بيروت في مدوّنات الرّحالة القدماء (5/3)

Buyenlarge / Getty Images
سهيل منيمنة*

بيروت محبوبة إله البحر بوسايدون!

بعد الحديث عن زلزال بيروت المدمر الذي أنهى مرحلة من تاريخ هذه المدينة ومهد الطريق لمرحلة مختلفة تماماً، نعود إلى الوراء في الزمن لقراءة ما كتبه بعض الرحالة والمؤرخين القدماء عن المعتقدات الدينية التي سادت المجتمع البيروتي وما حوله في ذلك الوقت.

كتب المؤرخ والرحالة والشاعر اليوناني ننوس Nonnus (أواخر القرن الرابع قبل الميلاد) في ملحمته الشهيرة ديونيسوس Dionysiaca عن إخلاص أهالي بيروت لمعتقداتهم الدينية من خلال احترامهم للآلهة وخاصة بوسايدون Poseidon في النشيد رقم 41 ما يلي:

” وهناك مدينة بيروت، وهي جزء السفينة الرئيسي الذي تقوم عليه الحياة البشرية، وميناء المحبة الذي يتداخل في البحر… الجزء الآخر من البحار التي تمتلها المدينة، حيث تقدم صدرها لإله البحر بوسايدون.”

بيوت الصيادين على شاطىء بيروت: زيتية للروسي فاسيلي بولينوف (صورة بوسايدون مركبة)

قوس بيروت!

بعد زلزال بيروت المدمر سنة 551م ودخول الجيوش العربية إليها حوال سنة 633م، مر على بيروت مئات السنين لم يزورها خلالها سائح أجنبي نظراً لطيبعة الظروف السياسية والعسكرية التي عاشتها المنطقة في تلك الحقبة التاريخية.

وفي سنة 1035م، سافر رحالة اسمه ناصر خسرو القبادياني من بلدته “مرو” (هي مدينة “ماري” Mary كما تسمى اليوم في أوزبكستان) قاصداً بلاد الشام والجزيرة العربية في رحلة استمرت سبع سنين، دون فيها مشاهداته في كتاب أسماه سفرنامة (الرحلة)، وزينه بلوحات رسمها بنفسه.

الطريق التي سلكها ناصر خسرو في رحلته منطلقاً من مدينة بلخ في بلاد فارس لحين عودته إلى مدينته مرو. Institute of Ismaili Studies.

كتب خسرو الفارسي عن بيروت:

“… وسرنا من جبيل إلى بيروت. ورأيت فيها قوساً من حجر والطريق تحته، وقدّرت أن علوه 50 كزّا (مقياس فارسي لقياس الطول، ويمتد من الكوع إلى طرف إصبع الوسطى، اي 45 سم تقريباً) وسمكه بحيث لا يستطيع رجلان أن يحيطا به إلا بصعوبة. وقد بني على هذه الدعائم حنايا من الصخر الضخم لا تلتئم أجزاؤها بملاط ولا بجبس…”

باب الدركة في بيروت من داخل السور سنة 1830 بريشة الفنان التشكيلي اللبناني نبيل سعد، عضو جمعية تراث بيروت

وقد قدّر المؤرخ الشيخ طه الولي (1921-1996) أن يكون القوس الذي ذكره الرحالة خسرو هو باب الدركة الذي كان يقوم على الطرف الجنوبي لسور بيروت الشهير قرب الأعمدة التي نراها اليوم تجاه مبنى اللعازارية وكانت تعرف عند البيارتة باسم “درج خان البيض”.

ناصر خسرو يصف قوس بيروت

تابع الرحالة هذا الوصف في “السفرنامة” قائلاً:

“… وقد قام القوس الأعظم في الوسط، ويزيد علوه على الحنايا خمسين أرشاً (الأرش: مقياس فارسي)، وقدرت أن علو كل حجر من الحجارة التي يتألف منها سبعة أرشات في عرض أربعة، ووزنه نحو سبعة آلاف مَن (المن: مقياس وزن فارسي) وقد نقشت جميع هذه الأحجار وزينت بنقوش بديعة قلما يشاهد مثيل لها حتى في الصور على الخشب…”

حديقة فرعون في بيروت!

