السلسلة الحديدية لميناء بيروت الجميل
في سنة 1170م، زار بيروت رحالة ألماني يدعى ديودوريتش خلال رحلته إلى فلسطين، وكان مطران مدينة فرتنبرغ بين سنة 1160-1170م. وهو يعتبر أول كاتب أوروبي عني بوصف الأماكن المقدسة في بلاد الشام وصفاً شاملاً دقيقاً في القرون الوسطى.
توقف ديودوريتش في بيروت وكتب عنها:
“… ميناؤها جميل أتقنته يد الصانع الماهر، ويحيط بالمدينة كالهلال. يقوم في كل من طرفيه برج تسحب بينهما سلسلة تحمي السفن الموجودة في الميناء في الليل.”
قلت في مقالة سابقة: في أيام مولد يسوع المسيح قام الامبراطور الروماني أوغسطس قيصر بترميم المرفأ وبنى له سدين على هيئة هلال على طرف كل واحد برج وربطهما بسلسلة حديدية للحماية. وفي مطلع القرن الثالث عشرتمت إعادة تنشيط الصليبيين للمرفأ وحمايته على طريقة أوغسطس قيصر مع بناء قلعتين على جانبي أطرافه. وفي سنة 1387م جدد الأمير بيدمر المملوكي نائب الشام سور بيروت على جانب البحر جعل أوله من عند الحارة التي على البحر واصلاً تحت البرج الصغير العتيق المعروف ببيرج البعلبكية، وجعل بين هذا السور وبين البرج المذكور باباً، وركب عليه سلسلة تمنع المراكب الصغار من الدخول والخروج، فسمي باب السلسلة.
***
مذكرات برتراندون دو لا بروكيه
في سنة 1432م، قدم سائح فرنسي (كان في الحقيقة جاسوساً لدوق بيرغندي) يدعى برتراندون دو لا بروكيه Bertrandon de la Broquière إلى بيروت عند عودته من فلسطين برحلة حج. وكانت رحلته هذه ذات قيمة كبيرة من الناحيتين التاريخية والجغرافية لما اشتملت عليه من وصف للمدن والموانىء التي مر بها. كما أنها ألقت الضوء على حياة البيروتيين من خلال أوضاعهم الاجتماعية وتقاليدهم الدينية في تلك الفترة من القرن الخامس عشر.
كتب دو لا بروكيه في مذكراته التي دونها في كتاب فيما بعد:
“… واصلنا السفر إلى بيروت ومررنا في طريقنا إليها بصور… وكانت مدينة بيروت فيما مضى أعظم شئناً، لكن مينائها صالح للتجارة ومياهه عميقة، والسفن الوافدة إليه تأمن من الخطر. ويشاهد على بعض أطرافه بقايا قلعة حصينة كانت قائمة فيما مضى، أما الآن فهي خرائب”.
بيروت مدينة الاستجمام:
تابع الرحالة الفرنسي برتراندون دو لا بروكيه Bertrandon de la Broquière وصف بيروت سنة 1432م في مذكراته التي جمعها فيما بعد بكتاب أهداه لدوق بيرغندي duc de Bourgogne فقال:
” وكانت بيروت ميناء دمشق وملتقى التجار من مختلف الجنسيات. وكان الناس يقصدونها للاستجمام…”
(وكلام الرحالة الفرنسي هذا يشير إلى أن بيروت في القرن الخامس عشر كانت من الناحية الاقتصادية تماماً كما كانت عليه بيروت قبل اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975: ميناء بلاد الشام، وملتقى التجار من كافة الأقطار، ومركزاً للطبابة والاستجمام والسياحة. فقدت كل هذا بعد العام 1975 ولا تزال إلى يومنا هذا، للأسف!)
الفرنسيون يسرقون من البيارتة سر صناعة الصواريخ!
تابع دو لا بروكيه: “رأيت المسلمين يحتفلون بعيدهم على طريقتهم التقليدية. بدأ الاحتفال مساءً عند الغروب فراحت جموع الناس تسير هنا وهناك فرحة بالعيد، تهزج بالأناشيد، بينما مدافع القلعة تطلق قذائفها. وصار الناس يطلقون عالياً إلى الفضاء صواريخ يفوق حجم الواحد منها حجم أكبر فانوس عرفته. وعرفت أنهم يستعملونها أيضاً لإشعال النار في أشرعة سفن أعدائهم وهي في عرض البحر. ويبدو لي أنها تصلح لحرق المعسكرات والقرى المؤلفة من بيوت خشبية، ولبث الذعر بين خيول الأعداء في الحرب، وذلك لسهولة صنعها ويسر تكاليفها.”
لم يهنأ للسائح الجاسوس بال ولم يستطع النوم، فقام يتحرى عنها وعن طريقة صنعها إلى أن توفق بالعثور على صانعها البيروتي وألح عليه أن يعلمه طريقة صنعها وأغراه بمبلغ كبير من المال، فاطلع على السر وأخذ معه نماذج منها إلى أوروبا.
***
بيروت كما كانت تبدو من جعيتا قبل 135 سنة
من مرتفعات بلدة جعيتا الجميلة، وعند منابع نهري العسل واللبن التي تصب في نهر الكلب الشهير، يبدو خليج السان جورج والنتوء الرملي لمدينة بيروت.
الرحالة والرسام الأمريكي John Douglas Woodward والرسم له من كتاب Picturesque Palestine, Sinai, and Egypt المتضمن رحلته بين سنة 1881 وسنة 1884.
***
الخليط العجيب في أسواق بيروت منتصف القرن الخامس عشر
في سنة 1442م، زار أنطون دي ترويا بيروت بمهمة من من الفاتيكان، ووصف المدينة في مدوناته التي أوردها الأب هنري لامنس (توفي سنة 1937 في بيروت) في كتابه “رحلة الأخ غريفون إلى جبل لبنان”. ومما كتبه دي ترويا في وصف سكان بيروت في أواسط القرن الخامس عشر يقول:
“… وفي أسواقها الضيقة، وطرقها الملتوية، تزدحم الأقدام. فمن أصحاب العمائم، أو الكفاف الحريرية، ومن لابسي البرانس البيضاء أو المضربيات، ومن هو مدجج بالأسلحة المطعمة بالذهب والفضة والنحاس بأشكال من النقوش البديعة… وكم من تاجر وأمير خطير يتعثر بحمال فقير.
فيها التقت جميع اللغات، وتعارضت الألوان والأصوات: فمن الزنجي السوداني، إلى الشركسي الأبيض، ومن الرومي النزق إلى البدوي الشديد، ومن اليهودي الملتوي إلى الاسباني المتغطرس، وقد اختلط بهم تجار البندقية وجنوا وبيزا.”
____
مجلة المشرق، السنة الأولى ص 17.
***
مرفأ بيروت سنة 1442م
في تلك السنة، زار أنطون دي ترويا مدينة بيروت بمهمة من من الفاتيكان. كانت بيروت في ذلك الوقت في عهدة المماليك ، وقد وصفها دي ترويا في مدوناته التي أوردها الأب لامنس في كتابه “رحلة الأخ غريفون إلى جبل لبنان”. ومما كتبه دي ترويا واصفاً مؤرخاً وواصفاً لمرفأ بيروت الشهير:
“… وفي تلك الأيام كانت بيروت مع الاسكندرية أهم الثغور الشرقية على البحر الأبيض المتوسط. فخراب عكا وصور وطرابلس وسقوط مملكة كيليكيا كان سبب عمرانها لتكون مركز تجارة كل سوريا. وكان مرفأها المحمي في غاية النشاط، والمدينة آهلة بعدد كبير من السكان، فجاء إليها التجار من دمشق وحلب وطرابلس وصور طلباً للاستجمام والأرباح.
وكان فيها لأهل قبرس (قبرص) عدد من الكنائس والحمامات، وكانت بضائع البندقية إلى وقت طويل لا تتمكن من دخولها إلا تحت علم آل لوزينيان أسياد قبرس، ثم أخذت سفن البندقية وجنوا وفلورنسا وكاتالونيا تردها في أوقات معلومة. وكان لكل من هذه الجمهوريات التجارية فندق ومستودع وقنصل يمثل البندقية…”.
معاملة المماليك للأجانب في بيروت:
أنهى المبعوث الفاتيكاني أنطون دي ترويا مشاهداته في بيروت سنة 1440م بوصف المعاملة الحسنة التي كان يلقاها الأجانب من قبل السلطات المملوكية، فدوّن ما يلي:
“… وكان المماليك الشراكشة الخاضعة لهم بيروت يقومون بحكمة ودراية بتوفير أسباب التجارة التي هي مصدر الخيرات للبلاد السورية، بالإضافة إلى قيامهم بتعيين راتب سنوي للقناصل الأوروبية…”
“… ولما استأذن تجار بيروت اللاتين في ترميم كنيسة المخلص لم تتردد الحكومة للإستجابة لطلبهم. وكان التجار الأوروبيون ينفقون على هذه الكنيسة ويقوم بخدمتها الفرنسيسكان الذين كانوا يقيمون بدير لهم في جوارها، وكانوا قد أقاموا أيضاً مضافة لزوار بيروت من الأوروبيين.”
***
دى فارتيما في بيروت منتصف القرن السادس عشر
في حوالي سنة 1500، قام الرحالى الإيطالي لودوفيكو دى فارتيما Ludovico di Varthema (1470 -1517) بزيارة بيروت بعد أن انتظم في سلك المماليك في مصر أيام الملك الشرف قانصوه الغوري. دون دي فارتيما مشاهداته في ابلدان العديدة التي زارها في الشرق في كتابه Itinerario de Ludouico de Varthema Bolognese سنة 1510 في إيطاليا. ومما قاله عن بيروت:
” قدمت إلى بيروت، وهي مدينة وافرة الخيرات سكانها مسلمون وحولها سور تلتطم عليه الأمواج لكنه لا يكتنف المدينة من كل جهاتها، بل من الغرب وعلى شاطىء البحر فقط… ولم أر في المدينة ما يستحق الذكر إلا بناءً متهدماً قيل إن ابنة الملك كانت تقيم فيه لما أراد التنين أن يفترسها، فجاء مار جرجس وقتله…”.
ومما يلفت في رواية دى فارتيما وصفه لسور بيروت الشهير والمعروف تاريخياً أنه كان يحيط بالمدينة من كل الجهات. ولكن يبدو أنه كان مهدماً في منتصف القرن السادس عشر ما عدا على الجهتين الشمالية والغربية مما يوحي أن الخطر على المدينة كان يتهددها من جهة البحر. وهذا يحتاج إلى دراسة أعمق!
__________
*مؤسس/ رئيس جمعية تراثنا بيروت