل منصب قائمقام مركز بيروت ووكيل المتصرِّف فيها، وصار في عهده جرُّ مياه «نهر الكلب» إلى المدينة سنة 1875، كما صدر في زمنه، وبناء على موافقته، فرمان التَّرخيص من الآستانة للجامعة اليسوعيَّة للعمل في بيروت. (بلدية بيروت). أمَّا الحاج «محيي الدِّين بيهم»، فكان، كذلك، عضواَ في «الجمعيَّة العِلمِيَّةِ السُّورِيَّةِ» التي ترأَّسها بدايةً الأمير «محمَّد أمين أرسلان»؛ ثمَّ تلاهُ، في رئاستِها، الحاج «حسين بيهم»، وكانت مهمة هذه الجمعية، كما سبقت الإشارة، جَمْعُ الشَّملِ وإعادةُ الوُدّ المفقودِ بين مختلف الطَّوائف. ولقد كان لكلِّ من الأمير «محمَّد أرسلان» ولـ «آل بيهم»، أثرٌ جَلِيٌّ في مساعدةِ الشِّيخ «أحمد» في مسيرة حياتِه، وخاصة في مجالات تشجيعهِ على الالتحاق بـ «الأزهر» في «القاهرة؛ إذ كان للمنحة الدِّراسيَّة الماليَّة، التي وفَّرها له الحاج «حسين بيهم»، من وقفٍ خيريٍّ لآل بيهم، الفاعليَّة الأساس في تأمين دراستِه في «الأَزْهَر» وشؤون معاشِهِ في «القاهرة».

لعلَّ الحاج «أبو عمر»، «مُحيي الدين بَيْهُم»، نَظَرَ في وجْهِ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، إذ الشَّيخُ الشَّابُ مُنْهَمِكٌ في العِنايةِ بالخُضارِ التي كان، يُعِدُّها لِلْبَيْعِ في دُكَّانِه. ولربَّما أَحَسَّ الشَّيخُ «أحمد» بنظراتِ الحاج «أبي عمر» القَلِقَة والمَغْمومَةِ، وهي تَنْصَبُّ عَلَيْهِ أَلَقَ احترامٍ وتقديرٍ يشوبُهُ جَمْرُ أسىً، فَتَتَّقِدُ فيهِ نيرانُ حُرْقَةٍ ولهيبُ غَمٍّ. ولعلَّ هذا اللِّقاءَ بين الحاج «أبي عمر» والشَّيخ «أحمد»، لَمْ يَكُنْ الأوَّل بينهما؛ غَيْرَ أنَّه كانَ الأوَّلَ، والشَّيخ يعملُ بائعاً للخضار. ويُحْتَملُ أنَّ أحداً مِنَ الرَّجُلَينِ لَمْ يَزِدْ على نَظراتِ الآخَرَ إليهِ، وَلَوْ بِحَرفٍ واحِد؛ ومَع هذا، فيبدو أنَّ أموراً عَديدةً ستَحْصَلُ، إِثْرَ تلكَ النَّظراتِ المُتبادَلَةِ والتَّحِيَّتَين الصَّامِتَتينِ بينَهُما.

لَمْ تَمْضِ سوى أيَّامٌ قليلةٌ جِدَّاً، حتَّى وَصَلَ أحدُهُم، مِنْ طَرَفِ الأمير «مصطفى أرسلان»، يٌبْلِغُ الشَّيخ «أحمد» دَعْوَةً مِنْ قِيَلِ إدارة المدرسة «الدَّاوديَّة»، ليكون في عِداد أفرادِ الهيئةِ التَّدريسيَّةِ فيها. ولعلَّ بعضُ الوَمَضاتِ، يُمْكِنُ أَنْ تُساعِدَ، هَهُنا، على كَشْفِ وَلَوْ جُزءٍ مِن خلفيَّات التِحاقِ الشِّيخِ «أحمَد عبَّاس الأَزْهَري»، بالعَمَلِ مُدَرِّساً في هذه المُؤَسَّسةِ؛ كَما تُهَيِّءُ صورةً عَنْ الخَلفِيَّة الاجتماعِيَّةِ والثقافِيَّة والحضارِيَّةِ الوطَنِيَّةِ الانْفِتاحِيَّةِ التي كانت تُحَفِّز التَّفاعل بين ناسِ البلدِ في ذلك الزَّمن، وخاصةً من خلال «الجمعيَّة العِلْمِيَّة السٌّورِيَّة»، التي ضمَّت تحت أفيائها أبناء الديانات والطوائف المذاهب المختلفة والمتنوعةِ من ناس الوطن.

لقد أسهم المُتَصَرِّفُ العُثماني على جبل لبنان، «داوود باشا» (1816-1873)، مع مجموعةٍ من أعيان طائفةِ الموحِّدين الدُّروزِ، على رأسهم «سعيد تلحوق، وكيل الطَّائفة الدُّرزِيَّة في «مجلس إدارة جبل لبنان»، في تأسيسِ المدرسة «الدَّاوديَّة» سنة 1862؛ وقد اتَّخَذَت اسمها هذا من اسم المتصرِّف «داوود باشا»؛ لِتَكوُنَ مدرسةً داخِلِيَّةً مَجَّانِيَّةً في بلدة «عْبَيْه». تقعُ هذه البلدةُ عندَ التِّلال المُشرفةِ على السَّاحل الجنوبيِّ لمدينةِ «بيروت»؛ وتبعد عنها حوالي 30 كلم.. و«عْبَيْه»، معروفة تاريخيَّاُ بأنَّها حاضرة الأمراء التَّنوخيّين في لبنان؛ وشكَّلت، في مراحل عديدة من الزَّمنِ، مركز ثِقَلٍ سياسيٍّ واجْتِماعيٍّ وتعليميٍّ وازن في تاريخ لبنان، مِن أيَّام الحُكْمِ العبَّاسي، وصولاً إلى محطَّات بارزة من التَّاريخ المُعاصِر. وكان تمويل المدرسة «الدَّوديَّةِ» يتمُّ مُحَصَّلةَ ضَمِّ بعضِ أوقافِ الموحِّدين الدُّروز العامَّة، في وَقْفٍ واحدٍ، سُمِّي «وقف الدَّاووديَّة». (البعيني: 17-18) ويبقى القَوْلُ، مِن ناحِيَةٍ أُخرى، إنَّ الأمير «مصطفى أمين أرسلان» (1848- 1914)، وهو من الأمراء الدُّروز مِن «آل أرسلان»؛ حين وصول مرسال إدارةِ المدرسةِ «الدَّاوُدِيَّةِ»، إلى الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزْهَريِّ»،» للعمل مدرِّساً في «الدَّاودِيَّة»، يشغلُ منصِب «قائمقام الشُّوف». وكان، هذا الأميرُ كذلِكَ، وهنا النُّقطَةُ الأهم، عُضواً في «الجمعيَّة العلميَّة السٌّورية»؛ التي ينتمي إلى عضوِّيَّتها معه، الحاج «محيي الدِّين بيهم» وكذلك الشَّاعر «عمر الأنسي» والأمير «محمَّد أرسلان»؛ الذين كان لكلٍّ منهم سَعْيَهُ الفاعِل في دَعْمِ مسيرةِ الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، منذ كانَ الشَّيخُ في مطلعِ الصِّبا. ولعلَّ مِنَ المَعْقولِ التَّأكيد، عبر كلِ هذا، القول بأنَّ السَّعيَ إلى النَّهضةِ العِلميَّةِ والرِّفعةِ الإنسانيَّة، هو ما كان يجمَعُ ، عهدذاك، بين هؤلاء القومِ، على اختلااف مناطقهم الجغرافيَّة وتنوُّعِ انتماءاته الدِّينية والسياسيَّة. ومن هذا المنطلق، توَلَّى الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزْهري»، بِدْءاً مِن سنة 1878، وكان في الخامِسَةِ والعِشرين من العُمر، مهامه التَّدريسيَّةِ في المدرسة «الدَّاوديَّةِ» في «عْبَيْه»؛ وكان المعلِّم «بطرس البستاني» (البروتستانتي) والشَّيخ «ناصيف اليازجي» (الكاثوليكي) (1800-1871)، مِمَّن يقومون، كذلك، معه، هو (المسلم السُّنِّيُّ)، بالتَّدريس في هذه المدرسة (الدُّرزِيَّة). (خوري: 226) و(قيس: 84).

