عثرتُ في موقع “الأرشيف السرّيّ لمدينة جنوى” (أو جنوة Genoa) الإيطاليّة على وثيقة قديمة تعود إلى سنة 1221 تحتوي على معلومات قيّمة حول بيروت في عهد الفرنجة. تذكر الوثيقة الامتيازات التي منحها يوحنا إيبلين Iohannes de Ibelino، صاحب بيروت، لأهل جنوى مثل حريّة التجارة وإعفاءات ضريبيّة والحقّ في تطبيق قوانينهم في محكمة خاصّة وحقّ الاستخدام الحصريّ للحمّام العامّ يومًا في الأسبوع، بالإضافة إلى ضمان سلامة الجنويّين في حال تحطّم إحدى سفنهم أمام شواطئ بيروت.
قبل تقديم الترجمة الكاملة للوثيقة (وهو ما لم يقم به أحد من قبل، على حدّ علمي) أودّ الإشارة إلى أنّ مدينة جنوى، عدا كونها الموطن الأصليّ لعائلة أمبرياكو التي كانت تحكم آنذاك جبيل، كانت قد أقامت علاقات تجاريّة مع مدن عديدة على الساحل الشرقي للمتوسّط ونجحت في الحصول على امتيازات من عدّة إمارات ومدن خاضعة للفرنجة مثل أنطاكية وطرابلس وصور وعكا. أشيرأيضًا إلى أنّ الطرفين قاما بعد سنتين من تاريخ الاتفاقيّة الأولى، أي في عام 1223، بعقد اتفاقيّة ثانية منح فيها صاحب بيروت الجنويّين إعفاءات ضريبيّة أخرى، باستثناء الرسوم على النبيذ والزيت والقمح، كما وهبهم ملكيّة فرن “في الحرش المطلّ على الأسوار”. وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ جنوى قرّرت عام 1222 ترسيخ علاقتها بأسرة إيبلين، التي حكمت بيروت لمدّة سبعة وثمانين عامًا (من 1204 إلى 1291)، بعد أن اختلف تجّارها مع أهل مدينة بيزا القاطنين في عكّا فقرّروا تحويل تجارتهم ورساميلهم من تلك المدينة إلى بيروت.
ترجمة النصّ عن الأصل اللاتينيّ
بسم الآب والابن والروح القدس، آمين
فليكن معلومًا للجميع، حاضرًا ومستقبلا، أنّني أنا، يوحنّا إيبلين، صاحب بيروت بنعمة الله، أهب وأمنح وأثبّت لجميع الجنويّين ومن يُسمّون بالجنويّين الحرّيّة في بيروت في ما خصّ كلّ ما يأتون به إلى ميناء (1) بيروت ويرسلونه إلى بيروت بأن يكون معفيًّا من كلّ الحقوق والأعراف (2)؛
وإذا ما أرسلوا هذه الأشياء إلى ميناء بيروت وأرادوا بعد ذلك إخراجها من الميناء، فليكونوا أحرارًا ومعفيّين من جميع الحقوق والأعراف؛
وبشكل مماثل، فإنّ جميع البضائع التي يكونون قد أشتروها في بيروت ويودّون إخراجها من الميناء تكون معفيّة من جميع الحقوق والأعراف، ومن حقوق الأطراف الأخرى في أيّ مركب يستعملونه لذلك الغرض؛
وتلك البضائع التي يأخذونها من منطقة بيروت وكلّ مراكب الجنويّين التي ترسو في بيروت فلتكن حرّة ومعفيّة من حقوق الرسوّ؛
كما أهب وأمنح الجنويّين المذكورين أعلاه ومن يُسمّون بالجنويّين محكمة حرّة في بيروت كما هو حالهم في عكّا وصور ومملكة القدس؛
كما أهب على حالها المنازل التي كان روبالدو كورفو قد امتلكها واحتفظ بها، في عيد القدّيسة بربارة العذراء؛
كما أهب وأمنح أبناء جنوى أنفسهم ومن يُسمّون بالجنويّين يومًا واحدًا في الأسبوع للاستحمام في الحمّام الواقع قبالة القلعة، وذلك في أيّام الخميس؛
وإذا ما ارتكب بعض أهالي جنوى جرائم ضدّي، أو قاموا باختطاف أحد رجالي خلال إبحاره، فليس من حقّي الردّ بالمثل ضدّ أيّ كان من أهل جنوى، لا في أملاكه ولا في شخصه، سوى المذنبين؛
وإذا ما تحطّمت سفينة من سفن جنوى في بلاد بيروت، فلتكن السفينة وجميع من كان عليها من رجال وأغراض في أمان وسلام؛
إنّ هذه الحريّة المذكورة أعلاه، والعطيّة والامتيازات، قد قدّمتُها للجنويّين المذكورين أعلاه ولمن يُسمّون بالجنويّين بحضور السير فيليبوس إمبرياكوس والسير أميكوس ستريابورشي، اللذين كانا حينها قنصلين في بلاد سوريا؛
ولكي تظلّ كلّ هذه الأمور المكتوبة في هذا الامتياز ثابتة ومُصادق عليها إلى الأبد، أمرتُ، أنا يوحنّا إيبلين، صاحب بيروت المذكور أعلاه، بمنح الامتياز شخصيًّا ومهرتُه بختمي الرصاصيّ.
والشهود على هذا الحدث هم رينالدوس دي ميمارس، وتوماس دي أورتيل، وتيريكوس بريبان، وكليمنس دي جيبيلي، وماثيوس دي نيفين، وجيراردوس ليشي، وغاوتيريوس هارديل، وهنريكوس ليبنغر، وسيمون غريمود.
صدر عام ١٢٢١ من تجسّد ربنا، في شهر تشرين الثاني.
________
(1) الكلمة اللاتينية الواردة في النصّ هي cathena في إشارة إلى السلسلة التي كانوا يغلقون بها الموانئ في الماضي والتي أصبحت في ما بعد مرادفة لكلمة ميناء.
(2) الكلمة اللاتينية هي consuetudine وتعني العُرف، في إشارة إلى الضرائب والرسوم غير المحدّدة كتابةً.
*كاتب وصحافي/ عضو لجنة البحوث التاريخية في جمعية تراثنا بيروت.