خواطر رمضانية من كَرم الزيتون أيام زمان
كنت صبيّاً صغيراً من سكان زاروب في كرم الزيتون (الجهة الغربية لمحلة النويري المعروفة بمنطقة المزرعة كما كانت تسمّى في تلك الأيام)، وصودف رمضان آنذاك في موسم الخريف. وعند ساعة الافطار يكون سكون الخاشعين يطغى على الجميع فلا تسمع الا همساً. حتى هدير السيارت يتوقف في الخارج تماما وكأن البلد في سبات عميق . إعداد منقل الفحم والطبلية المستطيلة يؤشر إلى اقتراب الوقت. يجتمع الكل حولها بانتظار مدفع الافطار وكان جدي رحمه الله سيد الموقف يدير ويدبر شوون اربع عائلات تسكن في داره . شوربة العدس والسوس سيدا الطاولة ثم جاط الفتوش الذي يمر على الجميع روحة ومجيئا فيدوخ ويستقر فيما بعد في زاوية المطبخ . هذه حدود رمضان ثم طبق الكلاج ومازاد عن ذلك فهو بطر واسراف ولا علاقة له بالصيام . هذه فلسفة جدي ان الصيام صحة فنحن ناكل طيلة العام لحم ودجاج ورز ومعكرونة وكبة وليس من المعقول في شهر الصحة واستراحة الجسد ان نضيف اصنافا سئمنا من تناولها طيلة العام . صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: المعدة بيت الداء والحمية راس الدواء .
شهر شعبان قدومه سعد على منطقة كرم الزيتون ، حيث يبدا الاهالي بتزيين الشارع بشعارات اهلا وسهلا برمضان ، وترى حركة غير اعتيادية في المنازل والبيوت ، حملة تنظيف واسعة من أول الزاروب وحتى نهايته ، أما البيوت كانوا يطلقون فيها البخور الجاوي ، ويفتحون الراديو على أحاديث فضائل شهر شعبان ، وكل سيدة كانت تشمر عن زنودها لصنع الحلويات مشبك عوامة وخلافه وتبدا الاستعدادات لشراء لوازم الافطار. إنه شهر فضيل عزيز على كل المسلمين .هلً رمضان بعد انتظار طويل مضى عام والناس تنتظر ه بفارغ الصبر الجيران يطوفون على بعضهم البعض للتهنئة. الفرحة تغمر الجميع حتى قبل ان يهل الشهر الفضيل ترى الناس وجوهها مشرقة باشة هاشة. اميرة الربعة” ام بديع ” تسال جدتي : ماذا اشتريتم لرمضان ؟ جدتي : جبنا قطايف وقشطة وجوز ومغربية وجبنة عكاوي وجبنة قشقوان وقمر الدين وصنوبر . كان هذا الحديث يدور في كل الزاروب ويطرق كل الابواب ، انها أبواب البسطاء والطيبين أبواب الخير والمحبة . كانت البيوت قانعة بما أعطاها الله ولذا لم نعرف فاقة او جوعاً او حتى مرضاً سوى “الكريب”. كان البيت الواحد يسع عشرة من الاولاد مع زوجاتهم وعيلهم من الجيل الذي مضى وغبر ولن ياتي غيره. إنهم يرحلون عنا واحداً تلو الاخر ولم يبق في كرم الزيتون سوى القصة التي أرويها وبعض المخضرمين منهم من رحل ومنهم من ينتظر.
درج خان البيض
لم يخطر على بالي وانا ولد صغير ان “درج خان البيض ” مدينة يقصدها البشر من كل انحاء لبنان للتبضع وفي مخيلتي شيء اخر. رافقت عمي ووالدي قبيل شهر رمضان بيوم واحد وكلّي شغف لمعرفة هذا المكان المسحور . هبطنا من الـ “ترين” عند العازارية وقطعنا مسافة أمتار لتلمس قدمي الدرج ، عريض بعض الشي كذلك طوله . اخافني دكان دبوس فيه من لوازم الخوف ما يكفي: ذيل تمساح ورأس أفعى وفي المقابل شي من هذا القبيل . طيور ودجاج واسماك وسوق اللحامين. هناك الرعب الاكبر حيث رأيت لأول مرة في حياتي شاة معلقة بشناكل سوداء وهي تقطر دما، كدت اختنق من رائحة الدم والكروش، ونزولاً تتغير الامور ملبس وشوكولا .
توغلنا في غابة من البشر والخضار والفاكهة على أحسن حالها . تبضعنا شاي وبن وسكر ورقائق القطايف الكبيرة بحجم صدر الطعام والجبنة العكاوي وخضار وخلافه ومغربية مهبلة . عدنا على وجه السرعة كما يعود الطير الى عشه الى كرم الزيتون الذي لا اطيق البعد عنه . وهناك بدات اقص مشاهداتي واحوال السوق والبلد على نساء الزاروب والدهشة على محياهم ظاهرة ، نظرن اليّ وكاني السندباد البحري ..
الزاروب بعد الإفطار
بعد الافطار الرمضاني المبارك يتفرق قوم كرم الزيتون ، منهم من يقصد قهوة القزاز والبعض قهوة البسطا الفوقا واخرون الى البارزيانا ، او قهوة ابو داوود او دوغان ، يلهون بالنرد والدومينو او لعبة المحبوسة . هذه فترة استراحة نساء كرم الزيتون بعد ان هجرها رجالها الى المقاهي ، يعج الزاروب بالزوار ، ام فلان عند ام علان وهكذا دواليك . المتنفس الوحيد للنساء هو الزاروب، كل امراة تحمل ركوتها وتخرج بها الى الزاروب فإما يكون اللقاء جماعياً في سطيحة بيت سلام المقابل لبيت الكستي وسكر إو فرادى مثل فريال العدو تضع فنجان القهوة على حافة “التصوينة” أول مدخل الزاروب الملاصق لبيت دعبول وتسلم على الجيران دخولاً او خروجاً وكذلك الامر مع خديجة الربعة التي لم اراها طيلة عشرين عاما مضت على عتبة الزاروب تحتسي قهوتها مع أم محمد الزعرت ، أما ام مصطفى الشميطلي فيكفيها البراندة المطلة على بيت الكستي وسلام وسنو، فهي تعيش بين أغصان الياسمين والغاردينيا وماء الزهر . بيت السخنيني بيت عز وكرم فالباب مفتوح للجميع “ادخلوا واشربوا القهوة البيت بيتكم وانتم اهل المنزل” . بقي لدينا بيت الكردي مجتمع دين وملتزم واختلاطهم قليل ببقية الجيران لا تكبراً أو شوفة حال بل حياءً ومحبة وهم اهل صفاء النية والتواضع . نعود لسكينة سكر لا مع هذا ولا مع ذاك تقف حائرة على باب الزاروب تنتظر عودة ابنها محمد المشاغب من القهوة بدون عراك مع احد (الله يسترنا) .الجيران متلهفون لمجيء أم حسين المصري، قهوتها لذيذة وحكاياتها جميلة . ومع اطلالة أول رجل من أول الزاروب يتفرق الجمع وتعود النسوة الى بيوتهن ولسان حالهن يقول ” ألا ايها الليل الطويل ألا انجلِ “. وكل رمضان وجمعة رمصان بخير يا بيروت .
ليالي القنديل
اذكر في تلك الحقبة الجميلة من تاريخ بيروت ان الكهرباء دخلت البيوت بداية بشكل خجول ولأصحاب النفوذ والمقام الرفيع. أول رمضان قضيناه على القنديل ، كان الجو ساحراً خصوصا منظر القطايف بالجبن على منقل الفحم ، لم اعد اشتهي اي شيء سوى القطايف ودعوت الله حينها ان لا يطرق بابنا ضيف فيقاسمنا هذه الشريحة الكبيرة من القطايف المغمسة بالسمن الحموي والقطر المحلى بماء الزهر . دخول المغرب بات وشيكاً والطعام جاهز بانتظار الافواه الجائعة . طرق بابنا فجأة ضيفان قادمان من الجنوب أصدقاء جدي القدامى بينهم شراكة عمل، وتشاركا ايضا معنا وجبة الافطار وقد احسست بغصة عندما التهما شريحة القطايف بسرعة قياسية وكأنهما هاربان من سفر برلك ، وكان لهذا القنديل محاسنه حيث يخفي جزءا من الطعام نوره فلا تمتد اليه يد الضيوف ولايحسون بوجوده . خلال السهرة الرمضانية تدخل علينا أم محمد الجمل وام بديع الكستي والحاجة ام علي سعدالدين وفي يدها جاط مهلبية ،منا الجالس على البساط ومنا القاعد على الدشك وعمي يتوسط حلقة الزوار ويقلب الجمر تحت ركوة القهوة فتزداد هيجاناً وغيظاً ، اما قرقعة الاركيلة فهو من اختصاص أمي وأم بديع. لا حديث اليوم إلا عن نكبة فلسطين والحرب . وجاء موعد “صوت العرب” من القاهرة مع أحمد سعيد. الجميع ينصت الى اين تسير الامور ، كلما صعّد احمد سعيد في خطابه ينهض جدي واقفاً ويقول: “الله اكبر” . أقارن اليوم بالأمس ، بالأمس قلة مع قناعة ونخوة مع محبة، ورغم عدم وجود كهرباء كنا نرى بعيون المحبة والسلام والايمان ، اما الآن ورغم الكهرباء فنحن لانرى ولا نفقه ولانشعر ببعضنا البعض . الله يرحم امواتنا وامواتكم وألحِقنا ياربّ بالقوم الصالحين .
في ذلك العام كان الشهر الفضيل يشوبه خوف وحذر رغم شدة البرد والصقيع. كانت جمعتنا حلوة وسهرتنا جميلة بين تبادل الاطباق مع الجيران الغيارى وقدوم المحبين ، من بيت فتحة وخربطلي والحاسبيني والعدو ، أبناء الزاروب العتيق . أخبار الحرب لم تردع الصائمين عن صومهم ولا العباد عن صلاتهم ، لمّة الاهل والاصحاب والجيران في بيت من بيوت الزاروب حول منقل رمضان كانت تنقلنا الى عالم النشوة وكنا نشعر بالدفء والطمانينة بين جيراننا رغم طبول الحرب بين العرب واسرائيل . منير فتحة كان يتنقل بسلاحه وكذلك بديع وخالي خوفاً من غدر الاسرائليين او العصابات الموالية لها في الداخل اللبناني . كان هذا الزاروب بمثابة البيت والمدرسة واللمّة الجميلة والابتسامة الحلوة ، كانت الاطباق التي تصلنا تباعا من الجيران تطعم عدد غير قليل من الناس رغم قلة الزاد، ولكن البركة والكرم كانا يفيضان عند الجيران والاحباب، وصدقاً كانت تزيد. لاندري من يطرق الباب ليقدم لك طبق من الطعام او الحلوى وكذلك كان جدي يفعل بالمثل . الزاروب يواجه مأذنة الخلية السعودية التي تصدح بصوت ابو عبد عثمان الشدي عقب صلاة العشاء كل خميس بمدح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. رمضان في زواريب كل بيروت لها طعم اخر وهو طعم الايمان والحرص والغيرة على الجار ، ما أجمل ان ترى نساء الزاروب يتبادلن الاحاديث على العتبات وحديثهن موحد ” ماذا طبختم ياجيران” ؟ لم اسمع في حياتي قلة زاد عند أحد او مرض أقعد صاحبه إلا وهبّ أهل الزاروب لنجدته والوقوف على حاله . ربنا هب لنا من لدنك رحمة واحشرنا مع الصالحين والصديقين والانبياء يارب العالمين، والفاتحة عن ارواح موتانا الذين اسسوا وصنعوا ورحلوا عنا في شهر كريم عند الله .
ربيع 1959
كانت هي المرة الأولى التي أحضر فيها صلاة عيد الفطر في مسجد عمر بن الخطاب ” الخلية السعودية”. مع ساعات الفجر الإولى يصدح الصوت الجميل والحنون صوت مؤذن المسجد المرحوم ابو عبد عثمان من على المنبر ” الله اكبر الله اكبر لا اله الا الله”. ما اجمل هذه الكلمات وما اعذبها ، انها تخرق القلب وتشرح الصدر وتمنحك قوة ودفعاً وايماناً قوي. نهضنا باكرا ،اعدت امي “القازان والناريت” ، اغتسلنا ولبسنا الجديد من “البابوج للطربوش” . خرجنا مع عمي متجهين للصلاة ، دخلنا المسجد فقابلنا شخص من بيت “جنون” سلّم على عمي وعايده، ثم صعدنا على الدرج الطويل وبحثنا عن مكان قريب من المنبر للجلوس . كان المشهد مثيراً للإعجاب يبعث في الروح الطمأنينة والخشوع لله تعالى الواحد الاحد. ماهي الا دقائق حتى دخل الشيخ نمر الخطيب فالقى خطبة ذرفنا خلالها الدموع، تعلمنا المحبة والتآخي والاخلاص لله تعالى. خرجنا من المسجد فعلا صوت السائلين والباعة. بدأنا يومنا المبارك بجمع ” العيدية” وانتهى يومنا في “حرش” العيد وفي حرش العيد كل شيء جديد، وكل عام وانتم بخير.
سوق النورية
موعدنا اليوم مع سوق النورية الذي قصدناه مع عمي ووالدي. البحث عن خضار طازجة تفي بحاجة رمضان . فجل ، بقدونس ، نعنع ، خس ، بندورة ، خيار ، بقلة. وبما ان البرّاد لم يكن متاحا في كل البيوت، فالجار الذي يملك براد يخزن لجاره بعض اللحوم والخضار خوفاً من تلفها في موسم القيظ . لم يكن رمضان سهلاً هذا العام ، الحرارة مرتفعة ، والعروق ناشفة تنتظر البلل . الساعة التاسعة مساءً قريب الافطار والسواس لم يحضر بعد. جم غفير من الجيران ينتظر قدومه للزاروب ، وكلٌ يحمل في يده ابريق بلاستيك أخضر اللون أو ازرق يريد ان يملأه بالسوس أو التمر هندي مع ثلج ناعم، وكل ذلك بخمسة وستين قرشاً. جدّي ينتظر السوس على أحرّ من الجمر، فهو لا يفوّت رمضان دون السوس والكلاج. رنّة صحونه تسمع من أول طلعة العلماوي فترسم الابتسامة على وجوه الجميع. ما أطيب التمر هندي بالثلج ، ورغم أن مذاق السوس مر، إلا أنه صحي ويطفيء نار العطش اكثر من الماء . أما السحور فهو عالم آخر في زاروبنا، تدب الحياة فيه قبيل الفجر وتسمع قرقعة القباقيب استعداداً للوضوء ، أما جدي فكان يكفيه منقوع قمر الدين بالصنوبر. هذا سحوره ولا يزيد عن ذلك . الجوّ إيماني، خاصةً عندما تسمع صرصرة الأبواب وهي تفتح وتغلق، وحين ترى أفواج المؤمنين تتوجه إلى الصلاة في الخلية السعودية .
نادت أمي على جارتها ام محمد الجمل : ” بتجي تساعديني بفرم البقدونس ياجارتنا؟ المغرب قرّب وبعدني غاطسة بالغسيل “. بكل محبة أتت جارتنا وجلست على الارض في المطبخ وشرعت في فرم البقدونس على” الطبليه” . مع مدفع الافطار كل شي حاضر بأمر من جدّي أبو منذر. طنجرة شوربة عدس ، وجاط فتوش ، ابريق سوس ، صينية مغربية مع دجاج . طفولتي فيها ملاحظات وحب الفضول ،قلت هذا في نفسي وأنا اتذكر كم كنت أحشر جسدي الرقيق بين جنبات الكبار لكي أحظى بقطعة دجاج هبرة خالية من العظم ،والغريب في الامر ان أعداد الموجودين لم يكن يوحي ببقاء ولو حبة مغربية واحدة او ملعقة فتوش، وسبحان الله أنهم لما انفضوا من حول السفرة بقي ما شاء الله من طعام ، إنها بركة القناعة والبساطة وحب الجار لجاره . أذكر حادثة وقعت لنا عندما كنت وأمي عائدين من عند الدكتور بربور ،وعيادته لا تبعد عن منزلنا سوى آخر طلعة شارع بربور، فصادفنا في طريقنا بديع الكستي وما أدراك م ابديع الكستي! إذ زمجر وكشّر فصرخ في أمي صرخة كادت أن تهوى أرضاً ” شو اللي ضهرك من الزاروب يافيكتوريا؟” . كانت صرخة الغيرة على نساء الزاروب والنخوة والمحبة والتعاون . اما اليوم فيا ويلاه!
ترجع بالسلامة
كان العالم بعيد من حولنا رغم المسافات القريبة جداً والتي لا تقاس بعشرات الكيلومترات، ولكن رغم عدم وجود تقنية الاتصالات الحديثة كنا نرى زقاق البلاط بلاد اغتراب ، والذهاب الى صيدا يستوجب حضور الجيران مساء السفر لتوديعك ، والذهاب الى طرابلس كان يلزم تحضيرات ويقف الجيران على باب الزاروب لكي يقولوا لك “تروح وترجع بالسلامة ” ويصلون ركعتان نافلة على نية الوصول بالسلامة إلى عين المكان .
يومها ذهب جدي وأبي إلى صور في مهمة تضمين بستان ليمون. غادروا مع فجر رمضان في بوسطة “عين الله ترعاك ” . ويفترض ان يعودا قبل مدفع الافطار، وخلال اليوم كان الجيران ينادون جدتي من الشرفات ” هل وصلوا بالسلامة؟.. في إخبار “؟ . وهكذا الحال حتى العصر حيث بدإت جدتي بالقلق وإمي كذلك، فخرجن الى رأس الزاروب ينتظرن عودة رب البيت وابنه وبدات الشمس تميل نحو الغروب مما زاد القلق. حتى خديجة الربعة وسكينة سكر وقفا أيضا مع جدتي ينتظرن وصول المسافرين وقديماً كانوا يقولون لمن يذهب الى مدينة او قرية مسافر .
بدات ملامح البوسطة بالوصول من برج ابي حيدر. من هديرها عرفنا. فرح الجيران بعودتهم سالمين إلى كرم الزيتون ودخلوا بيوتهم يلحقوا الإفطار الذي وجب وحلّ ولو تاخر جدي لبقوا منتظرين حتى يعود بالسلامة محمّلين ببضع صناديق حمضيات لذيذ. أكلنا وفرّقنا على الجيران وعمّت الفرحة بيوت كرم الزيتون حتى ان الجار كان يرسل ابنه للاطمئنان على وصولهم ” روح شوف وصلوا جيرانا بالسلامة “؟ . ما أجمل بيروت وأهل بيروت.. والسلام عليك يا بيروت.
عام الفزع
لم يكن يمض على الهزّة التي ضربت لبنان سوى شهر واحد حتى دخل شهر رمضان المبارك . اتفق الجيران في الزاروب أن يكون الإفطار جماعياً في سطيحة بيت سلام والبعض الآخر الذين يسكنون في الشق الشمالي من الزاروب اي بيت فتحة وشعبان ونعمة وبلطجي وكلش والجويدي والجوزو والخربطلي وكبي ويقظان والمصري وفروخ والعلماوي والبربير. فضّلوا بورة بيت علييدين (مدرسة الارشاد حاليا ) تحسباً لارتدادات الزلزال الذي أوقع ضحايا ومنهم من اقام خيمة ونام فيها . أذكر أنني رأيت الحصير على طول السطيحة وكل جار احضر مواعينه وبقي الجميع جلوساً على الارض مسمّرين بانتظار مدفع الافطار، وكل جار أو جارة جلبت معها قنديلها فصرنا نرى الإبرة على الارض من شدة ضوء القناديل البحرية كما يسمونها. عند انطلاق مدفع الإفطار يبدأ مهرجان العراك مع الطناجر وتسمع موسيقى قرقعات الملاعق والصحون ، كان الطعام مشاركة وتمتد الايدي دون حساب هذا لمن وذاك لي، لان القلب واحد والجيرة لها احترام ، وبعد الافطار يسود الهدوء وينتحي الرجال جانباً يدخنون التتن ويشربون القهوة وأعينهم شاخصة في الدخان الذي يخرج من الفم متصاعداً حلقات حلقات وكانها غزل البنات. ورغم النسائم الباردة آنذاك إلا أنه أهون من البقاء في المنازل فيسقط عليك السقف وكذلك اشعال أكواز الصنوبر اليابس الذي منحنا قسطاً كبيراً من الدفء. راديو جدي يبث الاخبار: لا زلازل تذكر حتى الان اطمئنوا ايها اللبنانيون . انفض المجلس وتثاقلت مشيتنا نحو البيت وعدنا والعود أحمد .
سهرات ما بعد الإفطار
بعد الافطار اعتاد اهل كرم الزيتون أن يسهروا عند بعضهم البعض سواء في المنازل أو يضع كل جار كرسيه أمام عتبة داره . وفي زاروب بيت سلام كان هناك سطيحة كبيرة تظللها شجرة توت ضخمة تصل أغصانها إلى بيت كستي المجاور . كان الحصير هو المفرش الشائع في ذلك الوقت حتى في بعض البيوت ،يقي حر النهار وقيظ الصيف . كل جارة تضع أطفالها إلى جانبها وتراقبهم عن كثب لعل احدهم انسل بعيدا وسط زحمة الجيران وغادر الزاروب فتقع الكارثة ” واقعدو دورو عليه طول الليل بين برج ابي حيدر او شارع بربور ” .
أثناء السهرة الجميلة اشعلنا أكواز الصنوبر وعيدان “السْيسكون” وصارت الام تجبر اطفالها على تنشق دخانه لأنه كما كانوا يدّعون كويس للخانوق والربو . وكان لدور بزر البطيخ الذي يفرقع في الصاج الحامي كل الاهتمام لانه طيب ولذيذ ومسل في السهرة الطويلة . أم مصطفى الشميطلي رحمها الله أرسلت الينا مع ابنها عمر جاط خبيصة بالجوز ، وبيت سعدالدين نمورة ، ولا ننسى حارس البلدية أبو معروف الذي حانت “نوبتشيطه” في حراسة كرم الزيتون وكان قد انضم الينا وشرب الشاي ودخن التتن وجلس على العتبة يراقب الزاروب من بعيد لعل غريب يغتنم فرصة سهرة الجيران خارج المنزل فيتسلل الى بيوت احدهم ويسرق الهاون او ببور الكاز كما حصل العام الفائت لبيت اولاد خالتي شعبان في بناية الكبري حيث سرق اللص الهاون والببور وبعض المواعين و”فركها” باتجاه بيت فتحة حيث لحقوا به بعد ان صعد شجرة في بورة بيت علييدين ومن ثم انت فرقة الـ 16 وقبضت عليه واودعته مخفر البسطا . والحمدلله على كل شيء والله يرحم هولاء الذين غادرونا الى الدار الآخرة اللهم ارحمنا واجمعنا مع من نحب .
الجيرة الطيبة
من العادات المستحبة أيام زمان أن الضيف سواء كان رجلاً او أمرأة لا يدخل منزلاً او بيتاً إلا وبيده شيء ما ، والاكثر شيوعا كان طبق السميد بالسمنة والسكر . وبما ان التلفزيون كان لايزال في متناول الطبقة الغنية فكان الرجال يعوضون عنه بسماع حكواتي قهوة البسطا الفوقا ، وشباب الزاروب يلعبوا الداما و”تفوير” كازوز جلول ، اما النساء يفضلن لعبة البرجيس.
واذكر حينها عندما يطل احد من اول الزاروب نعرفه من وهج قنديله الذي يصطحبه معه او ضو الانتريك. في هذا الجو الهادىء والقناعة بلا حدود والقلب العامر بالايمان عشنا حياة كريمة، خبزنا كفاف يومنا وحبة الاسبرو تغنينا عن الدكاترة والمستشفيات، وقلما سمعنا أن أحداً نقل إلى مستشفى أو حتى زار طبيب . من المحرمات علينا كان خروج النساء خارج الزاروب دون مَحرم معها وممنوع علينا نحن الاطفال ان نخطوا خطوة واحدة خارج الزاروب، وأبعد مسافة مسموح بها كانت إلى دكان اأو محمود أو محمد خدوج بياع اللبن أو زكور المصري كمجموعة وليس فرادى خوفا ان يتعرض لنا احد.
ذلك اليوم قبيل الافطار سمعنا أن أم حسن أحرقت رجلها بالماء المغلي فلم يبق أحد إلا وخرج الى الزاروب للاستفسار عن أحوالها، فجمعوا لها ولزوجها طعاماً وأرسلوه مع الرجال لان أم حسن لم تكمل طبيخها بسبب الحروق وأسعفوها عن طريق اطفائية طريق الجديدة حيث أخذوها بسيارة عبد الصمد وضمّدوا جراحها بدواء كان يملكه الاطفائجي .