***

مع جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة والمدرسة السُّلطانيَّة في بيروت

تأسَّست «مدرسة المقاصد الأولى للذُّكور»، في مدينة «بيروت»، خلال شهر أيلول (سبتمبر) من سنة 1879؛ وكان مقرُّها في «سوق البازركان»، شرق «جامع الأمير مُنذر»؛ وبلغ عدد تلامذتها 118 تلميذاً؛ وتولَّى تدريسهم ثلاثة معلمين فقط. (الفجر1: 31)؛ ثمَّ كان أن تأسَّست «مدرسة المقاصد الثَّانية للذُّكور»، خلال شهر كانون الأول (ديسمبر) من سنة 1879م.؛ واعتُمِدَ الطَّابق الثَّاني من «المكتب السُّلطاني»، في محلَّة «الباشورة»، وهو المبنى الحالي لما يعرف اليوم بـ «ثانويَّة المقاصد للبنات»، مقرَّاً لها؛ وبلغ عدد تلاميذها 200 تلميذ، وما لبث عددهم أن ارتفع إلى 230. ولعلَّ القَيِّمين على «جمعيَّة المقاصِد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، ارتأوا أنَّ تزايد الإقبال على المدرسة، بات يتطلَّبُ منهم تأمين إدارة تعليميَّة وتربويَّة، ذاتُ خبرةٍ جَيِّدَةٍ ومعرفةٍ مُتَضَلِّعَةٍ في شؤون التَّعليم وتَبَحُّرٍ في مهام الإدارة وتطلُّعاتِ التَّربيَّة، سنة 1882، من الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأَزهري»، أن يتولَّى المهام الإداريَّةِ لهذه المدرسة تحديداً.

كان الشَّيخ، «أحمد عبَّاس الأزهري»، قد بلغ، في هذا الحين، الثَّامنة والعشرين من سِنِيِّ عُمْرِهِ؛ ولعلَّهُ وجدَ في ما يعرضُهُ عليهِ القيِّمون على «جمعيَّة المقاصد» مجالَ راحَةٍ له. يُحْتَمَلُ أنَّه قد راى أنَّ عمله سيكون غير بعيدٍ، هذه المرَّة، عن مكان سُكْناهُ في «بيروت»؛ ولعلَّه وجد في هذا الأمر راحةً ما، إذ لن يُضْطَرَّه إلى بذلِ ما كان يعانيهِ مِن مشاقِ الانتقالِ إلى «عْبَيه». ولربما تصوَّر، الشَّيخ «أحمد»، كذلك، إنَّ المنصبَ الذي يعرضُ عليه، من قِبَلِ «جمعيَّةِ المقاصِدِ»، منصبٌ إداريٍّ؛ وفي هذا ما قد يُتيحُ له، إلى حَدٍّ كبيرٍ، قدرة أكبر لتحقيقِ رؤىً مُعَيَّنَةٍ في التَّربية والتَّعليم، وطموحاتٍ أخرى ينوي العمل على إنجازِها.

انتقلَ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، سنة 1882، مِن التَّدريس في المدرسة «الدَّاودِيَّة» في «عْبِيه»، إلى العملِ في إدارة «مدرسة المقاصد الثَّانية للذُّكور»، في بيروت، وهو في الثامنة والعشرين من العُمر؛ بيدَ أنَّه، وبعد أقل من سنة، أضيفت إليه مهمَّة تدريس اللُّغة العربيَّة والعلوم الدِّينية في «المدرسة الرُّشديَّة العسكريَّة»، في منطقة «حَوْضِ الولاية» في «بيروت»، والقريبة من مَقرِّ عمله في «مدرسة المقاصد الثانية للذُّكور». وواقع الحال، فإنَّ هذه المدرسة، أٌنْشِئت بهمَّة «راشد باشا»، والي سوريا، آنذاك، وبالتَّعاون مع المجلس البلدي لمدينة بيروت، في عهد رئيسه «أحمد أباظة»؛ غير أنَّ التَّدريس بدأ فيها صباح يوم الثُّلاثاء، الواقع فيه 2 تشرين الأوَّل من سنة 1877، في زمن رئاسة الحاج «محيي الدِّين بيهم»، للمجلس البلدي في بيروت؛ (البستاني: الجنان)؛ وقد لا يكون مِن المستبعدِ، ههنا، أن يكون الحاج «محيي الدِّن بيهم»، وهو مَن ساهم، قبل أربعِ سنواتٍ، في تخليصِ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري» من «محنة بيع الخضار»؛ وبصفته رئيس المجلس البلدي لمدينة بيروت، والمُساهِم الأساس مع والي سوريا في بناء هذه المدرسة، قد شَاطَرَ إدارة المدرسة «الرُّشدية العسكريَّة»، الموافقة على تسمية الشَّيخ «الأزهري» مُدرِّساً للعربيَّة فيها سنة 1883.

لم تمَضِ سنتان، على تكليفِ الشَّيخِ «أحمَد عبَّاس الأَزْهَري»، مهامه الإداريَّة في «مدرسة المقاصد الثَّانية للذُّكور»، حتَّى كان، بهمَّة القيّمين، عهدذاك، وبموافقة والي بيروت العُثماني، «أحمد حمدي باشا» (1826-1885)، تحويل موقع «المكتب السُّلطاني» ومبناه، سنة 1833، إلى موقعٍ لـ «المدرسة السُّلطانيَّة». أشرفت «شُعبة المعارف»، بهمَّة نائب بيروت فضيلة القاضي الشَّيخ «عبد الله جمال الدِّين» وتوجيهاتهِ، على تأمين التَّجهيزات اللازمة؛ وكان حفل الافتتاح بحضور متصرِّف بيروت، «نصوحي بك»، وثلَّة من المسؤولين الرَّسميين والأعيان، وألقى خطبة الافتتاح «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأَزْهَري». (ثمرات: نيسان)

عُيِّن الشِّبخ «حسين الجِسر» (1845-1909)، وكان عالمَ دينٍ جَليلٍ، وذا باعٍ في مجالاتِ التَّربيةِ والتَّعليم، مديرا للمدرسة؛ أمَّا الشِّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، وكان، آنذاك، في الحادية والثَّلاثين من العمر، فقد جرى تعيينهُ ناظِراً عامَّاً، مهمَّته تأمين الإدارة التَّنفيذيَّة لهذه المدرسة.

***

أزمةٌ جديدةٌ ودارُ نشرٍ وبثٌّ لروح دينيَّة ووطنيَّة

باشَرَ الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، سنة 1884، مهامه في النَّظارة العامَّة لـ «المدرسة السُّلطانيَّة» في بيروت؛ وكانَ، حِينَذاك، في الحاديةِ والثَّلاثين مِن العُمر. كانَ الشَّيخُ «أحمد» يعيشُ هناءةَ أنَّ مَقرَّ عمله صار، هذه المرَّة، في «بيروت»، بعدَ أن كانَ مِن قَبْلُ في: «عْبَيه»؛ و«بيروت»، كما لا يخفى، هي منذ البدءِ مدينةُ سَكَنِهِ ومُسْتَقَرُّ أهْلِهِ وذَويهِ. ولقد وجد الشَّيخ «أحمد» أنَّ العيشَ في «بيروت»، فضلاً عن أنَّها مَقَرٌّ مُناسِبٌ لتأمينِ ما قد يَتَطَلَّبُه عَملُهُ في المدرسة «السُّلطانِيَّةِ» مِنْ علاقاتٍ اجتماعيَّةٍ واهتماماتٍ إداريَّة ومتابعاتٍ تربويَّةٍ؛ فإنَّها، بِحُكْمِ مَوْقِعِها العام، المدينةُ التي ستُمَكِّنُهُ من متابعةِ ما قد يقودهُ إِلَيْهِ طُمُوحه وترسُمُهُ له سَعةُ فِكْرَهِ وتقودُه في دروبهِ رحابة ثقافتهِ، مِن لقاءاتٍ فكريَّة ووطنِيَّةٍ؛ فضلاً عمَّا كان يجدهُ في هذا العملِ من توافقٍ تامٍّ مع معارفهِ العلميَّة وتوجُّهاتِهِ الثَّقافيَّةِ والوطنِيَّة.

لعلَّ الشَّيخ «أحمد» عاش فرحةَ الاستقرارِ هذه المرَّة، برغدٍ وهناءٍ؛ ولا يُسْتَبْعَدُ، أبداً، أنَّ الشَّيخَ قد يكون بدأ يتذوَّقُ، مع هذه الفرحةِ، سعادةَ الأمانِ من غوائلِ الدَّهرِ؛ التي طالما كشَّرت عن أنيابها في وجهه، والتي لم يرتح ولو لحظةً في حياته من مقارعتِها بكلِّ طاقاتهِ، والكَدِّ الدَّؤوبِ في مساعي تذليل ما كانت تثيره مِن صُّعوبات، ورَدْمٍ لا يهدأ لما تفاجئه به من مهاوٍ، والاستمرِ المُكِدِّ في وضعِ المداميكِ الصَّالحةِ لحياةٍ مثمرة يبتغي تحقيقها.

