لما كانت الأيام العشرة الأولى من شهر رمضان شاقّة على الصائمين لأن فيها التبديل الكليّ لنظام المعيشة والطعام، قالوا في اليوم العاشر «إذا عشّر بشّر»، فان العشر الأواخر منه شاقة أيضاً ولكن لسبب آخر يتمثل في الحزن لقُرب رحيل الشهر وألم فراقه. ومن هنا نشأت فكرة الاستعداد لرحيله وتوديعه بالحفاوة والتكريم وبمثل ما استقبل به من بهجة وسرور وترحيب. ولا يخفى ما في الوداع من غصّة حزن ورنّة أسى. وللعشر الأواخر مكانة خاصة في نفوس الصائمين. جاء في أمثال العرب قولهم «وقع رمضان في الواوات» يريدون انه جاوز العشرين فلا يذكر بعد اليوم العشرين إلّا بواو العطف: واحد (و) عشرين, اثنين (و) عشرين الخ.. وكذلك قولهم «وقع الشهر في الأنين» مرادهم انهم يقولون فيه أحد وعشرين وثاني وعشرين، فيكون الأنين فيه. ومن أمثال عامتهم «إذا وقع رمضان في الأنين خرج شوال من الكمين».
ليلة القدر خير من ألف شهر
من المتفق عليه ان ليلة القدر هي في العشر الأواخر. وقد سُمّيت كذلك لعظمها وشرفها وقدرها، وقيل سمّيت بذلك لازدحام الملائكة فيها حتى تضيق عليهم أو لأن للطاعة فيها قدراً عظيماً والله أعلم. وذكر أن من أراد أن يعرف ليلة القدر فلينظر الى غرّة رمضان فان كان يوم الأحد فليلة القدر ليلة التاسع والعشرين، وان كان يوم الإثنين فليلة القدر الحادي والعشرين، وان كان يوم الثلاثاء فليلة السابع والعشرين، وان كان يوم الأربعاء فليلة تسعة عشر، وان كان يوم الخميس فليلة الخامس والعشرين، وان كان يوم الجمعة فليلة سبعة عشر، وان كان يوم السبت فليلة الثالث والعشرين، وقيل ان الحكمة في إخفائها ليكون الإنسان متيقظاً مواظباً على الطاعات مجتهداً في التماسها. وفي ليلة القدر في بيروت كانت تفتح أبواب الحجرة التي كان موضوعاً فيها الأثر الشريف في الجامع العمري الكبير ، فيحضر الوالي والأعيان والجمهور للتشرّف بزيارة الأثر للتبرّك. والأثر هو ثلاث شعرات من اللحية النبوية الشريفة أهداها السلطان العثماني الى بيروت وقد وصلتها في شهر رمضان سنة 1278هـ/ آذار 1862م وخصصت لها الحجرة الكائنة في الجهة الغربية الجنوبية من الجامع العمري.
قصائد في وداع شهر رمضان
ألّف الشعراء في مدن الشام والحجاز والمغرب قصائد في فضائل شهر رمضان كانت تنشد بعد صلاة العشاء آخر أيام الشهر. قال علي بن محمد وفا (759-807هـ) صاحب «إسقِ العِطاش» من المؤلفات «الباعث على الخلاص من سوء الظن بالخواص» فيمن بكى رمضان:
بكى رمضان أقوام وقالوا
مضى شهر السعادة والغنائم
فقلت دعوا البكاء فإن بقيتم
على التقوى بقي رمضان دائم
وجد في مكتبة الأسكوريال في اسبانيا مخطوط يحمل عنوان «وداع شهر رمضان المعظّم» حَوَى عدة قصائد منسوبة لابن الجوزي المتوفى سنة 1200م منها قوله:
لهفي على شهر الصيام الفاضل
ولّى وأصبح كالخيال الحائلِ
ولّى سريعاً وانقضى فكأنه
أحلام نوم أو كظل زائل
التوحيش وإبطال البدع والقبض على مطلقي الرصاص
شاعت في بيروت أواخر القرن التاسع عشر «عادة التوحيش» من الوحشة التي يشعر بها الصائم لمفارقة شهر الصيام. وكأنما قد أصبحت هذه العادة من لوازم الصيام. وقد حصل جدل في حينه بين الشيخ عبد القادر قباني صاحب جريدة «ثمرات الفنون» ومحمد رشيد الدنا صاحب جريدة «بيروت» حول العادات التي كانت تمارس في العشر الأواخر. وصار التحذير من المفاسد التي تترتب عليها بسبب اجتماع الناس رجالاً ونساء في الليالي ولأن ذلك كان يؤدي الى التشويش على الذين يعتكفون في المساجد. ودعت «الثمرات» الى نبذ هذه العادة السيئة وما جرى في المآذن من الزينة وإنشاد القصائد والموشحات بأصوات مطربة وألحان معجبة. فيما رأت صحيفة «بيروت» بأن التوحيش والتوديع كان بمرأى من الحكومة وأن هذه لو رأته مخالفاً لإرادتها ومبايناً للمراسم الشريفة لما تغافلت عنه وأن ما وقع تلك السنة (1886م) لا يوجب سوء الظن. ويلفت النظر ما كتب في حينه من أن الدولة العثمانية سنّت للمؤذنين الإعلام بيوم الجمعة ثلاث مرات في المآذن، وسنّت لهم التوديع في الليالي الأخيرة من رمضان وأمرت المؤذنين بأن يكثروا من التسبيح والتهليل وإنشاد قصائد المديح النبوي. وسُئل العلماء في تلك السنة عن شرعية ما كان يحصل من البدع مثل انتقاء أصحاب الأصوات الرخيمة وإصعادهم الى منارات المساجد وإيقاد المصابيح أمام المساجد مع الألعاب النارية مما يستدعي اجتماع الناس رجالاً ونساء في الساحات والسطوح للفرجة والطرب وخلط التسبيح والتهليل بالأناشيد الغزلية. وقد أصدر مفتي بيروت في حينه الشيخ عبد الباسط الفاخوري رسالة للتحذير مما يحصل من بدع في العشر الأواخر. وقد نجحت الحملة على البدع المذكورة، فأحيا أهالي زقاق البلاط والباشورة تلك الليالي المباركة في تلاوة الكتاب العزيز ونبذوا البدع. ويبدو أن بعض البدع عاد للظهور أوائل القرن العشرين، فصدر سنة 1909م البلاغ الآتي «بلغنا أن البعض قد اعتاد على إطلاق الرصاص في ليالي أواخر رمضان. وبما أن هذا الأمر يسبب محاذير عديدة وهو ممنوع شرعاً وقانوناً… فقد تقرّر أن كل إنسان يطلق الرصاص في الليالي المذكورة أو في أيام العيد تقبض عليه الدورية حالاً ويرسل الى دار الحكومة».
بيان صدقة الفطر «الفطرة» والتحضير للعيد
وبما انه يسنّ إخراج صدقة الفطر قبل صلاة العيد فكانت المحكمة الشرعية تصدر آخر شهر رمضان بياناً بقيمتها من التمر والزبيب والدقيق بأنواعها الثلاثة العالي والمتوسط والأدنى. وفي العشر الأواخر يتم التحضير لعيد الفطر. والارتباك الذي يحصل قبل ثبوت هلال شوال أكبر مما يحصل عند ثبوت هلال رمضان. لأن للعيد متطلبات وتحضيرات لا يمكن تأخيرها كحمام العيد وتزيين الأكفّ بالحناء وإعداد حلو العيد وإنجاز اللباس الجديد والحذاء العتيد وتحضير الأراجيح. وينهمك أفراد الأسرة في الساعات التي تسبق العيد كل فيما يعنيه. فالنساء يبادرن الى تنظيف الدار – تعزيلة العيد – والصبايا يشتغلن بتحضير الحناء لنقش كفوفهن وذلك بلف خيوط حول أصابع اليدين والرجلين لمن ترغب، ثم تضخ بالحناء وفي اليوم التالي يتحوّل لون الحناء الأحمر الى السواد فتفك الخيوط وتبقى آثار الألوان في زخرفة جميلة. ومن أمثال عامتنا: «صامت يوم وليلة وتخططت للعيد». وكانت خياطة الحي تبقى ساهرة ليلة العيد لإنجاز الثياب فقيل: خياطة بنت أبو النصر من على بكرة للعصر.
– جحش العيد: يحرص الأولاد على تأمين أحذيتهم الجديدة «صرماية العيد». وانتظارهم بلهفة «جحش العيد» ويعنون به اليوم الذي يلي أيام العيد. ويعود الأصل في ذلك الى عادة كانت معروفة قديماً، إذ كان يخرج قبل العيد بيومين رجل سخرة معه حمار مدرّع بالودع والخرز الملون والأجراس يستجدي الناس بالرقص والغناء ويضحكهم بحركاته وحركات حماره يقال له «جحش العيد». ويبدو ان شخصاً آخر قلّد صاحب الجحش المذكور ونقل نمرته وتمثيليته من الأيام السابقة للعيد الى اليوم الذي يلي أيام العيد فأطلق على هذا اليوم الأخير «جحش العيد».
– المقروضة: كان حلو العيد يسمّى «المقروضة»، تُصنَعُ بفرك السميد (أو الدقيق) بالسمن أو بالزيت والماء، وبِـمَدّ طبقة من العجينة في الصدر وفوقها مَدّ طبقة من عجينة التمر المليَّنة بقليل من الزيت، ثم وضْع طبقة ثانية من السميد فوقها وتُقطّع بقالب خشبي بشكل متوازي الأضلاع، ويتم قطع الزائد من السميد حول القطعة بالمقراض أي المقص (من هنا تسمية «مقروض») ثم تقلى بالزيت أو تُخبَز بالفرن وتُغَطس حارَّة في القطر. وهذه الحلوى قد تكون وصلتْنا من عاداتٍ في تونس التي تسمّيها «المقروض» وتفخر بها وهي من أطيب حلاواتهم. قال ابن أبي دينار عنهم «عجبت لمن في بيته المقروض كيف ينام الليل».
الوالي أحمد باشا يقرّر سنة 1862 نصب الأراجيح في أعياد المسيحيين
كان العيد فرصة ينتظرها الأولاد للإنطلاق في لهوهم ولعبهم وصرف ما جمعوه من قروش وبارات ومتاليك من المعايدات. ويصار في آخر رمضان الى نصب قلّابات وأراجيح في ساحة عصور.وجاءت أقدم إشارة لنصبها في بيروت عندما وقع الأمير محمد الأخ الاكبر للأمير بشير الشهابي الكبير عن هذه القلابات سنة 1767م ولاقى حتفه. ويظهر ان استعمال القلابات والأراجيح اقتصر على أعياد المسلمين حتى سنة 1862م عندما صدر أمر أحمد باشا والي إيالة صيدا بنصبها في أعياد المسيحيين أيضاً لتنزيه أولادهم فجرى ذلك في أيام عيد الفصح.
وكان المجلس البلدي في بيروت يؤجر ساحة عصور (السور) لأصحاب الأراجيح أيام العيد عن طريق التلزيم (ولكن بشفافية؟). وجرى في حوادث سنة 1890م إبطال استعمال القلابات والأراجيح في الاستانــة (أي اسطنبول) وكذلك في بيروت، إلّا انها بقيت تنصب في العشر الأواخر وأيام العيد بين العطفات. ويحفظ كثير من المخضرمين أجزاء من الأغاني التي كان يرددها الأولاد أثناء تأرجحهم ولازمتها: «يا ولاد محارم يويو..»، وفي سنة 1909 لفت الشيخ أحمد طبارة أنظار المسؤولين الى ما يحدث في ساحة السور من الأمور المغايرة للشرع والقانون من لعب القمار والتبرّج والتهتك ونحوه لافتاً الانتباه الى محلات الحرج التي نقلت إليه بعد ذلك الأراجيح وصندوق الفرجة وباعة الملبس والكبيس الخ..
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت.
ملف “أوراق بيروتية” 61