بيروت في مدوّنات الرّحالة القدماء (5/2)

شرقي المتوسط لأبراهام أورتيليوس 1595
سهيل منيمنة*

مدينة الكنوز المعمارية

في منتصف القرن السادس، وصف المؤرخ والشاعر والرحالة اليوناني الشهير أغاثياس Agathias Scholasticus (توفي حوالي 582م) مدينة بيروت بأنها مدينة مزينة بكنوز معمارية اشتهرت في كل الأرض. كانت تحتضن مسرحاً كبيراً وميدان للسباق وحمامات وقناة للمياه، بالإضافة إلى قاعة محاضرات لطلبة القانون، وأبنية كثيرة لخدمة مرفأها العامر.

كتب أغاثياس ما نصه: “… بيروت، مدينة ساحرة بكل المقاييس، تحتضن قاعات محاضرات وتدريس القوانين والشرائع التي، فيما يبدو، تعتمد عليها كل صروح القضاء الرومانية، لأن علماء القانون من هذه المدينة يترأسون محاكم العالم المتحضر كله، ويهتمون بالمقاطعات التي يرسلون إليها القوانين الرسمية.”

بداية تاريخ أغاثياس في الترجمة اللاتينية لكريستوفورو بيرسونا

زلزال بيروت المدمر سنة 551م (تأريخ مالالاس Malalas)

لم تنعم بيروت طويلاً بلقب حاضرة مدن فينيقيا، ففي السابع من شهر أيلول (سبتمبر) سنة 551م (وفي مصادر أخرى التاسع من تموز/ يوليو) وقع زلزال شديد قُبالة سواحل المدينة، مما أدّى إلى مقتل نحو 30.000 شخص في بيروت وحدها.

كتب المؤرخ والرحالة يوحنا مالالاس الأنطاكي (490-570) في هذه الواقعة:

“… وفي الإحداث الرابع عشر، ضرب زلزال عنيف مجمل أراضي فلسطين، والعربية، وفي بلاد ما بين النهرين وأنطاكيا وفينيقيا البحرية واللبنانية. وفي وسط هذا الرعب كانت أكثر من عانى هي مدن صور وصيدا وبيروت وطرابلس وبيبلوس (جبيل) وبطرايس (البترون) وأجزاء أخرى من المدن. وفي مدينة البترون انفلق جبل ليثوبروسوبون Lithoprosopon (رأس شكا) القريب منها ووقع في البحر وشكل مرفأ طبيعي صارت السفن فيما بعد تأوي إليه، علماً أنه لم يكن لهذه المدينة ميناء من قبل. وقد أرسل الامبراطور مساعدات مالية لكل المقاطعات وأعاد إعمار بعض هذه المدن.”

وفي وصفه للكارثة أضاف المؤرخ:

“وفي الوقت الذي حدث فيه الزلزال، تراجع البحر قرابة الميل عن الشاطىء وتحطمت عدة سفن، ولكن بأمر الرب عاد البحر إلى مكانه الأصلي (إشارة إلى التسونامي الرهيب الذي ضرب الساحل).”

مركز زلزال 551م

زلزال بيروت المدمر سنة 551م (تأريخ أغاثياس Agathias )

بما أنه ولد سنة 531م فيكون قد كتب هذا الوصف قبل أن يبلغ العشرين من عمره وهو تاريخ زلزال بيروت المدمر سنة 551م. قال أغاثياس:

“… وفي نفس تلك الفترة من فصل الصيف [وهو ما يرجح فرضية وقوع الزلزال يوم 9 تموز/ يوليو) حصل زلزال عنيف في القسطنطينية وأرجاء متعددة من الامبراطورية، نتج عنه أن سويت أراض كثيرة في الجزر أو على الساحل إلى الأرض، واندثر سكانها. أما “درة فينيقيا” مدينة بيروت الجميلة فقد أصابها الخراب بالكامل، وأصبحت كنوزها المعمارية الشهيرة في أرجاء العالم أكوام من الحجارة ولم يبق منها شيىء إلا بعض بلاط الطرقات والأرصفة.”

واضاف: ” وقد تم سحق العديد من سكانها الأصليين تحت ثقل الأنقاض، وكذلك زوارها من صفوة التلاميذ الذين قصدوها ليتعلموا الحقوق والشرائع. ففي هذه المدينة كان التقليد المتبع لوقت طويل هو الدراسات القانونية، ومدارسها صبغت المدينة بطابع مميز خاص. أما الناجون من الأساتذة فقد انتقلوا مع مدارسهم إلى مدينة صيدا المجاورة لحين إعادة بناء بيروت. وبعد إعادة الأعمار لم تكن المدينة كما عهدناها سابقاً، ولكن بعض معالمها صمدت ولم تتغير كثيراً. ولكن بناء المدينة وما تلاه من عودة المدارس إليها إستغرق وقتاً طويلاً.”

الآثار الرومانية والأنقاض في وسط بيروت التجاري

زلزال بيروت المدمر سنة 551م (تأريخ يوحنا الأفسوسي John of Ephesus)

ولد يوحنا الأفسوسي John of Ephesus سنة 507م في مدينة أميدا (ديار بكر)، وكان رحالة طاف أرجاء بلاد الشام بحثاً عن مصادر لحياة القديسين وزار القسطنطينية حيث قربه الامبراطور جوستنيان الأول، وكان من أهم من كتب التاريخ باللغة السريانية. كتب عن كارثة بيروت بعد أن ضربها زلزال سنة 551 المدمّر [ترجمة د. سهيل منيمنة بتصرف]:

“…وتراجع البحر عن ساحل فينيقيا لمسافة ميلين… وعندما تراجع بمشيئة الله صار قعر البحر المروع ظاهراً للعيان وعليه السفن هامدة بأحمالها. ونتيجة لذلك كنت ترى الأتقياء الذين أصابهم الذهول والهلع يرجون العفو والمغفرة لما رأوه من الغضب عليهم نتيجة تصلب قلوب الرجال التي صارت أقسى من قلب فرعون والتي سلموها للشيطان. هؤلاء الرجال من سكان مدن وقرى الساحل هم الذين هرعوا مباشرة إلى البحر يقودهم الجشع ليسرقوا الكنوز التي بدت لهم في قعره في مشهد عارم من الفوضى والالتباس وغريزة الاستيلاء… ولكن الجميع تفاجأ بالبحر يعلو من فوقه في موجة شاهقة العلو جرفت معها كل تلك الأرواح التعيسة كقطع من الحجارة الصماء ليعود البحر إلى مكانه الأصلي الوفير، تماماً كما حصل مع فرعون كما قرأنا. أما الذين كانوا ينتظرونهم على البر لاستلام الغنائم، فقد حل عليهم غضب كبير من خلال زلزال مدمر هدم البيوت على رؤوسهم، ومن نجا منهم لجأ إلى الغابة القريبة التي ما لبثت بدورها أن احترقت، ومات الناس بين ماء ونار…”

زلزال بيروت المدمر سنة 551م (تأريخ أنطونيوس البياتشنزي Antoninus of Piacenzaof Ephesus)

في سنة 570م، زار الرحالة الإيطالي أنطونيوس البياتشنزي بيروت، في طريقه كحاج للأراضي المقدسة، وكتب يومياته في كراسات أسماها “الحاج البياتشنزي” نسبة لمدينته التي تقع في الشمال الإيطالي. ويرى بعض المؤرخين المعاصرين أنه رجل غير معروف زار الأماكن المقدسة انطلاقاً من مدينة بياتشينزا، وينكرون أن يكون اسمه أنطونيوس، وينبهون إلى عدم الخلط بينه وبين القديس أنطونيوس البياتشنزي المتوفى سنة 303م.

كتب الحاج البياتشنزي:

“… وانطلقنا من مدينة طرابلس التي دمرها الزلزال في عهد الأمبراطور جوستنيان إلى مدينة بيبلوس (جبيل) التي لاقت نفس المصير، ومنها إلى المدينة الأكثر عظمة بينها جميعاً: بيروت. هذه المدينة التي كانت مدرسة للشرائع إلى عهد قريب. وقد قال لي أسقف المدينة أنها تضررت بشكل كبير بفعل الزلزال، ومات من جراءه ثلاثون ألف معروفون كلهم بالإسم، عدا من كان بها الزوار…”

وبذلك يكون الحاج البياتشنزي، هو آخر من رأى بيروت من المؤرخين الأجانب في تلك الحقبة من الزمن قبل دخول الجيوش العربية الإسلامية للمنطقة بقيادة يزيد بن أبي سفيان حوالي سنة 633م.

أطلال الحمامات الرومانية في وسط بيروت التجاري

يتبع الجزء الثالث…

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website