لم يَدُرْ ببالِ الشَّيح «أحمد»، آنئذٍ، أنَّ ما كان يحصل قبل سنتين، وتحديداً منذ سنة 1882، في مِصر، الغالية على قلبه، لجهة أصوله العائليَّة، ولجهة دراسته في أزهرها، سيكون مجالَ تأثير كبير على مسيرته، وسيترك بصماتٍ واضحةٍ ضمن محطَّات رحلة عمره ومعارج توجُّهات فكره وسلوكه وطموحه. ولم يخطر على بال الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، أن ثمَّة «أزهريَّاً» في مصر، يكبره بأربع سنوات فقط وتخرَّج في «الأزهر» قبله بأربع سنوات، سيكون له، هو الآخر، أن يترك بصماتٍ جليَّةٍ لا عليهِ وحده، بل على جيلٍ، وربما أجيالٍ، مِن أبناء مِصر وبيروت، وعديد من بلدان العرب والمسلمين.

قامت «الثَّورة العُرابِيَّةُ» في مصر، سنة 1882؛ بقيادة «أحمد عُرابي» (1841-1911)، ضدَّ «الخِديوي تَوفيق» (1852-1892) ومقارعةً للتَّدَخُّلِ الأجنبيِّ في شؤونِ البلاد. وكان الشَّيخ الأزهريّ «محمد عَبْدُه» (1849-1905)، وهو مِن كِبارِ دعاة التَّجديد والإصلاح الإسلاميِّ، خلال الرِّبع الأخير من القرن التَّاسع عشر، من مؤيِّديها؛ فتمَّ القبض عليه من قبل السُّلطة الخديويَّة، وحُكم عليه، تالِياً، سنة 1882، بالنَّفي مِن مِصر لمدَّة ثلاث سنوات (فاتنة شاكر: الإمام محمد عَبْدُه)، انتقل الشَّيخ «محَّمد عَبْدُه» إلى مدينة «بيروت»، فأقام فيها زهاء سنة؛ ثمَّ كان له أن يُسافِر إلى العاصمة الفرنسيَّة «باريس»، حيث عمل مع، أستاذه وصديقه، «جمال الدِّين الإفغاني» (1838-1897) على إصدار جريدة «العُروة الوُثقى»، وقد كانت منبراً يصدحُ ناسهُ بالدَّعوة إلى وحدة الأمَّة الإسلاميَّة. ويبدو أنَّ ثمَّة ما طرأ من أمورٍ، فارقَ إثرها الشَّيخ «محمَّد عبْدُه»، السَّيِّد «جمال الدِّين الأفغاني»؛ فغادر الشَّيخُ «باريس»، آخر سنة 1884، واتجَّهَ إلى «تونس»، لكنَّه لم يستقر فيها، وعاد إلى الإقامةِ في «بيروت»، سنة 1885.

رجع الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه» إلى العَيْشِ، مرَّة أُخرى، بين أصدقائه ومؤيِّديه، في «بيروت»؛ وانهمكَ، في هذه المرحلة، بالانكبابِ على وضعِ عددٍ من مؤلَّفاتِه؛ كما نشُطَ في إقامة حلقاتِ تدريس وتوجيه في بعض مساجد المدينة، التي أحبَّتهُ. ولقد التفَّ كثيرٌ من ناس «بيروت»، وأهل المعرفة من أبنائها حول الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه»؛ يقبسون من عِلْمِه الغَزيرِ ويَنْهلون مِن أفكاره الإصلاحيَّة.

مِنَ المُسْتَبعِدِ، ههنا، ألاَّ يكون الشيخ «أحمد عبَّاس الأَزهري»، من بين هؤلاء؛ وكيف لا، والشَّيخ «أَحمد» يشترك مع الشيخ «عَبْدُه» في أن كلاهما تخرَّجَ في «الأزهرِ» في مصر، وأن كلاهما يشتغلان بالتَّربيةِ والمعرفة، وكلُّ واحدٍ منهما مهتمٌّ بالإصلاح الاجتماعيِّ والثَّقافيِّ لبيئته وناسها. ووفاقاً لما يرويهِ الأستاذ «عبد الباسط فتحُ الله»، مُحَدِّثاً عن تلمذتِهِ على الشيَّخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، فإنَّ الشيَّخ «أحمد» كان، في «المدرسة السَّلطانيَّة» «أوَّل من (شَنَّفَ) آذاننا، وشغل أذهاننا بهذه الكلمات الذَّهبية: حُبُّ الوطن، الغَيرةُ على الأمَّة، والاستعداد للمستقبل، المجدُ، النُّهوض، الاعتماد على النَّفس، وإلى أمثالها من الفرائد الكريمة التي كان ينسجُ منها خُطَبَهُ، ومواعظه، ويشعل بنارها أفئدة النَّشءِ الذي كان يُرَبِّيهِ، ويعدُّه؛ لخدمة ملَّته وبلاده». وهكذا، فلم يلبث أن انتقل الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه» سنة 1886، إلى التَّدريس في «المدرسة السُّلطانيَّة» في بيروت؛ وغنيٌّ عن القولِ، ههنا، إنَّ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزهري»، كان هو من يتولَّى شؤون النَّظارةِ، أو الإدارةِ التَّنفيذيَّةِ، في هذه المدرسةِ الكُبرى.

اشتُهِرَ عن الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه»، إبَّان عمله في إلقاء الدُّرورس في «المدرسة السُّلطانية»، ما ساهم بهِ من ارتقاءٍ بمناهجها وتعميقٍ لمفاهيم العملِ فيها وتجديدٍ لطُرقِ التَّدريس المتَّبعة في رحابِها. وكان للشَّيخِ «مُحَمَّد عَبْدُه»، كذلك، أن وَضَعَ، في هذه المرحلةِ، بعضَ مقالاتٍ جرى نشرُها في جريدة «ثمرات الفنون»، لـ «عبد القادر قبَّاني» (1855-1935)؛ كما اشتغل بالعمل على شَرْحِهِ الشَّهير لـ «نهج البلاغة» للإمام «عليّ بن أبي طالب»، و«مقامات» «بديع الزَّمان الهَمَذاني». وكان للشَّيخ «مُحَمَّد عبده»، من جهة أخرى، أن يتزوَّج في بيروت، في هذه المرحلة من عيشِهِ، بعد أن توفيت زَوْجُهُ الأولى؛ (نصرة، الفلسفة النَّسويَّة في فكر الإمام محمد عبده).

ظلَّ الشيخ «محمَّد عبدُه»، مقيماً في  بيروت حتَّى قُيِّضَ له، أن يرجعَ إلى مِصر، سنة 1889، بوساطة ثنائيَّة، مع القنصل البريطاني العام لمصر، والحاكم الفعليّ فيها، «اللُّورد كرومر» (1841-1917). قام بهذه الوساطة كلُّ من الزَّعيم المصري «سعد باشا زغلول» (1859-1927)، الذي كان سالِفاً، من طلبة الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه»، والأميرة نازلي فاضل (1853-1913)، وقد كانت من مناصري ثورة «أحمد عُرابي». وبالفعل، فقد أبلغَ اللُّورد «كرومر» إلى «الخديوي توفيق» موافقتهُ على وَقْفِ حُكْمِ نَفْيِ «الإمام»؛ فما كان من الخديوي، إلاَّ أن أصدر أمرَ العفو  عن الإمام «محمَّد عَبْدُه»؛ شريطة أنْ يُوْقِفَ «الإمام» جميعَ نشاطاته السِّياسيَّة. ( العقاد، الإمام محمد عبده).

كانت «المدرسة السُّلطانيَّة»، كما هو معروف، مُلْحَقَةً في إدارتِها لـ «شُعبة المعارف»، التَّابعة لسلطة والي بيروت؛ ويبدو أنَّ ثمَّة أموراً قد أزعجت القيِّمين على الإدارةِ في مكاتب الولاية، جرَّاء ما كان يقوم به الشَّيخ «محمَّد عبده» من نشاطات؛ وخاصَّة لِمَا كان ينادي به من موضوعات الحريَّة، بشكل عامٍّ، وما يدعو إليه من أمورِ الإصلاح بشكلٍّ خاصٍّ؛ ولذا، فقد صدر الأمر الرَّسمي، سنة 1886، بكفِّ الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه» عن العمل في هذه المدرسة. وهنا تثور ثائرة الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، في وجه هذا القرار؛ وسرعان ما يستقيل، احتجاجاً، من جميع مهامه في «المدرسة السًّلطانيَّة».

كانت الحياة تبسم برحابةٍ وفرحٍ للشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، في هذا الحين، وقد بلغ الثَّالثة والثَّلاثين مِن سِنيِّ عمره؛ وكان له في ما أحرزه، من نجاحٍ باهرٍ في مجالاتِ الإدارة التَّعليمية والتَّربويَّة، ما يمهِّد له صَوْغَ مستقبلٍ واعدٍ في الميادينِ المدرسيَّةِ والتَّوجُّهاتِ التَّعليميَّةِ؛ غير أنَّ إصراره على معارضةِ القرار الحكوميِّ القاضي ِبِمَنْعِ الشَّيخ «محمَّد عبده» من التَّدريس في «المدرسة السُّلطانيَّة»، وَضَعَهُ، مرَّةً جديدةً، أمام تحدِّي العقبات ومواجهات المصاعب، انتصاراً لحقٍّ اعتقده وغَلَبةً لرأيٍ آمن به. لم يكن أمام الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، في هذهِ الحال، سوى أن يُقْدِمُ، وهو في أوج تَنَعُّمِهِ بنجاحاته الإداريَّة والتَّربويَّة والتَّعليميَّة، سنة 1886، على الاستقالةِ من جميع مهامهِ في «المدرسة السُّلطانيَّة»؛ احتجاجاً على ما قامت به «شُعبة المعارف»، ومِن ورائها الإدارة الحكوميَّة لولاية بيروت، مِنْ تَعَسُّفٍ إداريٍّ وظُلمٍ أدبيٍّ واضطهادٍ شخصيٍّ وإجحافٍ ثقافيٍّ وجَوْرٍ علميٍّ، بحقٍّ عالِم ومُثَقَّفٍ ومًصلِحٍ اجتماعيٍّ هو الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه».

ينكفئُ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري» عن الإدارة التَّربويَّة وعن ممارسة التَّعليم؛ بيد أنَّه يواجِه هذا التَّحدي بأن يبدأ، وهو في الرَّابعة والثَّلاثين من العمر، مجالاً جديداً من العمل؛ فيفتتح سنة 1887، في «بيروت» «المكتبة العثمانيَّة»؛ مؤسَّسةً ثقافيَّةً تجاريَّةً خاصَّةً، تُعنى ببيعِ الكُتُبِ ونَشْرِ ما يُمكنها مِن المؤلَّفات العلميَّة والأدبيَّة. 

استمرَّ الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، ناشِطاً في «المكتبة العثمانيَّة»، التي أسسها سنة 1887، فتمكَّن مِن النَّجاحِ في تحدِّيهِ لقمعِ الحريَّاتِ وانتصارهِ على اضطهادِ العُلماءِ ومواجهتهِ لظُلمِ المعرفةِ ومحاربيتهِ للإجحافِ بالحقوقِ الإنسانيَّة. يَذْكُرُ تلميذه وصديقه ومساعده، الأستاذ «عبد الباسط فتحُ الله»، في هذا المجال، أنَّ الشَّيخَ «الأزهريَّ» تمكَّن، عبر «المكتبة العثمانيَة»، التي أنشأها، وطيلة ثماني سنواتٍ متواليةٍ من العمل الدَّؤوب فيها، مِن «خِدمة العِلم وتحبيب المطالعة إلى كثيرٍ من النَّاس؛ وذلك بما كان ينتقي لهم مِن التَّآليفِ الحَسَنَةِ في كلِّ فرعٍ من الفروع». ويُضيف الأستاذ «فتح الله»، أنَّ هذه المؤسَّسة الثَّقافيَّة والمعرفيَّة، التي أنشأها الشَّيخ «الأزهري»،  لم تكن «لتغفل مُنْشِئها عن غرضه الأسمى مِن إصلاحِ النُّفوسِ بالوعظِ والإرشادِ والتَّربية والتَّعليم». فلقد استمرَّ الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأَزهريّ» في «إلقاء الدُّروس في المسجد (الجامع العُمَرِيّ)، وكان يرمي فيها إلى تهذيبِ الأخلاقِ التي إنَّما يكون المُسْلِمُ بها مُسْلِمًا بلِ الإنسانُ إنساناً»؛ ويَرى الأستاذ «فتح الله»، أنَّ الشَّيخ «سعى إلى تَفْقِيهِ عامَّة النَّاس في الدِّين، واجتهد في تنوير عقولها بمواعظ التَّاريخ الإسلاميِّ، ومناقب الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم؛ وقد قصد لمثل هذه الغاية مِن الإصلاح الطَّريقة الشَّاذليَّة، وعمل جهده على ضبط أفكار مريديه من العامَّة بضابط الشَّرع وشحذ قرائح المعلمين منهم بآداب التَّصوُّف».

***

الكلّيّة العثمانيّة

ثماني سنواتٍ مضت على الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأَزْهَرِيِّ»، وكان قد بَلَغَ، وَقْتَذاكَ، الثَّانية والأربعين مِن سِنِيِّ العُمرِ؛ وهوَ ثابتٌ على نشاطه في «المكتبة العُثمانيَّة»، التي أسَّسها في بيروت؛ يتعاطى أمورَ إِجْتِلاب الكُتبِ وبَيْعها، ويُزاوِلُ نَشْرَ ما يُمكنه مِن المؤلَّفات التي يَسْتَنْسِبُها، بثقافتهِ ووعيهِ المعرفِيِّ، لعمله. كانَ الشَّيخُ، وكما ذَكَر الأستاذ «عبد الباسِط الأُنسي»، ينهضُ إلى هذه المهام جميعها، «مِن دون أن يفارقه الفكر في خدمة الأمَّة». لقد آلمه ما عاينه مِمَّا كان يَعْتَوِرُ «المدرسة السَّلطانيَّة»، في ذلك الوقت، مِن تَبَدُّلٍّ سَلْبِيٍّ في المفاهيم التَّعليميَّة والقِيَمِ التَّربويَّة والرُّؤى الإصلاحيَّة؛ التي سعى إلى إرسائها فيها مع الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه». ويبدو أنَّ تَفَاقُم أمورِ «المدرسة السُّلطانيَّة»، دفع بالشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزْهَريّ»، إلى التَّفكير مجدَّداً وجِدِّيَّاً بالعودةِ إلى الغَوْصِ في مجالاتِ التَّربيَّة والتَّعليم.

ثمَّة حدثٌ جَلَلٌ حلَّ بناس مدينة «بيروت»، سنة 1882؛ إذ عَمَدَت السَّلطة العثمانيَّة، حينذاك، إلى حلِّ «جمعية المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة»، بعد ثلاث سنوات مِن تأسيسها وانتخاب السيِّد «عبد القادر قبَّاني» رئيساً لها سنة 1878. قد يكون في هذا الأمر، إضافةً إلى ما كان الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزْهريُّ» قد خَبِرَهُ مِن تَقَهْقُر أوضاعِ «المدرسة السُّلطانيَّة»، وما قد يقود إليهِ هذا الإنْحِطاطُ التَّعليمي والإداريِّ من مساوئ على النَّاشئة من أهله وأبنائه، قد دفعه إلى التَّفكيرِ بضرورةِ القيام بِعَمَلٍ يُنْقِذُ فيه الحقل التعليمي والتربوي في بيئته مما كان يُحْدِقُ بِهِ مِن مَقَابِح ويلْتَفُّ حوله من مَسَاوِئ وما قد يحاصره، إِثرها، من المَعايِب التي لا يمكن التَّغاضي عنها.

يتوجَّه الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأَزْهَريُّ» إلى أحد أعيان بيروت، وكبيرٍ مِن وجهاءِ المسلمين فيها، والرَّئيس السَّابق لـ «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة» السَّيِّد «عبد القادر قبَّاني»؛ يشاورهُ في الحالِ البائسِ الذي وصلتِ إليه أوضاع النَّاس في بيروت عامَّة، وأمور التَّربيَّة والتَّعليم فيها، بِوَجْهٍ خاص. كان «عبد القادر قبَّاني»، وقتذاك، مِمَّن مارسوا شؤونَ التَّربية والتَّعليم في مطلعِ حياته؛ كما كان في سنة 1880، عضواً في مجلسِ إدارةِ «لواء بيروت»؛ وقد انتقلَ، مِن ثمَّ، إلى العمل في السِّلك القضائيِّ، قاضياً في «المحكمة الابتدائيَّة»، ثمَّ أصبح في سنة 1888، قاضياً في «محكمة الإستئناف». وخلاصة القَوْلِ، فـ «عبد القادر قبَّاني» كان مِنْ أهل الشَّانِ العام المرموقين، المثقَّفين والسَّاعين إلى إصلاحِ الأوضاعِ الاجتماعيَّة في بيئته، من جهة؛ ولم يكن، من جهة أخرى، ليُثيرَ، بِحُكْمِ ما حازَهُ مِن مناصب حكوميَّة، أيَّة حَسَاسِيَّة لدى السَّلطةِ المركزيَّة في الآستانة. (كريديه: 219-220).

عمل الشيخ «أحمد عبَّاس الأَزهري»، سنة 1895، وهو في الثَّانية والأربعين من العمر، على تأسيس مدرسة جديدة في بيروت؛ وكان عمله هذا، بالتَّعاون مع السيِّد «عبد القادر قبَّاني»؛ الذي ساهَمَ مع «الشَّيخ» بجزءٍ مِن جُهود التَّأسيس، في الاستحصال على الإذن الرَّسمي بالعمل، كما اشتركَ معَهُ بقسمٍ مِن الكلفة الماليَّة لتجهيزِ هذهِ المدرسةِ وتأمينِ احتياجاتها.

تَخَيَّرَ «الشَّيخُ» لمدرسته اسم «المدرسة العثمانيَّة»؛ ولعلَّ في هذا ما قد يتوافقُ مع اعتماده صفة «العثمانية»، مِنْ قَبْلُ، للمكتبة التي أسَّسها في مرحلةٍ سابقةٍ. لرُبَّما كان في انتقاء «الشَّيخِ» لهذه التَّسمية، اعتقاده أن في هذا ما قد يُؤَمِّنُ له بعض استساغةٍ لعمله من قبل مسؤولي الولاية ومأموري الرِّقابة فيها، بعد أن كان قد أَكَمَدَهم، قبل ثماني سنواتٍ، بتقديم استقالته من العمل في «المدرسةِ السُّلطانيَّة» التَّابعة لإشرافهم في «شعبة المعارف»، احتجاجاً منه على تَعَسُّفِ سلطتهم تجاه الشَّيخ «مُحَمَّد عَبْدُه». وانتقى الشَّيخ الأزهري، الأستاذ «عبد الباسط فتح الله»، من بين تلاميذه وأصدقائه، ليكون مساعده الأساس في شؤون إدارة المدرسة وتنظيم أوضاعها. وكانت المدرسة، في بداية الأمر، في موقعٍ هو بين ما يعرف اليوم بمنطقة «الباشورة» ومنطقة «حوض الولاية» من بيروت؛ وقد التحق بها، بداية عدد قليل من التَّلاميذ. (شبارو: 65).

ما هي إلاَّ سنواتٌ خمسٌ، حين أدركَ الشَّيخ «الأَزهريُّ» الخمسينَ مِن سنين العُمر، وقد تَحَوَّلَت المدرسة، سنة 1900، بجهده وكَدِّه وإصراره ورؤيتهِ، مِن مؤسَّسة تعليميَّة متواضعة، إلى كليَّة كبرى، اسمُها «الكليَّة العثمانيَّة». ولقد نهضت مناهجُ التَّدريس في هذه الكليَّة الكبرى، على التَّوفيق بين مقتضيَّات العلوم الحديثة ومقرَّرات العلوم الدِّينيَّة؛ وأضحت يؤمُّها تلاميذٌ، ليس مِن «بيروت» وحدها، بل مِن خارج «بيروت» و«جبل لبنان»؛ مِن «سورية» و«العراق» و«مصر»، ناهيكَ بـ «الحجاز» و«اليمن» و«مسقط» و«تونس»؛ بل كان مِن تلاميذها مَن وَفَدَ لتلقيِّ العِلمَ في رِحابها من «الأناضول» وحتَّى مِن «سنغفورة». ولذا فلقد أُنشئ ضمن «الكليَّة» قسمٌ داخليٌّ، يؤمِّن الإقامة الكاملة للتَّلاميذ المنتسبين إليه، وآخر خارجي، يكتفي بتقديم الدُّروس إلى المنتسبين إليه من التَّلاميذ. (البيان: 6). وانطلاقاً من هذا كُلِّه، فإنَّ الشَّيخ «أحمد عبَّاس»، الذي طالما عُرف، منذ أن كان في الحادية والعشرين من عمره، سنة 1874، بـ «الشيخ الأزهريِّ»؛ فإنَّه، وفي هذه المرحلة من ترؤسِه لمهامه المُتَيَقَّظَة والمُفْلِحَة والرَّائدة في «الكليَّة العُثمانيَّة»؛ قد غدا يُعْرَفُ، بلقب «الأستاذ الرَّئيس».

شَهِدَت «الكليَّة العثمانيَّة»، بهمَّة «الأستاذ الرَّئيس الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، سنة 1904، افتتاح مكتبة المطالعة الكبرى في مبناها؛ وهي مكتبة ضمَّت، فضلاً عن ما حَوَتْهُ مِن الكُتب، ما يزيد على ألفِ مُجَلَّد مِن أبرز المجلاَّت والدَّوريَّات العِلميَّةِ والأَدَبِيَّةِ والثَّقافِيَّةِ في تلكَ الحقبة، مثل «المقتطف» و«الهلال» و«المشرق» و«دائرة المعارف». ولم يقفْ الأمرُ عند هذا الحدِّ، على الإطلاق، إذْ عمل «الأستاذ الرَّئيس»، في هذه السنة كذلك، على افتتاح قاعة المسرح، في المدرسة. (الحقيقة: العدد 284، 29 أيلول، 1910). وحصلَ أن أقلق، «الأستاذ الرَّئيس» ما كان يلحظه، وقتذاكَ في المجتمعِ، مِن تباينٍ في الرَّأي بين بعض تلامذة المدارس العصريَّة وبين بعضِ طلبةِ العلوم الدِّينيَّة؛ وكان يفترضُ أنَّ سبب هذا الأمر يَكْمُنُ في جَهْلِ كلٍّ مِن الفئتين بعلم الفئة الأخرى. وخشي، «الأستاذ الرَّئيس»، في حينه، على الجهود المبذولة في سبيل نهضة الأمة من أن يحيط بها هذا الخلاف أو يحبطها إلى عكس المقصود منها؛ فوسَّع، قدر ما أمكن في مقرَّرات تدريسِ «الكليَّة العثمانِيَّةِ»، دروس العلوم الدِّينيَّة مِن فِقهٍ وتوحيدٍ، وأضاف إليها درساً في علم «الأصول»؛ كما عمل على إنشاء دائرة خاصَّة بمريدي الإختصاص في العلوم الدِّينية من دونِ سواها، شريطة أن لا يُقبل فيها إلا مَن اضطلع بزادِ معرفيٍّ قَيِّمٍ مِن «العلوم العصريَّة». (البيان: 6).

المراجع: 

– إبراهيم عبد الكريم كريدية، مكتبة نوفل، بيروت، لبنان، 2007.

– عصام شبارو، جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، دار مصباح الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 2000.

– الكلية الإسلامية في بيروت، البيان السنوي، العام 29، المطبعة العثمانية، 1932-1933.

– جريدة الحقيقة: العدد 284، 29 أيلول 1910.

***

الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة والنِّشاط السِّياسي

أضاف «الأستاذ الرَّئيس الشَّيخ أَحمَد عبَّاس الأَزهري»، إلى اهتماماته التَّعليميَّة والتَّربويَّة، يوم صار في الثَّالثة والخمسين من العمر، اهتماماً علنيَّاً بالشَّأن الوطنيِّ في بلده؛ فأصدر، سنة 1909، مع إبنهِ «كمال عبَّاس»، جريدةً أسمياها «الحقيقة»؛ وكانت، على ما يبدو، لها مطبعتها الخاصَّة (مصطفى فروخ: 35) وموقعها بالقرب من محطَّة السِّكة الحديديَّة (عمر فروخ: 23) ؛ واستمرَّت هذه الجريدة في الصُّدور، حتَّى بعد وفاة «الأستاذ الرَّئيس»، فكان توقُّفها سنة 1948.  لعلَّ الأمر، يبدو أكثر وضوحاً، إذا ما كانت الإشارة، ههنا، إلى توجُّه واضحٍ، لجريدة «الحقيقة»، في الدَّعوة إلى تأكيد الحقِّ العربيِّ وانميازه؛ ولكن ضمن دولة الخلافة العثمانيَّة. ولعلَّ الانطلاقة العلنيِّة، في مجالات هذه الدَّعوة، إلى تأكيد الحقِّ العربيِّ في الشَّان السِّياسيِّ العام في بيروت، قد استُهِلَّت مع هذه الجريدة، منذ زمن تأسيسها. ويبدو أنَّ ثمَّةَ تجاوباً من قِبِل «الأستاذ الرَّئيس»، في هذه المرحلة، مع توجُّهات «حزب الحريَّة والائتلاف»، (Hürriyet ve İtilâf Fırkası)، الذي برز، سنة 1909، ثاني أكبر حزب في البرلمان العثماني؛ وقد دعا، هذا الحزبُ، في برنامجه السِّياسي، إلى العمل بموجب التمسُّك بـ «الخلافةِ العثمانيَّة» واعتماد «اللاَّمركزيَّة الحكوميَّة» والاعتراف بـ «حقوق الأقليَّات العُرقيَّة» (خازم:250)

تأسَّس «حزب الحريَّة والائتلاف»، في الدَّولة العثمانيَّة يوم الثُّلاثاء في 21 تشرين الثَّاني سنة 1911؛ وكان يُعرف من قبل، باسم «الاتِّحاد الليبرالي» أو «الائتلاف الليبرالي»: (126Taube)، إذ كان حزباً سياسياً عثمانياً ليبرالياً إبَّان ما يُعرف بـ «الحقبة الدستورية الثانية»، زمن «المشروطيَّة الثَّانية»؛ وهي الحقبة التي بدأ فيها، يوم الجمعة في 24 تموز (يوليو) سنة 1908، إعلان إعادة العمل بالدُّستور في دولة الخلافة العثمانيَّة؛ بعد أن ظلَّ العمل به مُعَلَّقاً طيلة تسعةٍ وعشرين سنة. وثمَّة من يعتبر أنَّ إعلان الدستور العثماني سنة 1908، سجَّلَ منطلق المرحلة السياسيَّة التي مهَّدت لمرحلة التَّصفية النِّهائيَّة للدَّولة العثمانيَّة يوم الأحد في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1922.

نَشُطَ، «حزب الحريَّة والإئتلاف»، ما بين سنتي 1911 و1913؛ بل توصَّل هذا الحزب إلى أن يصبح المنافس الرَّئيس لـ «جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي» (İttihad ve Terakki Cemiyeti)‏، خلال انتخابات سنة 1912. كان محمد كامل باشا (1833-1913)، من كبار قادة «حزب الحريَّة والإئتلاف»؛ خاصة وأنَّه مَن تولَّى مهام الصَّدارة العُظمي لأربع مرَّات، بدأت الأخيرة منها يوم الجمعة 29 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1912، وانتهت يوم الخميس 23 كانون الثاني (يناير) 1913، في عهد السُلطان محمد الخامس رشاد بن عبد المجيد الأول. والصَّدر الأعظم، محمد كامل باشا، هو مَن طلب، سنة 1913، من والي بيروت، «أدهم بك»، في ذلك الحين، أن يدعو الأهالي إلى اجتماع عام لهم، يقيمونه للتَّدارس فيما بينهم في مطالبهم الإصلاحيَّة؛ ويقدِّمون، من ثَمَّ، عريضة بهذه المطلب، عبر الولاية، إلى الصَّدر الأعظم. (المولى: العثمانية والعروبة).

عقد اجتماعٌ لأبناء بيروت، في مبنى البلديَّة فيها، يوم الخميس 12 كانون الأول 1912؛ كان هذا الاجتماع برئاسة صاحب جريدة «الحقيقة»، «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، وضمَّ ستَّاً وثمانين من أعيان المدينة، أربع وثمانون مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، إضافة إلى إثنين من اليهود (شبارو، جمعية المقاصد)؛ وكان من هذه الشَّخصيَّات، «سليم علي سلام» و«نخلة التّويني» و«كامل الصُّلح» و«بترو طراد» و«أحمد طبَّاره» و«رزق الله أَرْقَش» و«يوسف هاني» و«أحمد مختار بيهم» و«أيُّوب ثابت»، ومعظم هؤلاء المجتمعين كانوا من التجَّار والمحامين والصحافيين. وفي هذا الاجتماع كان انطلاق «اللجنة الإصلاحيَّة»؛ التي سيكون لناسها دوراً أساساً في الأحداث السِّياسيَّة، وهم من سيكون، عبر «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة»، رأس حربة في مواجهة سياسة «جمعيَّة الإتِّحاد والتَّرقِّي».

صدرت، عن هذا الاجتماع التَّأسيِّسي، الذي قاده «الأستاذ الرَّئيس» سنة 1912، لائحة بالمطالب؛ وكان من بنودها، اعتبار اللُّغة العربيّة لغة رسميَّة ضمن الولاية، واستخدام هذه اللُّغة في مجلسي «الأعيان» و«المبعوثان» في اسطنبول، فضلاً عن استشارة «اسطنبول»، للسُّلطة المحليَّة في أمور تعيين الموظَّفين المدنيين والقضاة والجندرمة، إضافة إلى تخفيض مدَّة الخدمة العسكريَّة الإلزامية إلى سنتين، وتمضية هذه المدَّة، في أيَّام السِّلم، في الولاية وليس خارجها؛ وتقسيم واردات الخزينة إلى ما يعود إلى خزينة الحكومة في اسطنبول، وما هو من حق ماليَّة الولاية (كوثراني: السلطة والمجتمع؛ حلاق: مذكَّرات).

من الملاحظِ، في هذه المرحلة، التي آلت فيها مقاليد الصدارة العظمى في اسطنبول إلى «حزب الحريَّة والإئتلاف»، أن عناية الدَّولة العثمانيَّة، بـ «الكليَّة العثمانيَّة»، كانت في أوجِ رائع لها؛ تمكَّن معه «الأستاذ الرَّئيس» من تأمين مساعدات ماديَّة مباشرة من الحكومة العثمانيَّة للكليَّة، مساعدة مالية سنوية بقيمة 1200 ليرة عثمانية ومساعدة مباشرة، من «أنور باشا»، بقيمة 500 ليرة عثمانيَّة؛ فضلاً عن الحصولِ على موافقة «وزارة المعارف» العثمانية، على معادلة الشَّهادات التي تمنحها الكليَّة بالشهادات الرَّسميَّة، وإعفاء أساتذة الكليَّة من الخدمة العسكريَّة (البيان السَّنوي: 1912). ولعلَّ في هذا ما يدعِّم القول بأن ثمَّة روابط متينة جمعت بين القيِّمين على وزارة المعارف، في الحكومة التي شكَّلها الصَّدر الأعظم محمَّد كامل باشا، والتَّوجهات التي كانت عند «الأستاذ الرَّئيس الأزهريِّ»، في تلك المرحلة؛ وهي التَّوجُّهات، بكل وضوح، التي تكشف عنها مقرَّرات «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة»، في اجتماعها التَّأسيسيِّ العام، برئاسة «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، والتي تدور في فلك ثلاثيَّة «العثمانيَّة واللامركزيَّة وحقوق الأقليَّات».

لم يمضِ وقت طويل على هذا التَّلاقي، بين حكومة «حزب الحريَّة والإئتلاف» و«جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة»، حتَّى تمكَّنت قيادة «جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي» (İttihad ve Terakki Cemiyeti)‏، يوم الخميس 23 كانون الثَّاني (يناير) سنة 1913، من القيام بإنقلابها السِّياسيِّ، المعروف بـ «انقلاب الباب العالي»، والإطاحة بالصَّدر الأعظم، كامل باشا، وتثبيط جميع المساعي الرَّسمية لتحقيق «اللامركزيَّة»

حصلَ الانقلابُ بأسلوب فيه كثير من الجرأة والمغامرة؛ وكان قطبه ضابط برتبة «مقدَّم أركان حرب»، عمره إحدى وثلاثون سنة، واسمه «أنور بك»؛ ومعه ضابط آخر، برتبة «عقيد ركن»، يبلغ من العمر إحدى وأربعين سنة، اسمه «جمال باشا». اقتحم الانقلابيون غرفة مجلس الوزراء، وكان «أنور بك» يحمل بيد مسدسه الحربيِّ وباليد الأخرى عريضة استقالة باسم الصدر الأعظم «محمَّد كامل باشا»؛ وما كان من الباشا، وقد بلغ الثمانين من العمر، إلا أن وقَّع عريضة الاستقالة. انطلق «أنور بك»، فور أن وقَّع الصَّدر الأعظم على الاستقالة، إلى مقرِّ السُّلطان في قصر «دولمه بقجه»، وما لبث أن غادرها وبيده أمر سلطانيٌّ نافذٌ يقضي بقبول استقالة «كامل باشا»، وتعيين «محمود شوكت باشا»، في منصب الصَّدر الأعظم، و«طلعت بك»، وكيلاً لوزارة الداخلية، إلى أن يتمُّ تشكيل وزارة جديدة. رجع «أنور بك»، ومعه «محمود شوكت» و«طلعت بك»، إلى «الباب العالي»، وأوعز إلى الجماهير التي كانت تحيط بمقرِّ الصَّدارة العُظمى الوزارة الجديدة، أن يتوجَّهوا إلى مقرِّ «حزب الحرية والائتلاف»، ويعملوا على سلب كل ما يجدوه فيه من وثائق وأثاث (أبو غدَّة: إنقلاب).

استبدل الانقلابيون السلطة الفعلية للسلطان، بحكومة الديكتاتوريَّة الثُّلاثيَّة المعروفة باسم «الباشاوات الثَّلاثة»؛ إذ أصبحت السُّلطة الفعليَّة بيد ثلاثيٍّ حكوميٍّ تألَّف مِن وزير الداخليَّة، «محمد طلعت باشا»، ووزير الحربيَّة، «إسماعيل أنور باشا»، ووزير البحريَّة، «أحمد جمال باشا»؛ فشُرِّعت أبواب الحُكم في الدَّولة العثمانيَّة لسيطرة قيادة جمعيَّة «الاتحاد والتَّرقي» بصورة شاملة وتامَّة.

قَدَرت حكومة الإتِّحاديين أنَّ الاجتماع الذي حصل في بيروت، برئاسة «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، والبيان الذي صدر عن المجتمعين باسم «حركة الإصلاح» أو «اللجنة الإصلاحيَّة»، ليس سوى خيانة للدَّولة العليَّة. قرَّرت الحكومة، مِن ثمَّ، عزل والي بيروت «أدهم بك»؛ معتبرةً أنَّه متعاطف مع «حركة الإصلاح»؛ وعيَّنت «أبو بكر حازم بك»، والياً مكانه (كوثراني: السلطة). وهكذا، صدر يوم الثُّلاثاء 8 نيسان (إبريل) 1913، قرار الوالي «حازم بك»، بحل «اللَّجنة الإصلاحيَّة»؛ وكانت ردَّة الفعل العلنيَة الأولى على هذا القرار، إعلان اضراب العام. صدرت صحف بيروت، يوم الأربعاء 9 نيسان (إبريل) 1913، بصفحات بيضاء فارغة، بيد أنَّ الصفحة الأولى منها كانت تحمل نصَّ قرار حلِّ «اللَّجنة الإصلاحيَّة»، وقد أحيط بإطار أسود، تشبُّهاً في إخراج إعلانات النَّعي. وهنا، أمر الوالي، بإلقاء القبض على كلِّ من يسعى إلى التَّحريض على الإضراب العام؛ وكان ألقت السُّلطات الأمنيَّة القبض على أعضاء من «اللجنة الإصلاحيَّة»، هم «زكريَّا طبَّاره» و«اسكندر عازار» و«رزق الله أرقش» و«سليم طيَّاره» و«مختار ناصر».

وهكذا بدأ، في هذه المرحلة، تحدٍّ آخر، يواجه «الأستاذ الرَّئيس الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، إذ صار في الستِّين من العُمر؛ وهو مَن اعتادَ عيش، منذ طفولته، وعاش على مقارعتها لجدارة. برز هذا التَّحدِّي، في التَّعامل الحكوميِّ الجديد مع «اللجنة الإصلاحيَّة» و«الكليَّة العثمانيَّة»؛ ناهيك مع كُتَّاب «جريدة الحقيقة»، الذين كانوا يدعون إلى الفكرة العربيَّة ويبشِّرون باللامركزيَّة؛ وعلى رأسهم بعض خرِّيجي «الكليَّة العثمانيَّة» وأساتذتها، من أمثال «أحمد طبَّاره» و«عبد الغني العريسي» و«عمر فاخوري» و«عمر حمد»، والمتماهين مع فكر «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة». 

المراجع:

1) Eliezer Taube, The Emergence of the Arab Movements, Bar-Ilan University, Routledge, London & New York, 1993.

2) البيان السَّنوي للكليَّة العثمانيَّة، عام 1912.

3) حسان حلاق، مذكرات سليم علي سلام (1868-1938) مع دراسة للعلاقات العثمانية العربية، دار النَّهضة، بيروت، 2013.

4) سعود المولى، العثمانية والعروبة والحرب الكونية الأولى 1850-1916: مجموعة مؤلفين مئة عام على الحرب العالمية الأولى – مقاربات عربية، المجلد الأول: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2016.‎

5) عصام شبارو، جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، (1295-1421 هـ./1878-2000م.) – دار مصباح الفكر، بيروت، 2001.

6) عُمر فرُّوخ، غُبار السِّنين، دار الأندلس، بيروت، 1985.

7) محمد زاهد أبو غدة، انقلاب جمعية الاتحاد والترقي وأثره على مستقبل الدولة العثمانية، الثلاثاء 19 صفر 1437 – 1 ديسمبر 2015، موقع رابطة العلماء السوريين:

https://islamsyria.com/site/show_articles/7511

8) مصطفى فرُّوخ، طريقي إلى الفن، مؤسسة نوفل، بيروت، 1986.

9) وجيه كوثراني، السلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي أواخر العهد العثماني: وسائط السلطة في بلاد الشام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الثانية، بيروت، 2017.

10) يوسف خازم، عبد الكريم الخليل: مشعل العرب الأول، 1884 – 1915، دار الفارابي، بيروت، 2017.

***

إزدهارُ الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة والنَّفي إلى اسطنبول

توزَّع البرنامج التدريسي، في «الكليَّة العثمانية»، منذ أن انطلق العمل في رحابها، سنة 1895، وحتَّى نهاية السَّنة المدرسيَّة لسنة 1910، على ثماني سنوات مدرسيَّة. تضمَّنت، هذه السَّنوات الثَّمان، مرحلتين؛ أولاهما «المرحلة التَّمهيديَّة»، وتستغرق أربع سنوات؛ يتلقَّى فيها التَّلميد، فضلاً عن العلوم الدِّينيَّة، مبادئ اللُّغات العربيَّة والفرنسيَّة؛ وثانيهما «المرحلة الاستعداديَّة»، وتمتدُّ الدِّراسة فيها إلى أربع سنوات أخرى، يُحصِّلُ فيها التِّلميذ ما جرى وصفه بـ «العلوم الرَّاقية». («الحقيقة»، العدد 284، 29 أيلول سنة 1910). ولقد وصلت النَّشاطات التَّعليميَّة والتَّربويَّة في «الكليَّة العثمانيَّة»، سنة 1910، بهمَّة الشَّيخ «الأزهري»، الذي كان، حينذاك، في السَّابعة والخمسين من العمر، أي بعد خمس عشرة سنة من انطلاقتها المُتَحدِّية، إلى أن أصبحت مؤسَّسةً تعليميَّة كبرى في مدينة بيروت، وصرحاً تربوياً وثقافِيَّاً وطنيَّاً، يسعى إلى خدمةٍ دؤوبٍ لمجتمعه وبيئته وناسه.

تمكَّنت الكليَّة، في هذه المحطَّة من تاريخها، من إنشاء «النَّادي الثَّقافي»، وجمعيتين أدبيتين، إحداهما تنطق بالعربيَّة والأخرى بالفرنسيَّة؛ فضلاً عن السَّعي التَّعليميِّ في مجالات تعويد الطلاَّب على وضع الأبحاث.

في الميادين العلميَّة والأدبيَّة، كما في تلك الثَّقافيَّة العامَّة؛ مع تدريبٍ لهؤلاء الطلاَّب على أصول «الخَطابة» و«مبادئ المُناظرة». ومن جهة أخرى، فإنَّ إدارة الكليَّة، كانت تُصْدِرُ مجلة المدرسة، كما أنشأت جمعيَّة للخرِّيجين. (الحقيقة: العدد 284، 29 أيلول، 1910).

كان، من ضمن الإنجازات التَّعليميَّة والتَّربويَّة، التي حقَّقها «الأستاذ الرَّئيس»، في هذه الحقبة، أن نالت الكليَّة الاعتراف الرَّسمي بشهاداتها، مِن قِبَلِ السُّلطات العثمانيَّة؛ مع الحقِّ بمعادلة هذه الشَّهادات بتلك الصَّادرة عن الحكومة العثمانيَّة (البيان السنوي، سنة 1912). ولم يقف الأمرُ عند هذا الحدِّ، على الإطلاق؛ إذ استطاع «الأستاذ الرَّئيس» إقامة صلات وديَّة مع بعض أهل الحُكم العُثماني في اسطنبول، ومن أبرزهم «أنور باشا»؛ وكان أنْ خُصَتِ» الكليَّة العثمانيَّة» بمساعدة بقيمة 500 ليرة عثمانيَّة، من الدَّولة؛ ثمَّ ارتفعت قيمة هذه المساعدة إلى 1200 ليرة عثمانيَّة؛ إلى جانب تمكَّن «الأستاذ الرَّئيس» من إعفاءٍ أساتذة الكليَّة مِن «الخدمة العسكريَّةِ».

يبدو أنَّ ما حقَّقته «الكليَّة العثمانيَّة» من إزدهار، ساهم، كذلك، في قيام صلاتٍ لإدارتِها مع «الحكومة الفرنسِيَّة»؛ الأمر الذي حدا بالدَّولة الفرنسيَّة إلى إصدار اعتراف فرنسا بشهادات الكليَّة في المعاهد الحكوميَّة الفرنسيَّة؛ فضلاً عن تخصيص 10 منح تعليميَّة لطلاب الكليَّة. 

