الشَّخصيَّة التُّراثيَّة في الوجدان البيروتي (كاملة)

I. مفهوم الشَّخصِيَّة التُّراثِيَّة

تنبثقً الشَّخصيَّة التُّراثيَّة مِنْ تاريخ القومِ وتساهم في تشكيل واحدٍ أو أكثر من مفاهيمهم وقِيَمِهم الجَمْعِيَّة. إنَّها حضورٌ من تُراث الجماعة لسلوكٍ مُعَيَّنٍ، يُمثِّل معايير وتقاليد تُؤثِّر، بِحدِّ ذاتها، في حياة هذه الجماعة بما يحصل من قبول بها، أو رفض لها، أو حتَّى تعديلٍ في مسارات التَّعامل معها.

I I. ميزات الشخصيَّة المَدينيَّة

لأنَّ المدينة تَشْهَدُ اتِّساعا مكانِيَّاً وازدحاماً سُكَّانِيَّاً أكثر من القريَّة، فإنَّهاُ، وخاصَّة إذا ما كانت مدينة-مرفأ، عُرضَةٌ لتأثيرات جمَّة متعدِّدة الأصول والاتِّجاهات مختلفة القِيَمِ والمفاهيم. فالشَّخصيَّة المدينيَّة، عموماً، ليست محصورة بنمطٍ مَفهوميٍّ واحدٍ أو مُتقارب؛ بل هي ابنة قِيَمٍ ومفاهيم قد تكون متعارضة فيما بينها أو متباينة، بقدر ما بين المؤثرات الفاعلة في وجود المدينة من تنوُّع وتعارض وتبايُن. والشَّخصيَّة المدينيَّة في هذا المجال، وبسبب قابليَّة المدينة للتَّجاوب مع المتغيِّرات الاجتماعيَّة، قادرة على الخروج من النَّمَط الواحد الذي يمكن أن تتجلَّى به. إنَّها قابليَّة للخروج تتحكَّم بها قابليَّة المجتمع المديني للتغيُّر، وهي قابليَّةٌ عادة ما تكون سريعة وطبيعيَّة في آن.

I I I. الشخصيَّة والقناع

تتجلَّى الشخصيَّة التُّراثيَّة، غالِباً، ِبقِناعٍ فَرْديٍّ، تفرضه بذاتها أو تُكْسِبُها إيَّاه الجماعة؛ وعادة ما يتمثَّل هذا القناع بشخص مُحَدَّد يكون وجوده الحضور الأبرز للشخصيَّة في ضمير الجماعة.  فيصبح «القناع»، في هذه الحال، دافعاً محرِّضا لموقف سلبي أو إيجابي تتبنّاه الثَّقافة الجمعيَّة تجاه الشَّخصيَّة. ولكن عندما تكون الشَّخصِيَّة التُّراثيَّة متجليَّة عبر كَثْرَةٍ من النَّاس، بحيث يمكن لكل من هؤلاء أن يُمثِّلَ قِناعا لها، فإنَّ «القناع الفردي» يفقد حضوره، ههنا، لحساب المفهوم العام الذي يستحضره وجود الشَّخصِيَّة.

ثمَّة أنواع كثيرة للقِناع في هذا المجال، ولعلَّ من أبرز ما يمكن استخلاصه من بينها، عبر الملاحظة:

• «القناع الفردي» أو قناع الممارسة الفرديَّة المعيشة

يتشكَّلُ هذا القناع بالممارسة المَعيشَة للشَّخصيَّة التُّراثيَّة، بتوافقٍ جَمْعِيٍّ للنَّاس على فردٍ بِعَيْنِهِ مُمَثِّلاً لهذه الشَّخصيَّة، لاشتهار انطباق مفاهيمها وقِيَمِها على هذا الفرد وانتشار ذِكْرِهِ بين النَّاس عبر هذا الانطباق. ومن أمثلة هذا القناع، «عبيدو باشا الإنكيدار» قناعاً لشخصيَّة «القبضاي»، و«ناجي شهاب الدِّين» لشخصيَّة «الريِّس».

• «القناع الجَمْعي» أو قناع الصُّورة الجَمعِيَّة

يتشكَّل هذا القناع عبر صورة جَمعيَّة يؤلِّفها النَّاس فيما بينهم حول الشَّخصيَّة لحضورها المتعدِّد بين النَّاس وتمثُّلها بعدد كبير من الأفراد؛ فهو، تالياً، قناعٌ عام وليس قناعاً خاصَّا. ومن الأمثلة على هذه الأقنعة العامَّة ما يُقَدِّمُهُ واقعُ الحالِ مع شخصيَّات مثل «الجدع» و«الزِّكرت» و«الزْمِك» فضلاً عن «بنت البيت» و«السِّت».

• «القناع الإعلامي» أو قناع وسائل الإعلام

قناع تقدِّمُه وسائل الإعلام عبر تشخيص ما لها لهذه الشَّخصيَّة إما لغيابها عن الحضور المُشَخْصَنِ أو لغلبة الصُّورة الإعلاميَّة لها عند النَّاسِ على الصُّورة الحقيقيَّة. والجدير ذكره في هذا المجال، أن هذا النَّوع من الأقنعة قد يغيِّر من حقيقة الشَّخصيَّة التُّراثيَّة، فيظلمها في بعض المرَّات أو يُعطيها أكثر مِمَّا تستحقه في مرَّات أخرى؛  وِفاقاً لِمدىالجهد الإعلامي المبذول ونوعيَّتِهِ لصالح حضور هذه الأقنعة. ومن الأمثلة على هذا القناع شخصيَّة القبضاي التي قدَّمها الممثل الرَّاحل أحمد خليفة بقناع «أبو العبد البيروتي»؛ إذ إن حقيقة القناع الذي يقدمه «أبو عبد البيروتي»، ههنا، هي لشخصيَّة «الجَدَع» وليست لشخصيَّة «القبضاي» على الإطلاق.

IV. الوُجدان الشَّعبي

أ) تأطير

هو التَّفاعل الثقافي الشَّعبي الجَمعي مع موضوع ما؛ ويكون هذا التَّفاعل سلبيَّاً أو إيجابيَّاً؛ لكنَّه، وفي جميع الأحوال، يعبِّر عن الموقف الشَّعبي العام من الموضوع ويعمل على تأصيل الموقف منه في الموروث القِيمي الاجتماعي. وهذا لا يعني أن يكون الوجدان الشَّعبي متجاوباً مع الحقيقة التاريخيَّة الواقعيَّة للموضوع، بل إنَّه يتجاوبُ مع المفهوم أو الصُّورة اللتين صاغتهما الثَّقافة الشَّعبيَّة لموضوع ما. وغالباً ما يُصْبِحُ ذلك المفهوم أو هذه الصُّورة أشدَّ رسوخاً وقوَّة من الواقع التَّاريخي؛ الأمر الذي يعطي الوجدان الشَّعبي جوهر وجوده وسرَّ فاعليته وقوَّة نفوذه. فالوجدان الشَّعبي أقوى من الواقع التاريخي وأعظم تأثيرا؛ والوجدان الشَّعبي، وليس الواقع التَّاريخي، هو المسؤول الأبرز عن تحديد المفاهيم والقِيَمِ الشَّعبيَّة تجاه أي موضوع كان.

ب) الوجدان الشَّعبي والشَّخصيَّة التُّراثيَّة

يمثِّل هذا الوجدان الحقيقة الشَّعبيَّة الواقعيَّة والعمليَّة للشَّخصيَّة التراثيَّة؛ وهو بهذا التَّمثيل قد يكون خروجا أو تناقضاً مع الحقيقة الواقعيَّة التَّاريخيَّة؛ فلا رابط بين الاثنين سوى اسم الشَّخصيَّة التُّراثيَّة. ولذا، لا بدَّ، ههنا، من التَّفريق بين وجودين للشَّخصيَّة التراثيَّة؛ أحدهما تاريخي، وثانيهما وجداني؛ وإن تناقض هذا الوجود الأخير للشَّخصيَّةِ التُّراثيَّةِ مع وجودِها التَّاريخي أو اختلف معه.

ت) من مجالات ظهور الشخصية التراثية في الوجدان الشعبي لناس بيروت

بيروت الوجدان الشَّعبيِّ، مدينةٌ حديثة العهد إذا ما قيست بعراقة القاهرة أو بغداد أو دمشق أو حتَّى طرابلس الشَّام وصيدا. إنَّها مدينةٌ-ميناء بدأت تطوُّر نوعيَّاً وبسرعة لافتة، منذ قرنين ونيِّف، إلى مدينة مركزيَّة أساسيَّة في المنطقة برمَّتِها. وبحكم هذه السُّرعة في التطوُّر النَّوعي لهذه المدينة، فإنَّ بيروت شَهِدَت لشخصيَّات ظَهَرت في تُراثِها عبر ممارسة هذه الشَّخصيَّات لوجود أساس أو لافت في حياة المدينة-المرفأ. إنَّها شخصيَّات توزَّعت، بشكلٍ تقريبي، على أربعةِ مجالات أساسيَّة تعكس بوضوح موضوعيٍّ حياة طبيعة بيروت ومفاهيم ناسها، وتتجاوب مع كونِها مدينة-مرفأ تعيش على الأعمال الاقتصاديَّة المعتمدة بشكل واضح على أسس القوة والنُّفوذ والقدرة على العمل. ولعلَّ المجالات التاليَّة تُشَكِّل واحداً من أبرز تجليَّات الشَّخصيَّة التُّراثيَّة في بيروت، القوَّة والغَلَبَة.

إن بيروت، في الأساس والمبدأ التُّراثيين، ميناءٌ بَحْرِيٌّ؛ والعمل البحري، بحدِّ ذاته، يتطلَّب من العاملين فيه طاقة جسديَّة قادرة على تَحَمُّلِ أعباءَ نَقلِ البضائع من أرصفة الميناء إلى البواخر والعكس، فضلاً عن نقل هذه البضائع إلى خارج الميناء. ولا بدَّ لِمَنْ يُشْرِفَ على تحميلِ البضائع وتفريغها من قدرة إداريَّة تؤطِّر القوى والطَّاقات الجسديَّة العاملة بإشرافه، وتسخِّرها لخدمة عمليَّة النَّقل التي على نظامها مراعاة حماية البضائع المنقولة وسلامتها.

من جهة أخرى، فإنَّ بيروت، بحكم كونها من النَّاحيَّة التُّراثيَّة مدينة-ميناء، فإنَّ أحياءها ومناطقها، على صغرها، كانت بحاجة إلى من يعرف كيف ينظِّم هؤلاء الأقوياء من أبنائها ويضبط فاعليَّاتهم لمصلحة المدينة ومينائها.

من هنا، كانت القوَّة والغَلَبَة واحداً من أهم المجالات وأبرزها التي ظهرت عبرها الشَّخصيَّة التُّراثيَّة في بيروت. إنَّه ظهور فَرَضَهُ واقع العيش، وميَّزه هذا الواقع عن سواه؛ فهو مجال القوَّة والغَلَبَة والتمكُّن من الأمور. ومن هنا كانت شخصيَّات القوَّة والغَلَبَة والنُّفوذ الأكثر حضورا والأشدّ بروزاً في الوجدان الشَّعبي البَيروتي. لقد ظل البَيروتيُون يتناقلون أخبار شخصيَّات القوَّة والنُّفوذ طيلة عقود من الزَّمن، بل وحتَّى في الأزمنة التي ما عاد فيها لمثل هذه الشخصيَّات أن تمارس دورها التقليدي في الضَّبط والرَّبط والغَلَبَة، بعد أن ظهرت أدوات وتقنيَّات وتنظيمات جديدة لتحقيق هذه الأمور. ومع هذا، ظلَّ لشخصيَّات القوَّة والنُّفوذ والغَلَبَة حضورها المستمر في الوجدان الشَّعبي البَيروتيِّ حتَّى هذه اللحظة، مع قليل أو كثير من استمرار وهج البريق الواقعي لمثل هذه الشخصيَّات أو تحوير بعض ما قامت عليه من مفاهيم وصور.

**

مِن مظاهر القوَّة والغَلَبَة في الوجدان التُّراثي البيروتي

مجلس قبضايات بيروت في صورة من الأربعينات. من اليمين: راشد دوغان ـ خضر دريان ـ أبو فيصل شاتيلا ـ رشاد قليلات ـ حنا يزبك ـ أبو عفيف كريدية.

يظلُّ لشخصيَّات القوَّة والغَلَبَة حضورها المستمر في الوجدان الشَّعبي البَيروتيِّ حتَّى هذه اللحظة، مع قليل أو كثير من استمرار وهج البريق الواقعي لمثل هذه الشخصيَّات أو تحوير بعض ما قامت عليه من مفاهيم وصور.

1) القَبَضاي:

هو المسيطر على مجموعة من النَّاس والقادر على توجيه تحركاتهم وفاقاً لما يريد أو يقرر. ولعلَّ من الأصول التَّاريخيَّة لهذه الشَّخصيَّة، اعتماد الدَّولة على أصحابها في الإمساك بزمام أمور النَّاس في المناطق السَّكنيَّة أو بين المجموعات العاملة.

تمكن الإشارة، في هذا المجال، إلى أن لفظ «قبضاي» قد يكون مشتقاً من معاني «القبض» و«الغَلَبَة» عبر معاني الجذر (ق ب ض) في اللغة العربيَّة، ثم أضيفت إليه ملحقة «آي»، التي قد تكون سمة اصطلاحيَّة لرتبة معيَّنة أو صفة عسكريَّة أو تنظيميَّة محليَّة؛ خاصَّة وأن لفظ «آلاي»، يفيد في اللغة التَّركيَّة، معنى «فوج»، أو تنظيم جماعي، كما هو الحال، على سبيل المثال، في «أميرآلاي»، «رئيس مجموعة». يمكِّن، الاستدلال، تالياً، على أن «قبضآلاي»، وقد جرى تحريفها إلى «قبضاي»، تعني القابض على زمام مجموعة من النَّاس التَّابعين له، أو المنضوين تحت لوائه. وقد لا تكون الكلمة من صيغ الجذر (ق ب ض) العربي، كما قد يتبادر إلى الذِّهن، بل من صيغة للجذر العربي (أ ب ض) ومنه لفظة «أبض»، التي تُفيد الشَّد والإمساك والحركة.

وكيف ما دار الأمر، فالقبضاي، في الوجدان الشَّعبي البيروتي صار الرُّجل القوي المهاب الجانب المُمْسك بأمور جماعة من النَّاس؛ له عليها حق المَوْنَة ولها عليه حق النَّجدة والحماية والرِّعاية. ودخلت هذه الشَّخصيَّة الوجدان الجمعي في بيروت لتقدِّم صورة رجل صاحب نخوة متميَّزة وهمَّة متألِّقة باستمرار ورعاية لا تتوقَّف للمجموعة التي تلتف حوله وحتَّى للآخرين.

القبضاي هو النَّاصر في الصعاب والمنجِد في المُلِمَّات والقابض على زمام الأمور كيفما توجَّهت أو كانت. إنَّه ضمانة النَّاس من جهة وضمانة الآخرين، دولة كانوا أو سلطة جماعيَّة أو أي آخر كان، من جهة أُخرى. القبضاي مؤتمن على الحقوق، إلى أي جهة انتسبت؛ والمحافظ على الأصول المتوارثة والتَّقاليد المعترف بها من قبل جماهير النَّاس.

عرفت بيروت عدداً كبيراً من القبضايات، دخلوا وجدانها الشَّعبي من أعرض أبوابه، بمواقفهم المشرِّفة وأعمالهم البطوليَّة؛ كما كان لقسم منهم أن يحتل صدارة ما في الوجدان الشعبي بمحافظته على القيم الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة للجماعة ورعايتها. ومن الأمثلة على قبضايات بيروت عبيدو باشا الإنكيدار والحاج سعيد حَمَد ودرويش بيضون وعبد اللطيف النعماني (أبو طالب) ونخلة المجدلاني ومحمود الجنُّون (أبو سعيد) وعبد الغني الحلوة ورشاد قليلات. ولكلِّ واحد من هؤلاء شخصيَّة فرديَّة تميِّزه بسلوكها وتصرفاتها عن سواه من القبضايات، من دون ما تغاضٍ على الإطلاق عن ما يجمعه بهم في مجال «القبضنة»، إن جاز التَّعبير. فعبيدو باشا، على سبيل المثال، شاب من آل يموت تمتَّع بعنفوان الشَّباب وبهاء طلعته وقوة اندفاع ناسه وغيرتهم وحميَّتهم ونجدتهم للملهوف؛ أمَّا الحاج سعيد حَمَد، فقبضاي فيه رصانة الكهول وقوة شكيمتهم وتمسكِّهم بالأخلاق الحميدة وحُسْنِ معاشرة النَّاس ومؤاساتهم؛ في حين أن عبد اللطيف النعماني (أبو طالب) قبضاي بحري يجمع، إضافة إلى قدرته على الغَلَبَة على ناسه في المدينة، قدرته على تأمين عمل لكثير منهم في الميناء؛ حيث كان «أبو طالب» من أبرز رؤساء الميناء في زمنه. أمَّا رشاد قليلات، فقبضاي يهتم بناسه عن طريق صلاته بزعماء السِّياسة والأمن وسوى ذلك من عناصر القوة وعواملِ النُّفوذ في مرحلته.

ب) الجَدَع:

هو الفرد القوي الجَسَدِ صاحب الهمَّة والمروءة؛ وكان كثير من شبَّان بيروت وكهولها وحتَّى شيوخها يتحلُّون بهذه الصِّفات ويفخرون بها؛ بل كان في كل منطقة أو حي أو زاروب أكثر من «جدع» عُرِف بنخوته ومروءته. والـ«جدعنة»، إن جاز التَّعبير، لا ترتبط بالقوَّة الجسديَّة فحسب، بل هي أيضاً في قوَّة الأخلاق والقدرة في الحفاظ على مبادئ الشَّرف والكرامة والتمسُّكِ بها. ومن هنا، فـ«الجَدَع» فردٌ لا يقبل الضَّيم، ولا يرضى المهانة أو المذلَّة؛ يحمي ذاته وعِرْضَهُ من كل سوء، ولا يقبل في هذه الأمور أيَّة مساومة. ورغم أنَّ كل «قبضاي» هو بالضَّرورة «جدع»، فليس كل «جدع» «قبضاي». فالقبضنة تفترض سلطة على الجماعة وحماية لها، أمَّا «الجدعنة» فهي قدرة فرديَّة وتظل في المجال الفردي. ومن هنا، فقد كان لكل قبضاي مجموعة من الجِدعان تعمل بمشورته ورأيه وضمن حمايته. أمَّا لفظ «جدع» فلعلَّه من الجذر العربي (ق د ع)، الذي يفيد الكَف والمنع والكبح وكلها من الأمور التي كان على «الجدع» القيام بها؛ ثم لعلَّه كان، على عادة بعض اللهجات العربيَّة، ثمَّة تعطيش في لفظ حرف القاف ليُلْفَظ كما «الجيم» المصريَّة، فصار «القَدَعُ»، وهو عند العرب الفحل أو القوي، «جدعا». ومع كثرة «الجدعان» في بيروت، فإنَّ هذه الشَّخصيَّة ترسَّخت في الوجدان الشَّعبي عبر عدد كبير من الأقنعة، لدرجة بات فيها من غير الممكن التَّفاعل معها من خلال قناع فردي بحدِّ ذاته، بل إنَّ المفهوم الجمعي لها تحوَّل إلى قناع تجلببت به هذه الشَّخصيَّة؛ ومع هذا، فقد يمكن ذِكْرُ أحمد الأرناؤط (أبو مصطفى) واحداً من الجدعان الذين عرفتهم بيروت؛ ناهيك بشخصيتي «أبو النُّور» التيي قدَّمها الممثل الرَّاحل خالد قرانوح وشخصيَّة «أبو عبد» التي قدَّمها الممثل الراحل أحمد خليفة في مسلسلات تلفزيونيَّة وأفلام سينمائيَّة وبرامج إذاعيَّة. 

