لعل أقدم نص وصل إلينا من مذكرات الرحالة الأجانب القدماء عن بيروت هو ما كتبه شاعر ملاحم مصر العليا في العهد الملكي الروماني، الشاعر اليوناني ننوس Nonnus (أواخر القرن الرابع قبل الميلاد) في ملحمته الشهيرة ديونيسياكا Dionysiaca في النشيد رقم 40 الأبيات 340 وهي:
“… في هذا المكان ينفخ راعي البقر شبابته على شاطىء البحر المرمل، فيجتمع النوتي كما يجتمع راعي الماعز، والصياد إذ يجر شبكته من بين المياه يخط الممرات ثلمه فيصل به إلى ملقى المجاذيف التي تشق الأمواج. وفي وسط غابة قرب البحر، يجتمع الملاحون فيتحادثون مع الحطابين بينما يتراجع هدير المياه مع خوار البقر وحفيف أوراق الشجر. إنه مشهد الجبل والأشجار والملاحة والغابة…”
بيروت في أيام مولد يسوع المسيح
في الفترة بين الأعوام 510 إلى 515 قبل الميلاد، قام الملاح والكاتب اليوناني سيلاكس Sylax بعدة رحلات إلى الشاطىء الفينيقي وصولا إلى المحيط الهندي لأغراض استكشافية بناء لأمر الملك داريوس Darius Hystapis. ولكن بيروت لم تسترع انتباهه كثيراً فدون في مذكراته يصف بيروت: “إن بيروت مدينة ومرفأ”، كلمتين لم يزد عليهما حرفاً!
اما الخطيب اليوناني الشهير ليبانوس الأنطاكي Libanos of Antioch المعاصر للوقت الذي ولد فيه يسوع المسيح، فقد زار بيروت وكتب في مذكراته اجمل وأروع ما يمكن أن توصف به مدينة. قال: “بيوت مدينة فينيقيا الفائقة الجمال والفائقة الأناقة، والكلية الكمال.”
وتشير المصادر التاريخية أنه في اليوم الذي ولد فيه المسيح كان الامبراطور الروماني أوغسطس قيصر يرمم مرفأ بيروت ويبني له سدين على هيئة هلال على طرف كل واحد برج وربطهما بسلسلة حديدية للحماية.
إعادة إعمار بيروت بعد مصرع كليوباترا
بعد هزيمة مارك أنطوني على يد أوكتافيان (الامبراطور أوغسطس) في معركة أكتيوم Actium سنة 31 قبل الميلاد، خضعت المقاطعات الشرقية ومدنها، ومنها بيروت، إلى القيصر الجديد بعد أن كان أنطوني قد أهدى الساحل الشرقي وصولاً للبقاع إلى عشيقته كليوباترا بعد معركة فيليبي الشهيرة سنة 42 قبل الميلاد.
وحوالي سنة 15 قبل الميلاد عين أوغسطس صهره السياسي المحنك والمهندس الرحالة أغريبا Marcus Agrippa نائبا في بيروت، فكتب في مذكراته:
“… وبعد جبيل يصل المرء إلى نهر أدونيس وجبل كليماكس Mt. Climax فإلى Palaebyblus (رأس شكّا) ومنها إلى نهر الكلب وصولاً لبيروت. ومع أن بيروت كانت قد سويت بالأرض من قبل [ملك سوريا اليونانية] تريفون Tryphon [حوالي سنة 136 قبل الميلاد]، ولكن إعادة إعمارها باشرت به روما وأرسلت فرقتين إلى المدينة التي ضم إليها معظم أراضي ماسياس Massyas وصولاً إلى منابع نهر أورونتيس Orontes River [نهر العاصي].
يوسيفوس وإنجازات أغريبا في بيروت
هو فلافيوس يوسيفوس Flavius Josephus، رحالة ومؤرخ شهير، ومؤلف موسوعة الأثريات اليهودية Antiquities of the Jews في السنة الثالثة عشرة من عهد الامبراطور الروماني فلافيوس دوميتيان Flavius Domitian حوالي سنة 93 بعد الميلاد. كتب يصف إنجازات حاكم بيروت الروماني أغريبا في مدينة بيروت:
“لقد أنشا مبان كثيرة في عدة مناطق ولكنه آثر بيروت وأهلها بعطائه. فقد بنى لهم مسرحاً يفوق بجماله وقيمته المسارح الأخرى في المقاطعات، وبنى لهم مدرجاً amphitheater باهظ التكاليف بالإضافة للحمامات والأروقة المعمدة [لا تزال آثارها باقية إلى اليوم إلى يمين الداخل لأسواق بيروت من جهتها الجنوبية]، ولم تمنعه الكلفة الباهظة من إخراج هذه الأبنية بأبهى حلة.
ولكي يبرهن عن حبه الشديد لبيروت وأهلها استقدم للمسارح أمهر عازفي الفرق الموسيقية وكل ما يمكن أن يصبغ المدينة ببيئة راقية. أما في المدرج فقد كان كرمه عظيماً من خلال عدد المصارعين المشارك [وذكرت بعض المصار أن هؤلاء كانوا حوالي 1400 مصارع أشداء.
تابع المؤرخ والرحالة فلافيوس يوسيفوس Flavius Josephus في مذكراته، يصف بيروت في عهد ماركوس يوليوس أغريبا الثاني Herod Agrippa II الذي حكم من سنة 53-93 بعد الميلاد:
” … وقد أنفق أموالاً طائلة لإقامة مسرح لأهالي بيروت واستقدم له عروضات سنوية كلفت عشرا الألوف من الدراخما. وبالإضافة إلى ذلك فقد اعتاد أن يوزع القمح وزيت الزيتون على الأهالي، كما زين المدينة بإقامة التماثيل وأعمال النحت القديمة ونقل إليها أنفس واجمل التحف في المملكة، مما زاد النقمة عليه من داخل بطانته لأن جردهم من مقتنياتهم النفيسة ليزين بها مدينته الحبيبة بيروت.”
يذكر أن ماركوس يوليوس أغريبا الثاني ابن هيرود أغريبا، وشقيق الملكة بيرينيس Berenice التي اعتنقت اليهودية. وكان آخر حاكم روماني من سلالة هيروديان Herodian dynasty، وصديق حميم للمؤرخ اليهودي يوسيفوس.
بيروت المدينة الأكثر تحضراً في القرن الرابع الميلادي
استمرت نهضة بيروت العمرانية والثقافية تتعاظم خلال القرون الأربعة الأولى بعد الميلاد، وخاصة في عهود سبتيموس سفيروس (193-211) وزوجته جوليا دومنا وابنه كركلا (198-217). وفي القرن الرابع أصبحت بيروت مدينة رومانية مثالية فيما كان يسمى آنذاك بـ “الشرق اليوناني”، مع الاحتفاظ بالاسم القديم للمنطقة: فينيقيا.
كتب المؤرخ والرحالة اليوناني ليبانيوس Libanius (توفي 394) في النصف الثاني من القرن الرابع في تأريخه للمنطقة:
“… وكانت المنطقة الأكثر تحضراً بين الكل، كانت تحت حكم القوانين، والحكام المعينين، وإمبراطور جعل حياته كلها حاملاً السلاح لينهي به كل العنف [يقصد الامبراطور قسطنطين الثاني Constantius II الذي تولى الحكم من سنة 337 إلى سنة 361].
بيروت “حاضرة” مدن فينيقيا في منتصف القرن الخامس الميلادي
حوالي سنة 448م، حازت بيروت بشرف لقب المدينة “الحاضرة” metropolis، بواسطة إعلان إمبراطوري rescrīptum من قبل ثيودوسيوس الثاني Theodosius II (حكم 408-450)، وفالنتينيان الثالث Valentinian III (425-455)، مع الإبقاء على مدينة صور كعاصمة للمقاطعة الفينيقية الساحلية الممتدة من أرواد شمالاً إلى صور جنوباً.
ورد ذكر هذه المنقبة التاريخية لبيروت في مجموعة الدستور الثيودوسي Codex Theodosianus كما يلي:
“… ولعدة أسباب محقة نعلن أن بيروت، المزينة أصلاً بفضائلها، تتوج بإسم ومرتبة الحاضرة. ولذلك فلتنعم أيضاً بالكرامة “الحاضرية”. ولا يجب أن ينزع شيء من صور فيما يخص حقوقها. لتكن الأخيرة (صور) هي أم الولاية التي تكرم بها أجدادنا، ولتكن السابقة (بيروت) هي أم الولاية من قبلنا، ولتتمتع كلاهما بالامتيازات المتشابهة”.
يتبع الجزء الثاني…