بيروت الحضارة والعراقة، قد يقول قائل: “إنها لا تحتاج إلى منارة” (!) فهي، “منارة الشرق”، ساطعة، مشرقة، مضيئة، ومتلألئة… لكن أهمية موقع بيروت، جعل من مرفئها عبر التاريخ، المرفأ الأساسي على ساحل الشرق المتوسط، فكان لا بدّ من إنشاء منارة لإرشاد السفن، كي يتمكن من تأدية وظيفته المرفئية، وفقاً لأنظمة وقوانين الملاحة البحرية التي كانت قائمة.
لذلك، طلبت السلطات العثمانية في العام 1862، أيام داوود باشا، أول متصرف عيّن في لبنان إبان الحكم العثماني، من مهندسين فرنسيين بناء منارة بحرية على الطرف الشمالي الغربي لمدينة بيروت، في منطقة كانت تعرف ب “الراس” أو “راس المدينة”، قبل أن يطلق عليها “رأس بيروت”، وذلك على أرض “آل عرداتي”، (حتى الآن يحمل الشارع إسم العائلة). يومها، كانت الأرض تباع “بالشملة”، و”الشملة” طولها 10 أذرع وعرضها 30 سنتم، (أي نحو 7 أمتار)، وكان ثمن “شملة” الأرض عشرة قروش ذهباً.
يذكر أن تلك المحلة نتأت فيها الصخور الرملية المسننة، وخلت وقتها من كل بناء، إلا من أنقاض برج يرجّح أنه بني في الحروب الصليبية، وكانت النار تشتعل في قمته لإعلام دمشق بأن خطراً دهم ثغرها. أما الدروب إلى تلك البرية النائية فأودية بين تلال الرمول، لا يجرؤ الإنسان على السير عليها منفرداً!!!
وقد فرغ المهندسون الفرنسيون من بناء المنارة في العام الذي تلاه، بعدما بنوها من الحجر الرملي، على سفح مليء بالصبار، تحيط بها بيوت قليلة، منها منزل آل عرداتي (البيت الزهري)، ومنزل آل لبابيدي، ومنزل آل داعوق، ومنزل آل عيتاني الملاصق لها. كما كانت تشرف من على 38 متراً على “ميناء شوران”، الذي أصبح لاحقاً “الحمام العسكري”، وعلى ملعب “النهضة” الذي كان مرجاً فسيحاً للزراعة.
في العام 1863 باشرت المنارة عملها في هداية السفن المبحرة ليلاً إلى بيروت. وعند البدء بتشغيل المنارة تسلم أنطوان رامح شبلي إدارتها، ومنذ ذلك الحين وآل شبلي توارثوا المنارة جيلاً بعد جيل، حتى لُقّبوا “بآل المنارة”! وأنطوان شبلي كان سمكرياً ماهراً من بكفيا، حيث أن شهرته جعلت الجهة البانية يكلفونه بتشغيلها وصيانتها.
كان نورها ينبعث من قنديل يعمل على الكاز، له شاشة أشبه بشاشة “اللوكس”، وله قوة “البروجكتور”!
ومنذ ذلك التاريخ تحوّلت بيروت إلى مرفأ رئيسي على سواحل الشرق، وباتت المدينة بفضل السفن البخارية المتجهة إليها، مدينة سيّاحٍ يقصدونها طلباً لربيعٍ دائم في سفوح لبنان، وذلك على غرار الذين كانوا يؤمون جنوب فرنسا.
كما شهدت بيروت في تلك الحقبة تطوراً اقتصادياً بارزاً، لا سيما بعد الاهتمام بمرفأ بيروت الذي كان ملتقى لمختلف التجار من مختلف الجنسيات الذين كانوا يعملون في الاستيراد والتصدير، ونظراً إلى الحركة التجاريّة البارزة ووصول السفن التجاريّة من الولايات العُثمانيّة والدول الأوروبيّة…
بعد فترة من الزمن تسلم أنطوان منارة أخرى في يافا، فسلّم منارة بيروت لإبنه جورج عام 1925، الذي إستمر بها حتى العام 1930، وفي ذلك العام سلّم أنطوان منارة “رأس بيروت” لإبنه الآخر جوزف الذي كان قد تخرّج متخصصاً في الميكانيك والكهرباء من مدرسة الصنائع في الدكوانة. وبما أن جوزف كان يعمل عسكرياً في الأمن العام الفرنسي، وكان يتنقل بين لبنان وسوريا، مما إضطره تكليف أبنائه للإستمرار في تشغيل المنارة وصيانتها، فبات أبناؤه الساكنون في بيتهم العائلي في أسفل مبناها، أولاد تلك المنارة الذين لا يبارحونها!
بقيت المنارة تعمل على الكاز حتى العام 1952، إلى أن لاقت المصير الأسود الذي واجهته بهدمها عقاباً، كردة فعل على غرق الباخرة الفرنسية “شمبليون”، عشية عيد الميلاد عام 1952. فقد دفعت تلك المنارة ثمن ضحية البحر والإلتباس الذي رافق غرق “شمبليون” التي إصطدمت بصخرة في منطقة “الأوزاعي”، بعدما إعتقد قبطانها وفريقه أن ضوء برج المطار هو المنارة، في حين كانت المنارة الحقيقية بحسب القبطان مطفأة، رغم أن حارسها جوزيف شبلي روى في التحقيق معه على مدى عشرين يوماً، كيف صعد السلالم التي ترتفع 38 متراً، وبيده قنديل الكاز، ليشعل فتيلة السراج الكبير الذي يعمل على الكاز كعادته اليومية منذ أن كان يساعد والده الذي تولى حراسة المنارة وإشعال فتيلها.
يقال في هذا المجال، إنّ أصحاب الباخرة المؤمّن عليها لدى إحدى شركات التأمين، رغم قدمها، إستغلوا غرقها، وصاغوا قصة أن المنارة لم تكن مضاءة، عارضين على عائلة شبلي الجنسية الفرنسية، مقابل إعترافهم بأنها لم تكن مضاءة تلك الليلة!!!
هذه الحادثة، دفعت السلطات اللبنانية للتفكير في بناء منارة أعلى وتجهيزها بمعدات كهربائية بالتعاون مع شركة BBT الفرنسية.
في عام 1957 ، تم افتتاح المنارة الجديدة بقياس 50 متراً وطُليت باللونين الأسود والأبيض، فهدمت المنارة القديمة، بعدما أسهمت إسهاماً بارزاً في هداية السفن ليلاً، وتحذيرها لئلا تقترب من الشاطئ، لأن الاقتراب منه يمكن أن يهدّد السفن عندما ترتطم بالرمال أو الصخور.
________
*باحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت