على “تقاطع بشارة الخوري”، تلك المنطقة التي سميت باسم أحد ثنائي الإستقلال، بعدما تمّ رفع تمثاله على أحد جوانبه.. طغى وجود “أبو وجيه” على رمز الإستقلال إلى حدٍّ أنّ الكثيرين كانوا يقصدون ذلك التقاطع لرؤية “أبو وجيه”، وليس لرؤية تمثال أول رئيس جمهورية بعد الإستقلال! من لم يعرفه قبل الحرب المشؤومة، يسأل: من يكون “أبو وجيه” هذا؟
إنه.. الشرطي “الظاهرة عبد الرحمن برو “أبو وجيه”، الآتي إلى دائرة السير بعدما كان حارساً بلدياً.. كان نقيض الصورة النمطية التقليدية لشرطي السير. كان أشبه برجل متحرك، مليء بالإشارات الإضافية، التي ولم يتقنها غيره، ولا وجود لها في قاموس شرطي السير، بل كانت من فائض إبداعاته، التي إبتكرها بالفطرة.
كان قامة باسقة، مفتولة العضلات، صدر عامر، يدان تتحركان دوماً، بما يفيض عن الحركات المطلوبة لتسيير السير وتنظيم عملية المرور، قبضته لا تكلّ ولا تتعب. وكان يدرك أنه يملك مؤهلات تتيح له أن يكون شرطياً يؤدي وظيفته بمهارات حركية، هي أقرب ما تكون إلى لوحة إستعراضية تعبيرية، مما أطفى على عمله طابعاً خاصاً، لا يستطيعه سواه.
ورغم ذلك، كان يتمتع بوهرة وهيبة كبيرتين، وصرامة صلبة في تأدية واجبه، رغم طيبته وإنسانيته ورفعة أخلاقه في تعاطيه مع السائقين، التي لم تكن حائلاً في تنقيذ قانون السير بجدية مطلقة دون هوادة أو مسايرة أو محاباة، فكان جميع سائقي السيارات يستهابونه، وخاصة سائقي السيارات العمومية.
لم يحمل يوماً الصافرة، ولا دفتر المحاضر، فقط إذا تلكأ أحد السائقين عن السير، أو ارتكب مخالفة، أو لم يمتثل لإشاراته، كان يعاقبه بقبضته الفولاذية بضربة على هيكل السيارة، فيحدث فيها فجوة، وتكون الخسارة أكبر من قيمة المحضر، الذي كانت قيمته حينذاك خمس ليرات. فيكون هذا المشهد درساً لجميع السائقين، ولكل من يشاهدون عقابه.
يذكر أن “أبا وجيه” كان أمياً لا يجيد القراءة ولا الكتابة، حتى يروى أن ضابطه أمره في إحدى المرات بإحضار رقم سيارة مخالفة، فذهب وإنتزع اللوحة منها، وأحضرها للضابط، لأنه لم يكن بمقدوره تسجيل الرقم! ورغم تشدده في تأدية واجبه الوظيفي، كان يتمتع بحس إنساني، حيث كان مشهوداً له، أنه يحمل العُجَّز لينقلهم من رصيف إلى رصيف، كما كان يحترم النساء، فيوقف السير، ليتسنّى لهنّ قطع الطريق من جهة إلى الجهة المقابلة…
وبالعودة إلى نقطة عمله، أي “تقاطع بشارة الخوري”، الذي كان يُعتبر في أيامه التقاطع الأبرز، فهو يربط منطقتي “السوديكو”-“رأس النبع” و”البسطة”، والأهم أنه يؤدي للوصول إلى وسط بيروت التجاري وقلبها النابض بالحياة والحيوية. لذلك، فإن عملية تنظيم السير على ذلك التقاطع، تتطلّب جهوداً مضنية وجبارة، لتأمين إنسيابيتها، ومنع حدوث الإزدحام الخانق. فكان “أبو وجيه” على قدر تلك المسؤولية، ينظم بمفرده حركة المرور بالإتجاهات المتعددة صعوداً ونزولاً، شرقاً وغرباً، التي ربما تعجز عنها فصيلة بأكملها، وإن كانت مدعومة بالإشارات الكهربائية الضوئية، التي كان يطفئها، ليمشي السير ذاتياً على “البكلة” كالساعة التي لا تخطئ!!! في حال إضطر للغياب عن نقطته لسبب طارئ، كانت تعمّ الفوضى ويشتد الإزدحام، فيدرك العابرون المتذمرون أن أمراً ما قد حدث، وكأن الأمر يتجاوز غياب شرطي ينظم السير بكثير من النجاح، إعتادوا الأنصياع لحركات يديه بالتوقّف أو الإنطلاق.
تَعَلّقَ “أبو وجيه” بتقاطع “بشارة الخوري” حتى الشغف، فإن تغيرت المناوبات ونُقل إلى نقطة أخرى، بعد قليل يكون في موقعه المعتاد، حيث يترك الموقع الذي نقل إليه، ويطلب ممن هو في الموقع أن يلتحق بالمكان الذي نقل إليه عن غير رضاه، ومع ذلك لم يتعرّض لأيِّ عقوبة!
“أبو وجيه” لم يُقتصر الإعجاب به لدرجة الذهول على الصعيد اللبناني، بل إن شهرته تعدت حدود الوطن، حيث أرسلت شرطة السير الإيطالية مرة فرقة لتشاهد “أبو وجيه” أثناء عمله، لتتعلم منه كيف يسيطر لوحده على أكبر تقاطع طريق في تلك الأيام. كذلك إنتدبته وزارة الداخلية اللبنانية-إدارة السير، ليسافر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في بداية إستقلالها، ليدرب عناصر شرطة السير على كيفية تسيير المركبات على التقاطعات. يذكر أيضاً في هذا السياق، أنه في سنة 1976 كتبت عنه مجلة paris match الفرنسية، ووصفته بالرجل الأعجوبة.
بقي “أبو وجيه” يسحر العاصمة، وفياً لوظيفته، وللتقاطع الذي أفنى عمره المهني في تنظيم السير فيه بجدارة وكفاءة عاليتين قلّ نظيرهما، وبأسلوبه الذي كان يستحق أن يكون مادة تعليمية في معهد إعداد شرطة السير، حتى إندلعت الحرب، وقطعت السير بكلّ إتجاهات التقاطع، فتقاعد “أبو وجيه”، ليعمل بعد ذلك حارساً لأحد المصارف في محلة المزرعة بالقرب من كنيسة “مار مخايل”، حتى أصيب بسرطان الرئة فانقطع عن الحياة.
كم نتحسّر في زماننا على “أبو وجيه”، ليس فقط بسبب حركاته المنضبطة، بل بإنضباطه ومناقبيته الوظيفية، خصوصاً في ضوء ما وصلنا إليه من فوضى عارمة في حركة المرور، وقلة أخلاق السائقين، فضلاً عن تراخي عناصر شرطة السير وتقاعسهم في تأدية واجبهم، حيث نجد أعداداً كبيرة منهم إما يدخنون أو يلهون بهاتفهم الخلوي أو يتسايرون مع أصدقاء لهم، في حين تكون الطرقات المخنوقة بأعداد السيارة في حالة إزدحام وفوضى لا مثيل لها!
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت.