سأحدثكم عن بيروت (15).. شباط في ذاكرة البيروتيين

زياد سامي عيتاني*

شباط في ذاكرة البيروتيين يتراوح بين “الثلجة” وخوف العجائز

“شباط مهما شبط ولبط، ريحة الصيف فيه”.. هذا المثل الشعبي الذي يتناوله البيروتيون لم يصح هذا العام، من جراء العواصف المتتالية التي ضربت البلاد في “كوانين”، وإستمرت مع شهر شباط “إللي ما عليه رباط”، مصحوبة مع الصقيع والبرد الشديد والرياح العاتية والثلوج الكثيفة بدءاً من المناطق الجبلية قليلة الإرتفاع عن بيروت.. مما يجعل المثل الشعبي الآخر: “أول عشرة من شباط لف العجوز بالبساط”، أكثر دقة وتعبيراً عن واقع الحال.

وإزاء هذه العواصف، التي لم تشهدها بيروت منذ سنين عديدة، يتساءل المعمرون من البيروتيين: “هل من الممكن، أن نشاهد الثلج الكثيف مجدداً في بيروت، كما حدث في عشرينات وستينات القرن الماضي؟”

في الواقع، الأمر ليس غريباً على الاطلاق، وفق المعتقدات الشعبية المتوارثة من جيل إلى جيل، فبعض كبار السن يرددون نقلاً عن أسلافهم أن ثمة إعتقادات شعبية، بأن الثلوج تتساقط في بيروت عادة كل عشرين سنة، في حين أن البعض الآخر يرى سقوطها كل أربعين سنة.

وبغض النظر عن مدى صحة هذه المعتقدات، فإن آخر مرة تساقطت فيها الثلوج في شكل كثيف في بيروت كانت عام 1963، لكن الذاكرة الشعبية البيروتية لا يمكن أن تنسى تلك الواقعة الشهيرة والإستثنائية عندما إكتست بيروت بالثلوج في شباط 1920، إبان نتهاء الحرب العالمية الأولى. هذه الواقعة حينذاك دفعت أغلب البيروتيين الى تأريخ الحوادث والمناسبات المختلفة بتلك الظاهرة المناخية الفريدة، فكانوا عندما يريدون أن يتحدثوا عن أمر ما، يقولون قبل “الثلجة” أو بعدها، وذلك للدلالة على زمن حدوثها.

وقد وصف المؤرخ عبد اللطيف فاخوري ذلك اليوم بقوله:

“أفاق سكان بيروت صبيحة الأربعاء 11 شباط 1920 على مشهد تساقط الثلوج بغزارة لم يعرفوا مثلها من قبل، ولم يتمكنوا يومها من فتح أبواب بيوتهم إلا بصعوبة، وأطلّوا من النوافذ ليجدوا أن ارتفاع الثلج بلغ ما بين نصف ذراع وذراع. وتبدل لون القرميد وتعمم بالأبيض الناصع وتغطت الطرق والبساتين والأشجار والأسلاك بالثلوج. لم يعد الناظر يميز بين بيروت والجبل. كما توقفت المركبات عن السير، ومنها عربات الترامواي، وبقيت المحال والحوانيت والإدارات الرسمية والمدارس مقفلة. ولم تصدر الصحف تلك الصبيحة”.

وتابع: “ظل الثلج يتساقط حتى ظهر الاربعاء وبدأ الثلج يذوب. فتحولت الطرق والزواريب أنهاراً، وأخذ أصحاب الدور يجرفون الثلوج عن السطوح خوفاً من إنهيارها. وقيل إن البرد ليلتها كان يدخل من شقوق الأبواب، وأن السكان لم يغمض لهم جفن من شدّة الصقيع…”

أما عن “ثلجة” ١٩٦٣، فقد تصدرت عناوين الصحف الصادرة في بيروت حينذاك ذلك الحدث غير المسبوق، حيث عنونت صحيفة “لسان الحال” تلك الظاهرة الفريدة على صفحتها الأولى: “حبات برد بحجم الجوزة سقطت على طول شاطئ بيروت.. غرق ٣٠٠ بيت بالسيول في وطى المصيطبة وسقوط ١٠ جرحى”.

في حين عنونت صحيفة “النهار” صفحتها الأولى: “الثلج في بيروت.. إنقطاع المواصلات بين الأنحاء اللبنانية.. الناس يعودون بالذكرى إلى سنة ١٩٢٠.

إذا كانت ظاهرة تساقط الثلوج في بيروت نادرة، فإن السيول التي تخلفها الأمطار الغزيرة ظاهرة مألوفة، ليس فقط في عصرنا الحديث، بل إنها مزمنة وتاريخية وقديمة العهد. من هنا جاء المثل الشعبي البيروتي القديم في وصف المدينة: “في الصيف محراق، وفي الشتاء مغراق”…

شباط الشهر الأعور:

معروف أن شباط أقصر شهور السنة، فهو الشهر الوحيد الذي يبلغ عدد أيامه 28 أو 29 يوما. ويكون الشهر 29 يوماً في السنة الكبيسة وهي السنة التي تقبل القسمة على الرقم أربعة.

لذلك كان يدعى عند عامة الناس بالشهر الأعور بسبب عدد أيامه التي تقل عن 30 يوماً.

وإشتُق اسم شباط من جذر الفعل السرياني “شبط” الذي يعني الضرب والجلد والسَّوط، كما أنه يُطلق على الهبوب الشديد للرياح. وقد كان آخر الشهور التي تمت إضافتها للتقويم الروماني عام 700 قبل الميلاد.

شباط عدو العجائز:

في المعتقدات البيروتية القديمة أن كبار السن كانوا يخافون شباط، بسبب كثرة الوفيات فيه من العجائز، لذلك سُمي شباط بـ”أيام العجوز” حيث أنه في قصصه الخرافية تدور حول حكاية عجوزٍ كبيرةٍ في السن، إستهانت بمطر شهر شباط وبرده، فقضت نحبها، لذلك فإن العجائز وكبار السن يخشون من شهر شباط، فيحتاطون من برده وغدره، ويلجأون لكل وسائل التدفئة، ويحرصون على عدم مغادرة منازلهم!

تبقى الإشارة أخيراً إلى أن التراث البيروتي حافل بالكثير من الأمثلة والمقولات المتنوعة حول شهر شباط، والتي تصف تقلب هذا الشهر من السنة، حيث إعتبرته غير محدد الهوية بسبب تقلبه بين الصيف والشتاء؛ حتى أنه يتم تشبيه الأشخاص متقلبي المزاج في الأمثال الشعبية بشهر شباط التي تتحدث عن تقلب أيامه بين المشمسة والماطرة والدافئة والباردة وما يرافقها من صفات تميز هذا الشهر.. ومن أشهر تلك الأمثال:

“-راح العاقل كانون وإجا شباط المجنون.

-شباط غيمو وهواه أحسن من شمسو وشتاه.

-الصيت لشباط والفعل لآذار.

-راح شباط الغدار وإجا آذار الهدار.

-غيمة شباط ولا صحوة كانون.

-شمسة شباط وغيمة آذار من نعم الله الكتار.

-شباط ما بيخبي شمسه.

-إمش على غيم كانون ولا تمش على غيم شباط.

-شمس شباط لكنتي وشمس آذار لأختي وشمس نيسان لبنتي.”

________

*باحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website