تابع الرحالة خسرو الفارسي مذكراته عن مشاهداته في بيروت حوالي سنة 1036م، وفي وصفه للقوس كما ذكرنا في الحلقة السابقة، فقال:

“… ولم يبق في جواره شيء. وقد سألت عن ذلك فقيل لي أن هذا البناء كان بناء حديقة فرعون، وأن تاريخه قديم للغاية. وجميع السهل المجاور له تغشاه عمد وسوار وتيجان منقوشة من الرخام. ومنه المدور والمربع والمسدس والمثمن. والحجر من الصلابة بحيث لا يعمل فيه الحديد. وليس في الجوار جبل حتى يقال أن هذا الحجر استخرج منه.”

(ونحن في صفحة “تراث بيروت” لا بد أن نتوقف عند “حديقة فرعون” هذه. فقد تفرد الرحالة خسرو بذكرها، ولم نجد لها أصلاً في أي من المراجع والمصادر التي تحدثت عن تاريخ بيروت. ونرجح إحتمالان:

1. أن يكون المقصود هو الفرعون تحتمس الثالث الذي خضعت لجيوشه مناطق شرق المتوسط، وربما أقيمت في بيروت حديقة احتفالاً بانتصاراته، وهي عادة لا تزال متأصلة بأهل المدينة إلى يومنا هذا!

2. أن الرحالة لم يكن يعني بالقوس باب الدركة كما رجح المؤرخ طه الولي في مصنفاته، إنما معلم آخر، ربما كان باب السرايا قبل أن يعرف بهذا الاسم، والذي كان يقع بجوار ساحة البرج في طرفها الشمالي – الغربي، وأن “حديقة فرعون” ليست سوى ساحة البرج نفسها بدليل أن الأمير فخر الدين المعني الثاني جعلها حديقة غناء وبنى قصراً له فيها فيما بعد. وإعادة تأهيل حديقة كبيرة جداً أسهل وأوفر من إقامة حديقة جديدة.

قصر بيروت

في سنة 1212م، زار الأسقف الهولندي Wilbrand of Oldenburg مدينة بيروت، وتوقف مذهولاً عند قصر بني في عهد حاكم بيروت الصليبي Foulqus de Guines (وهو نفس المكان الذي بنى فيه الأمير فخر الدين المعني الثاني في نهاية القرن السادس عشر قصره الذي كان يقع شرقي ساحة الشهداء المعروفة في وسط بيروت، والتي كانت تعرف قديماً بـ “بستان فخر الدين”، وهو أول لقب أطلق على هذه الساحة. كان بستان فخر الدين وقصره في ذلك الوقت من أجمل وأبدع ما يمكن وصفه، فقد كان البستان مشحوناً بالأشجار والزهور وأقفاص الطيور والوحوش من كل الأنواع، وكان القصر تحفة معمارية من أجمل ما صممه وأنشأه المهندسون الإيطاليون الذين اصطحبهم معه الأمير حين عودته من التوسكانة.)

أولدنبرج أسقف أولتريخت Utrecht

كتب أولدنبرج في مذكراته يصف قصر بيروت الصليبي وموقعه:

“… وكانت هذه الاستحكامات قد استوجبت أشغالاً طويلة، لا سيما وأن نقوشها الداخلية بلغت النهاية في الحسن والإتقان… إنها كانت مرصوفة بالفسيفساء التي تمثل مياهاً تتموج مع نسيم الريح، فيتعجب الماشي كيف لا تغوص رجله في الرمال التي في قعر المياه.” (وهو ما يذكرنا بقصة بلقيس ملكة سبأ اليمنية مع نبي الله سليمان عليه السلام)…

” وكانت جدران الغرف مزدانة بقطع الرخام المنقوش على هيئة تأخذ بالأبصار، وقد دهنت قبتها بالصباغ الأزرق على هيئة السماء. وفي وسط الغرفة بركة من الرخام الملون المصقول، ينفذ إلى داخلها نسيم عليل من نوافذها المتعددة فيرطب حرارتها.”

________

*مؤسس/ رئيس جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website