في الأيام الصعبة
حدثني جدي عن أبيه أن رمضان في أعوام الجوع والحروب كانت الناس تعاني كثيراً من قلة الزاد والموارد والمؤن. يومها كان الناس يبحثون في البراري عن ما يسد رمقهم و يقطفون الزيتون ويخللوه وكل ماتمتد ايديهم اليه مما يؤكل، وكذلك البلوط البري يطحنوه وينتظرون موسم الصنوبر لكي يشووه بالنار ويخرجون حبه لسدّ رمقهم ويخلطون القمح بالماء ان وجد وهذا امر نادر مايحصل بسبب احتكار المحاصيل من المستعمر. والشعير كان الاوفر حظا لأنهم يسرقونه من اسطبلات المستعمر ويطحنوه بالماء ويجعلوا منه خبزا يسد حاجتهم .
ومنطقة كرم الزيتون أول من سكنها بيت النحاس وسلام والكبري وقد جاء معظمهم من منطقة الناعمة وكانت منطقة كرم الزيتون كثيرة الصبار والزيتون والقصب . هذه البيوت العريقة نمت وكثرت وقدم الكثير يبحث في ارض المشاع عن موطأ قدم له ولعائلته. البيوت كانت قليلة يتقاسمون أهلها فيما بينها ماتيسر من زاد ومؤن . قال جدي ان طفولته عاشها بين كروم الزيتون وتلال الصبار وكانوا يأكلون الصبار أما الفضلات فكانوا يرمونها للدواب . وفي شهر رمضان كانوا يشعلون القناديل ويفرشون الحصير على كثبان الرمال تحت ضوء البدر الجميل ويوقدون الحطب لإعداد القهوة وكل جار ياتي بما تيسّر من زاد وان اكثر الايام كانوا يفطرون على البيض واللبن وخبز الشعير وبعض الخضروات التي تجود بها براري بيروت كالهندبة والسبانخ والسلق اذ لا مشقة في وجودها فهي تنبت بجوار الاشجار الضخمة .
في أيام الشتاء
في مثل تلك الأيام كنت أسمع طقطقات الأغصان من شدة العاصفة وأرى الشجر يرقص على صوت الرعد من خلف الزجاج المغبش ببخار الانفس الكثيرة التي افترشت ارض المطبخ بانتظار مدفع الافطار . لم يشعر احد منا بالعطش او الجوع فالجو في الخارج بارد والنهار قصير، رمضان الشتاء لا يشبه رمضان الحر والقيظ ،وكلاهما له مزية خاصة به ، لكن رمضان الشتاء فيه حكايا السهر ومتعة القصة الخرافية ، فلطالما ذكروا قصة الجنيّ في بيت أم عدنان في زقاق البلاط الذي كان يكنس ويمسح البلاط اثناء نومها، أو قصة العلامة الجليل الشيخ سراج الذي كان يقدم اشهى اطباق الطعام لضيوفه وهو معدم لايملك من حطام الدينا سوى بيت آيل للسقوط ومطبخ فقير خاو من المواعين ومن مظاهر الطعام والترف، او قصة الوليّ الصالح أبو خطوة الذي كان يصلي الفجر في مكة ويعود الى داره في محلة خندق الغميق دون اسباب المواصلات . هذه الحكايا كانت تقص كل ليلة بعد الافطار وحول موقد عامر بالجمر وركوة قهوة تسدّ حاجة الحاضرين من جيران الزاروب.
ذاكرتي تهوج وتموج ، وشريط الماضي الجميل يدور ويدور بلا انقطاع، يبحث عن قصة في عمق الذاكرة في زحمة العمل والانشغال. وددت لو أن حضني كبير كي اضم “كرم الزيتون” بناسه صغيرهم وكبيرهم شباباً وشباناً شيباَ وعجائز. هؤلاء أهلي وعشيرتي وملجأي بعد الله عز وجل. لوكانت القبور مستباحة في المناطق لكنت اول المدفونين في “كرم الزيتون” حيث سعادتي وفرحي وراحتي هناك. عشقي لرمضان من خلال عشقي لأهل “كرم الزيتون ” البررة الطيبون ، كانوا يتزاورون فيما بينهم في هذا الشهر ولا تهدأ حركة الزيارات بين الجيران الا في ساعات متاخرة من الليل ، ام فلان تحمل طبق من القطايف لجارتها وتلك تحمل الكلاج وهكذا حركة متبادلة طيلة الشهر الكريم ، وهكذا تجتمع العائلات على الصدق والمحبة والخير . كنا أطفال نرافق امهاتنا في زيارة جيران. لله در هذا “الزاروب” كم جمع من السفرة الكرام البررة المحبين لله ولرسوله وبيروت .. الفاتحة عن ارواح ممن فقدناهم من الاحباب والاصدقاء ان الله سميع مجيب الدعوات الصادقة.
احدى أمسيات رمضان الرائعة حضر احد المشايخ من آل الكوسا وهو زاهد متعبد يحمل بيده شنطة مهترئة لاتفارقه أبداً اينما حل. ونزل وأخرج منها كراساً يقرأ على الحاضرين فحواه. جلس في باحة خالي الرائد في الجيش عبد الحميد سلام وسط الجيران والمؤمنين الذين هبوا لسماعه حال وصوله . افترشنا ساحة البيت ، النساء في زاوية الساحة تحت شجرة التوت والرجال عند أقدام الشيخ يستمعون لحديثه العذب الشيق والمثير . تحدث الشيخ الجليل عن اهوال يوم القيامة، ويومها سمعته يقول أن هناك عذاب في الدنيا قبل الاخرة للذين عثوا في الارض مفسدين. كان ذلك رداً على سؤال لأحد الحاضرين. واضاف ايضاً جملة ارتعشت منها أوصال الرجال وعلا صريخ النساء يومها اذ قال: ” الله يسترنا من الحريق والغريق والمخبى عالطريق” ، فقال أحدهم اأما الحريق والغريق عرفناها ولكن ماهو “المخبى عالطريق” أيها الشيخ الجليل؟ فقال بصوت جهوري: في قادم السنين لو بقينا أحياء سنشهد دماء كثيرة (لعله يقصد الحرب اللبنانية) . كنت أسمع كلمات التهليل والتكبير عقب كل جملة يقولها . كذلك حضر يومها المنشد الشيخ صلاح يموت الذي أبهرنا بصوته الكرواني الجميل في مدح النبي المختار وفي ختام السهرة وزع علينا كنافة بجبن من عند محلات خالد اخوان برج ابي حيدر.
لأولِ مرة أجد قلمي جافاً. أشحذ مداده، وأستجدي خطاه ليحاول وصف زمن جميل كوني لن أوفيه حقه. هذه بيروت وقد ظللت أياماً وليال أبحث عن كلمات ترتقي إلى مستوى محبتي لهذه المدينة العريقة فلم اجد تلك العبارات المناسبة تفي حقها . عندما أبحث في كراس الصور القديمة أعثر على صور باهتة باللونين الاسود والابيض ، أمعن النظر فيها طويلا، أحن الى ماضيها وأتمنى اختراقها لأعيش تلك الايام الخوالي الجميلة. ولكنني اصطدمت بحاجز الزمن والماضي.عشت رمضان بكل ظروفه ، في زمن السلم وزمن الحرب ، شتاء وصيف. رمضان زمن الاجتياح له لون آخر . كنا نترقب مدفع الافطار بشغف حيث لاماء سوى سبيل بيت فتحة ولا كهرباء سوى الشموع وبطارية السيارة نضيء بها تلفزيون صغير. نفترش الارض أمام الزاروب بالحصر ونحضر ماتيسر لنا من الطعام والشاي مع شباب الحي ونتشارك في كل شيء… صلاح الشوا وخالد الزعرت ودرويش سلام ، وكنت اذهب شخصيا الى راس النبع لشراء لوح ثلج مغلف بكيس من الخيش لحفظ برودته ثم نضعه في برميل ماء كبير فيبرد فنوزع على الجيران ماء مثلجا. ورغم كل الظروف التي مررنا بها بقينا افضل حالاً من الوقت الحاضر لان قلوبنا كانت واحدة تجمعنا العشرة الطيبة والجيرة الطيبة. كلمة اوجهها لاهلي في كرم الزيتون (أحبكم من كل قلبي).
________
*كاتب قصصي/ صديق جمعية تراث بيروت