شهدت بداية السَّنة المدرسيَّة لسنة 1911، تطويراً وتعميقاً جديدين في «الكليَّة العُثمانيَّة»؛إذ صار اسمها، في هذه المرحلة، «الكُلِيَّة العُثمانيَّة الإسلاميَّة»، كما جرى تعيين مجلس عمدة للمدرسة، مهمَّته مؤازرة رئيسها، «الأستاذ الرَّئيس الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، والنَّظر في رقيها ومجاراة روح العصر. ضمَّ مجلس العمدة هذا، مجموعة من أساتذة الكليَّة وخرِّيجيها، ومعهم بعضُ أعيان مدينةِ بيروت. ووفاقاً لما يذكر في محضر جلسة مجلس «عمدة المدرسة»، في يوم الأربعاء، الواقع فيه 11 جمادى الأولى، 1329 هـ./1- أيار 1911، فإنَّ «مجلس العمدة» هذا ضمَّ سبعة عشر عضواً، هم «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري» و«أحمد حسن طبَّاره»، و«أحمد مُختار بَيْهُم»، و«الدكتور بشير القَصَّار»، و«حَسَن القاضي»، و«حَسَن قُرُنْفُل»، و«رِياض الصُّلح»، و«طه المُدَوَّر»، و«عارف دِياب»، و«عُمر الدَّاعوق»، و«عبد الرّحمن بَيْهُم»، و«عبد الغَني العْرَيْسي»، و«محمَّد الفاخوري»، و«مصطفى الغَنْدور»، و«الشَّيخ مُراد العَريس»، و«توفيق الزهَّار»، و«مسيو فرديناند». 

شهدت سنة 1911، في «الكليَّة العُثمانيَّة الإسلاميَّة»، إنشاء قسم علمي، يمنح شهادة البكالوريا في الآداب والعلوم؛ فامتدَّت سنوات التَّدريس فيها، بعد أن كانت ثمانٍ، إلى عشر. توزَّعت، هذه السَّنوات، على ثلاث مراحل، «الابتدائيَّة»، وتستغرق سنتين دراسيتين؛ و«استعداديَّة»، وتشمل أربع سنوات دراسيَّة؛ وتليها المرحلة الثَّالثة، وهي على مدار أربع سنوات دراسيَّة؛ بما يقود إلى عشرة سنوات، قبل التخرُّج النِّهائي في «الكلية العثمانيَّة الإسلاميَّة». (البيان السَّنوي، سنة 1914، ص. 4). يضاف إلى كلِّ هذا، إنشاء فرع خاص لدراسة العلوم الدينية في اختصاصي التَّدريس الديني والفتيا وآخر لدراسة العلوم التِّجارِيَّة. ولعلَّ في إنشاء القسم المختص بتدريس العلوم الدِينيَّة في مجالي التَّدريس الدِّيني والفتيا، تحديداً، ما كان الدّاَفِع إلى تحويل اسم الكليَّة إلى «الكليَّة العثمانيَة الإسلاميَّة»، وتالياً، إصدار السُّلطة العُثمانيَّة قرار إعفاء تلامذة الكليَّة وأساتذتها العاملين فيها، من الخدمة العسكرِيَة»؛ (البيان السنوي، 1912/ ص. 3-7، ص. 16).

من جهة أخرى، جرى، في هذه السَّنة، 1911، نقل مقرِّ «الكليَّة» من منطقة «برج أبي حيدر»، وثمَّة من يقول أنه كان في الموقع الحالي لخزانات المياه في تلك المنطقة؛ إلى منطقة «رمل الزَّيدانية؛ واستحدث هناك، فيها فرع ليليٌّ داخليُّ؛ فضلاً عن إقامة إدارتِها لعلاقات ثقافيَّة وتربويَّة مع مِصر، «للاطلاع على مناهجها وأساليبها التَّربويَّة»؛ قد وبلغ عدد طلاَّب الكليَّةِ، آنذاك، أكثر من 300؛ وتجاوز عديد أفراد الهيئة التَّعليميَّة فيها 30 معلِّم، من «محليين وأجانب ومن مختلف الطَّوائف الدِّينيَّة». (البيان السنوي، سنة 1912).

يبدو أنَّ سنة 1912، وقد أدرك فيها «الأستاذ الرَّئيس الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، الستِّين من سنوات عمره، كانت سنة اكتمال بدر وجوده الشَّخصيِّ ووجود «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»؛ وكان لا بدَّ لهذا البدر، من أن يدخل في هذه المرحلة، رحلة التناقص والتضاؤل ليصير مُحاقاً. 

حصل أنَّ حكومة الإتِّحاديين، وكما جرت التوسُّع في هذا الأمر في الحلقة العاشرة، قدَّرت أنَّ الاجتماع الذي حصل في بيروت، برئاسة «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، والبيان الذي صدر عن المجتمعين باسم «حركة الإصلاح» أو «اللجنة الإصلاحيَّة»، ليس سوى خيانة للدَّولة العليَّة. قرَّرت الحكومة، مِن ثمَّ، عزل والي بيروت «أدهم بك»؛ معتبرةً أنَّه متعاطف مع «حركة الإصلاح»؛ وعيَّنت «أبو بكر حازم بك»، والياً مكانه. وهكذا، صدر يوم الثُّلاثاء 8 نيسان (إبريل) 1913، قرار الوالي «حازم بك»، بحل «اللَّجنة الإصلاحيَّة»؛ وكانت ردَّة الفعل العلنيَة الأولى على هذا القرار، إعلان اضراب العام؛ فكان أن أمر الوالي، «حازم بك»، بإلقاء القبض على كلِّ من يسعى إلى التَّحريض على الإضراب العام؛ وكان أن ألقت السُّلطات الأمنيَّة القبض على أعضاء من «اللجنة الإصلاحيَّة»، هم «زكريَّا طبَّاره» و«اسكندر عازار» و«رزق الله أرقش» و«سليم طيَّاره» و«مختار ناصر»؛ ولم يلبث أن صدر القرار بإقفال «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة» ونفي رئيس الكلية «الشَّيخ أحمَد عبَّاس الأزهري» إلى اسطنبول، وكذلك ملاحقة بعض أساتذتها وخريجيها؛ ولا ننسَ أن «جمال باشا» قد أصدر لاحقاً، أحكامه بإعدام قسم من هؤلاء الأساتذة والخريجين، على رأسهم «الشيخ أحمد طبَّاره»، و«عبد الغني العريسي» و«عمر حمد».

بقي الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، مدَّة في منفاه في اسطنبول، ثم كان له، وقد بلغ السابعة والستين من العُمْرِ، أن ينتصر على تحدي إقفال مؤسسته وعيشه في المنفى، أن يعيد افتتاح الكليَّة، سنة 1929، باسم «الكليَّة الإسلاميَّة».

أقيم سنة 1926، وقد بلغ «الأزهريُّ» الثَّالثة والسَّبعين من العُمر، احتفال وطنيٌّ ورسميٌّ كبيرٍ، في «دار الكُتُبِ الوطنِيَّةِ» في مدينة بيروت؛ لمناسبة مرور خمسين سنة على «اشتغاله بالتَّعليم»؛ كما يذكر الدكتور عمر فرُّوخ، في محاضرة ألقاها في «المركز الثَّقافي الإسلاميِّ» سنة 1982. وكان من ضمن فاعِلِيَّاتِ هذا الاحتفال، تعليق رسم زيتيٍّ لهُ، من وضعِ الفنان «مصطفى فَرُّوخ»، في القاعة الكبرى لتلك الدَّار، إلى جانب رسوم كبار من أهل الثقافة والعِلم والآداب. وما لبث أنْ انتقل الأستاذ الرَّئيس الشَّيخ أحمَد عبَّاس الأزهري»، يوم الأربعاء، الواقع فيه 9 شوال 1345 هـ. 15 كانون الأول 1926م.، إلى جوار ربِّه، في مدينة بيروت، عن خمس وسبعين سنة؛ وصُلِي على جثمانه في «الجامع العمري الكبير» وسار في جنازته أركان العِلم والتَّربية والثَّقافة، وكان دفن جثمانه في «مقبرة الباشورة» في بيروت.

مراجع الحلقة:

– كتاب المركز الثقافي الإسلامي، شخصيات وأعلام من لبنان، بيروت، 2008، محاضرة لعمر فروخ، ص. 152، سنة 1982.

– الكليَّة العثمانيَّة، البيانات السنوية 1912، 1914.

– «الحقيقة»، العدد 284، 29 أيلول سنة 1910.

________

* رئيس المركز الثقافي الإسلامي

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website