(عن “العربي الآن”)
كتب خالد جهاد
يتساءل البعض أحياناً عن معنى كلمة (الرسالة) واقترانها بمهنة أو فئة أو طبقة، فالفنانون يؤمنون بأن الفن رسالة، والأطباء يؤمنون بنفس الفكرة كما يؤمن بها المعلمون..
ولكن الحقيقة الواضحة في زمننا الحالي وسط طغيان المادة ومعايير السوق والتسويق وزيادة عناصر (الإبهار) والسعي إلى الكسب السريع على حساب الكثير من المبادئ في كل المجالات تقريباً، هي أن كل المهن سامية أياً كانت حينما تقترن بشخصٍ يؤمن بدوره وبأنه يؤدي رسالةً بشكلٍ فعلي، فكل من يخدم الناس ويثري أفكارهم ومشاعرهم ويخرج أفضل ما فيهم ويحرضهم على أن يكونوا أشخاصاً أفضل أو يسعى لتطوير مجتمعه والحفاظ عليه هو بلا شك شخصٌ يقدم رسالةً سامية بعيداً عن المسميات والشكليات التي اعتدنا على الغرق فيها..
وعندما تجتمع الموهبة مع الذوق وحب الجمال والشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع والتراث والتاريخ مدفوعةً بعاطفةٍ جياشة تجاه الوطن، فإننا من المؤكد بحضور قلب يحمل رسالةً عظيمة، تؤديها بكل أمانة الفنانة وعضو الهيئة التأسيسية لجمعية تراثنا بيروت، المصورة اللبنانية انعام خالد..
فلا ينفصل جمال المشهدية عن مضمون الرسالة التي تحملها على عاتقها مع باقي أعضاء جمعية تراث بيروت، فنراها تنقل الوجه الجميل للعاصمة، ذلك الوجه الذي يختصر لبنان ويعد بمثابة بوابةٍ إليه من خلال منازله ومعماره، حيث لكل ركنٍ فيها حكايةٌ، فكل قطعة أثاثٍ تم اختيارها بعنايةٍ فائقة وتجانسٍ مع روح المنزل وثقافة أهله وفكرهم، وكل زاويةٍ أو نافذةٍ تم تنفيذها هي تحفةٌ معمارية تخفي وراءها قصةً طويلة عن سبب اعتماد هذا التصميم أو ذاك والمواد المستخدمة في تصنيعه، وعن ارتباطه بحقبةٍ زمنية وعوامل ثقافية واجتماعية عدا عن تأثرها بطقس مدينة بيروت والحالة التي تعيشها بين شدةٍ ورخاء أو حربٍ وسلم، أو كون بعضها مسكناً خاصاً أو عاماً أو بيتاً للضيافة، فالعديد من هذه البيوت توثق لجزءٍ مهم من تاريخ العاصمة وتاريخ لبنان ككل وتوثق لعلاقته وانفتاحه على دول الجوار في فلسطين وسوريا، كما أنها شاهدٌ على تنوع ثقافات أهل المدينة والتفاوت الطبقي ودرجاته..
تتنقل بنا كاميرا انعام خالد بخفةٍ ورشاقة بين مختلف مناطق بيروت بحثاً عن التاريخ فنراها تعمل في اتجاهين قد يبدوان متناقضين لكنهما يخدمان نفس الهدف، فنراها تنقل بمنتهى الحرص جماليات البيوت القديمة بغية لفت النظر إلى قيمتها كتراث مادي يجب حمايته والحفاظ عليه كونه جزءاً هاماً من تاريخ البلاد ويعد بمثابة مزارٍ سياحي يضم مزيجاً من الثقافات المتعددة، كما نراها أيضاً تسعى بإندفاعٍ وحماس مشحون بطاقة من الغضب لتسليط الضوء على البيوت والمباني المهجورة والمهملة والمتروكة في حالةٍ سيئة لا تليق بقيمتها المعنوية التي لا تقدر بثمن، في محاولةٍ منها ومن فريق جمعية تراث بيروت لحشد الدعم اللازم وإنقاذ هذا الإرث العظيم بأسرع وقت ممكن، خاصةً وأن بعض المباني تضرر بمرور السنوات وبعضها الآخر ازدادت حالته سوءاً بعد فاجعة انفجار مرفأ بيروت التي حدثت في الرابع من آب/أغسطس عام ٢٠٢٠، والتي شكلت حدثاً مفصلياً في تاريخ لبنان والمنطقة والعالم..
وتمتاز عدسة انعام خالد بالرقي والأناقة بشكلٍ ملفت، فنرى الكثير من الصور التي تسلط الضوء على قصورٍ منسية وتعاني من تردي أوضاعها تخرج بصورةٍ فنية راقية ومتميزة تحفظ لها رونقها وتضعها في إطارٍ كلاسيكي يزيد من تعلق القلب والعين بها، فالمصور والفنان الحقيقي هو صاحب رأي ووجهة نظر تتسرب إلى المتلقي وتحكي عنه مهما كانت المساحة التي يظهر من خلالها بسيطة، وهنا نستطيع أن نستشعر معنى الرسالة والمسؤولية التي يقدمها عندما يقرر أن ينتقي ويختار ما يقدمه للناس بحيث يلفت أنظارهم ويوجه مشاعرهم نحو كل ما هو سامٍ ورفيع، فيجمع بين الفن والجمال من جهة وبين القيمة والمضمون من جهة أخرى..
كما أن أحاسيسه وجزءاً من شخصيته ورؤيته تتجسد في كل عملٍ يؤديه، ووسط قلة الأسماء النسائية التي تحترف التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي تأتي موهبة المصورة اللبنانية انعام خالد لتضيف غنىً على صعيد الصورة والمعنى وتجعل الفن مرادفاً لما هو جميل وأصيل، وتوظف موهبتها في الحفاظ على التراث وإعادة تقديمه في أبهى حلة كحارسٍ له عندما يغفل عنه الكثيرون، مؤكدةً أن قلب بيروت قادرٌ على احتضان الجميع فاستحقت الحياة واستحقت أن تكون (ست الدنيا)..
رابط المقالة:
