قلت وأقول بأن ما كُتب عن علماء بيروت وأعلامها لا يحيط بما قدّموه. الصحيح ان بيروت تعرّضت في تاريخها البعيد والقريب لنكبات شتّى من زلازل هدّمت بيوتها وشرّدت أهلها، ومن غزوات واعتداءات من أساطيل الفرنجة قديما ومن أساطيل اليونان والروس والطليان حديثا، الى مختلف أنواع الأوبئة والطواعين التي فتكت بشبابها وشيبها إلا ان الصحيح أيضا ان تلك المحن صرفت البيارتة عن حفظ تراث أعلامهم. ومثلما دفعت حفريات وسط بيروت الأرض الى إخراج أثقالها وعادياتها، قام بعض العلماء بالبحث والتنقير في مختلف مكتبات العالم ما أدّى الى اكتشاف جواهر مطموسة. بعد هذه المقدمة التي قد تقولون انكم في غنى عنها وأقول انه لا بد منها، فهذا المقال وفاء لمن يعمل لإحياء تراث بيروت الثقافي وعلى رأسهم الصديق محمد ابن المرحوم الشيخ عبد الله الشعار الذي عثر على أوراق عائدة لمكتبة مفتي بيروت وابن مفتيها الشيخ عبد اللطيف فتح الله المفتي نلقي الضوء عليها في هذا المقال.
رسائل الشيخ عبد اللطيف فتح الله
يمكن القول بأن ما عُرف من تراث مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله لا يشمل ما كتبه وما نظمه، ففي ديوانه ان آخر قصيدة نظمها كانت سنة 1237هـ في حين انه توفي سنة 1260هـ. وللمفتي فتح الله ديوان شعر بقي مجهولا لأكثر من مائة عام حتى تسنّى للمرحوم زهير فتح الله إخراجه الى النور بمساهمة من المعهد الألماني في بيروت. وأرفق بها ثلاث رسائل هي درر التحقيقات في تسمية الله تعالى بالشيء والذات، وقد وضعها في 23 رجب 1233هـ/ 1818م بناء لطلب متسلم بيروت في حينه علي آغا أبي المصباح. ومسك الأقلام في أن السودان من أولاد حام. ومنها الزلال المسلسل في بحر السلسل. وكنا قد عثرنا على رسالة له بعنوان «فتح الشباك الكاشف على الجيران وسدّه وعمل الساتر له» كتبها أثر نزاع بين محمد البربير وأحد جيرانه حول فتح شباك مُطلّ على داره نشرناها في كتابنا «حقوق الجوار في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية».
النفحات المسكية في شرح الأبيات العلوية
للمفتي فتح الله رسالة مجهولة أرشدنا إليها المفتي الشيخ أحمد الأغر في ديوانه، وقد قرظها بمقدمة نثرية مطوّلة قال فيها بعد البسملة «الحمد للّه الفتاح العليم الكريم الوهاب، المانّ على من شاء بفضله العميم ووفقه للسداد والصواب، المتفضل على من أراد بالعقل السليم وكشف له عن الغوامض الحجاب… وبعد، فقد اطّلعت على هذا الشرح النفيس مع مشروحه من الأصل والتخميس وأجلت في ميدانه جواد الخاطر، وأكحلت بأثمد محاسنه الناظر، وحلّيت جيد السمع بقلائد فرائده واقتبست من نور فوائده… كيف لا وقد صدر من صدر من هو صدر في البراعة، وفارس ميدان الفصاحة، ومن بحرِ من هو بحرٌ في البلاغة والراجح في ميزان الرجاحة… شيخنا الأفخم وأستاذنا الأكرم السيد عبد اللطيف أفندي فتح الله مفتي مدينة بيروت المحروسة، ذات الرياض المأنوسة… وقد اعتنى حفظه رب البريّة بفتح كنوز الأبيات العلوية وبنشر رموزها المطوية… فأبرز منها كنز الدقائق وفتح منها عيون الحقائق فجاء بما تفجّرت منه ينابيع الأدب واستحق أن يكتب على ورق بمواد الذهب، وأيّم الله لو رآه المتنبي لادّعاه وقال حسبي. ولو اطّلع عليه إياس لأذعن بالإفلاس ولو أبصره سحبان لحكم بأنه لمقلة البديع هو الإنسان. ولو شامه من عبر في الورى لقال كل الصيد في جوف الفرا:
وعذراً لمثلي يا أخا الفضل انني
أتيت بعذر شاهدي فيه تقصيري
ولم يكُ بخلاً لي بعدّ صفاتكم
ولكنما الإفلاس يقضي بتقتيري
وأتبع الأغر تقريظه النثري بمدح المفتي فتح الله بأبيات مطلعها:
شدّوا الرحال ذوي الفهوم وسارعوا
للعلم فيما قد أجاز الشارع
من بحر علم كامل ما مثله
في عصرنا ما للمحيط مضارع
بيروتنا ما غيره لخروقها
عند اتساع يا همام راقع
الباقي من مكتبة المفتي فتح الله ومن شعره
بقي من مكتبة المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله كتاب «دليل الفالحين لطرق ريّاض الصالحين» تصنيف شيخ الإسلام وعمدة العلماء الاعلام خاتمة المحدثين سيدي الشيخ محمد بن علان الصديقي قدّس سرّه. كتب عليه «دخل في ملك فقير عفو مولاه السيد عبد اللطيف فتح الله غفر له بالشراء الشرعي 1212هـ». وكتب في بعض الأوراق أبياتا متفرقة منها «قد جمع كاتبه الفقير إليه تعالى السيد عبد اللطيف فتح الله آيات سيدنا موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام قوله:
آيات موسى التسع فهي يد وعصا
جراد وطوفان وطمس على المال
وجدبٌ بواديهم دمٌ ثم قمل
ضفادع فاحفظها بذهنك والبال
وأورد تخميس بيتين:
بمن ارتجى المكرب كشفاً ولا أرى
سواك رسول الله يا عالي الذرانبي لم يزل يشهد كربي بلا امترا
نبي الهدى قد ضاق بي الحال في الورى
وأنت بما أملت فيك جدير
أزل سيدي عن عبدك اليوم حزنه
بكرب ثقيل الحمل أوجب وهنه
فإنك مولى يدرك الدهر قنه
فسلْ خالقي تفريج كربي فإنه
على فرجي دون الأنام قدير
«قال ذلك بفمه ورقمه بقلمه العبد الفقير إليه تعالى عبد اللطيف فتح الله غفر له».
قصيدة العقد
وردت في ديوان عبد اللطيف فتح الله ص.999 قصيدة العقد. ويبدو ان النسخة الأصلية للقصيدة كانت بخط الناظم وهي تختلف قليلا عن القصيدة المطبوعة جمعها مع مقدمة نثرية طويلة لها في رسالة خاصة تحت عنوان «هذه القصيدة المسماة بالعقد نظم العبد الحقير للّه تعالى السيد عبد اللطيف ابن المرحوم الشيخ فتح الله غفر الله تعالى لهما ولوالديهما ومشايخنا ومشايخ مشايخنا ولكل المسلمين أجمعين وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات وذريته واتباعه… الى يوم الجزاء والدين آمين آمين آمين». ويقول في مقدمة نثريه كتبها سنة 1236هـ «طلب مني بعض الأعزّة عليّ من قرابتي المقرّبين لديّ أن أنظم قصيدة أتوسل وأتشفّع فيها بكل ما تذكره فيها… وأدعو فيها بالنصر والتأييد لحضرة مولانا السلطان…»، بينما يذكر في الديوان انها نظمت أواخر محرم الحرام سنة 1237 بناء «لطلب افتخار السادة الأشراف الكرام زين الاماجد الفخام اللوذعي الأديب الألمعي الحاذق الاريب السيد عبد الرحمن جلبي ابن المرحوم السيد إبراهيم البربير أن أنظم قصيدة أتوسل فيها بسورة الكلام القديم القرآن العظيم وبالمعروف أسماءهم من الأنبياء والمرسلين…»، وتنتهي القصيدة كما ورد في الديوان المطبوع.
قصيدة غير منشورة للمفتي فتح الله في مدح سيد الكائنات.
إلّا ان مفتينا كتب بعد ختام نسخته الخاصة ان بعض الأعزّة عليه من قرابته أطلعه على قصيدة لبعضهم في مدح سيد الكائنات… سيد ولد آدم، وطلب منه نظم قصيدة من عروضها وضربها ورويها فأجابه ونظم قصيدة مطولة (سوف ننشرها كاملة فيما بعد) جاء فيها:
ألا يا أجلّ الرسل والأنبياء
ويا سيد السادات والشفعاء
ويا صفوة الله العظيم جلاله
ويا نعمة المولى الجليل العطاء
ويا رحمة الرحمن للخلق كلهم
وشافعهم حقا يوم الجزاء
ويا من هو النور الذي منه كوّنت
عيون الورى والخلق دون امتراء
وكان نبيا قبل أن كان آدم
وآدم فيها بين طين وماء
وأرسله مولاه للخلق كلهم
بشيرا نذيرا خاتم الأنبياء
وأيّده بالمعجزات أدلّة
على بعثه حقا بدون افتراء
ومنها كتاب الله وهو أجلّها
كلام قديم يعجز البلغاء
قد عجزوا عن أن يجيوا بمثله
وهم حينئذ من أفصح الفصحاء
وقام بأمر الله يدعو لدينه
وأظهر هذا الدين بعد الخفاء
ويا من به أسرى الإله بليلة
الى المسجد الأقصى نعم والسماء
الى الرفرف الأسمى الى المستوى كذا
الى عرش رب العزّ والكبرياء
الى حضرة الرحمن حضرة قدسه
فكان كقاب القوس دون مراء
وخاطب مولاه العظيم كماله
وأثنى على مولاه أسنى ثناء
وشاهد مولاه وقد خرّ ساجدا
وناداه مولاه أجلّ نداء
وقال له سلْ تُعطِ واشفع محمد
تشفع وأولاه قبول الرجاء
وأولاه بالسبع المثاني تفضّلا
وأولاه رفع الذكر دون امتراء
عليك صلاة الله ثم سلامه
بكل صباح بل وكل مساء
مدى الدهر ما شمس النهار لقد بدت
وألبست الآفاق ثوب الضياء
وما الفتح يا مولاي أبدى بمدحه
عليك أجلّ الرسل حسن الثناء
وناداك في كل الأحايين قائلا
ألا يا أجّل الرسل والأنبياء
مخطوط محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي
من أهم ما عثر عليه من أوراق المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله نسخة مخطوط لكتاب «محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي»، وقد سبق وأثبتنا في كتابنا (زوايا بيروت) ان نسخة من هذا الكتاب عثر عليها الأمير شكيب أرسلان في مكتبة برلين فصوّرها وطبعها سنة 1352 وهي بخط الشيخ زين الدين بن تقي الدين بن عبد الرحمن الخطيب نسخها في 14 جمادى الأولى سنة 1048هـ/. بينما تتميّز نسخة المفتي فتح الله بأنها كُتبت بيد مؤلفها، فقد جاء في خاتمة الكتاب «سمّيته محاسن المساعي في مناقب الإمام الأوزاعي، وكان الفراغ من تأليفه في خامس عشر شهر الله المحرم سنة خمسين وثمانماية». يلي ذلك «تمّت كتابته بحمد الله وحسن توفيقه من نسخة بخط الفقير الى الله تعالى أحمد الخطيب بن عمر ابن ناصر الدين ابن فضل الله الدمشقي المقدسي الحنبلي وهو تلميذ المصنف أبقاه الله تعالى على يد أضعف عبيد الله وأحوجهم الى مغفرته ورضوانه محمد بن أحمد الرهاق بصفد المحروسة غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والحمد للّه رب العالمين». كما تختلف هذه النسخة عن نسخة أرسلان بمقدمتها في ختامها بما قيل شعرا في الأوزاعي، (لم يذكر تاريخ نسخه) ونرجّح انها كُتبت بعد سنة 1048 تاريخ نسخة أرسلان.
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراث بيروت
ملف “أوراق بيروتية” 65