ت) أُخت الرِّجال:

هي المرأة ذات الشَّخصيَّة القويَّة والغَيرة الاجتماعيَّة والاندفاع الإنساني التي تتجرأ على الخروج من بيتها، بداعي فقد المعيل والحامي الذُّكوريين، لتعاطي أمورٍ في مجال الشَّان العام. إنَّها المرأة التي تبزُّ بعض الرِّجال، أحياناً، بقدراتها في مجالات الشَّأن العام؛ فتُنجِد الملهوف وتنصرُ الضَّعيف والمقهور وتمدُّ المحتاج. وهي في كل هذه الأمور امرأة تثير إعجاب الرِّجال والنساء وتقديرهم واحترامهم بجرأتها وقوَّتها وحكمتها. إنَّها الوجود الأنثوي الذي يكاد يكون صنواً، في بعض المواقف، للقبضاي أو الجَدع. فتجمع النَّاس من حولها، وتقود بعض مواقفهم السياسيَّة أو الاجتماعيَّة. وقد تكون «أخت الرِّجال» صاحبة تجارة وقدرة على إدارات الأملاك والعقارات وبعض شؤون العمل؛ كما قد تكون في بعض الحالات صاحبة شخصيَّة حكيمة يستشيرها أهل عائلتها ومعارفها في أمورهم ويأخذون برأيها. ومن أشهر من عُرِفْنَ من «أخوات الرِّجال» في بيروت «الحاجة صالحة»، وكانت قابلة ولادة، و«أم زكُّور الحلبي». أمَّا تعبير «أخت الرِّجال»، فعربيٌّ فصيح سليم، إذ إن «أخت» هي مؤنَّث أخ الذي يعني الشقيق والمصاحب والملازم، وتالياً، الصُّنو. ومن هنا، فإن «أخت الرِّجال» هي المرأة القادرة على أن تكون صنواً للرجال وملازمة لهم في مجالات الشَّأن العام وقضايا العيش خارج نطاق المنزل. 

ث) الزكُرت:

هو الشَّخص القوي العصبي المزاج والمَيَّال إلى التطرُُّف في تصرُّفاته؛ وبهذا الميل إلى التطرُّف وتلك العصبيَّة يختلف الزكرت عن الجَدَع. فالجدع يمتاز عن «الزكرت» بكثير من الحكمة التي لا يميل الزكرت إلى الالتزام بها. ولعلَّ لفظ زكرت من أصل سرياني يفيد معنى «الصَّغير»؛ الأمر الذي قد يفيد بأنَّ الزكرت هو الصَّغير في مجال القوة والغَلَبَة إذ يأتي قبله الجدع، الذي يمتاز عنه بشيء من الحكمة والتَّروي، وطبعاً القبضاي؛ وغالبا ما كان الزكرت في بيروت من الرجال الذين يناصرون القبضايات وينفذون تعليماتهم وتوجيهاتهم. ويذكر بعض أهل بيروت من «زكرتيَّة» مدينتهم، إن جاز التَّعبير، محمود قميرة وخضر دريان وأبو علي عيتور.

ج) الزمِّك:

هو الشَّخص الذي لا يتمتع بقوَّة جسديَّة أو مهابة اجتماعيَّة أو شخصيَّة تؤهِّله ليكون في مصاف «الزكرت» أو «الجَدَع» أو «القبضاي»؛ لكنَّه يبقى مُصِرَّاً على إثباتٍ ما لوجوده في الحياة العامَّة، عبر خدمات صغيرة أو حقيرة يقدِّمها للنَّاس. فهو، تالياً، في المراتب الأدنى من مراتب القوَّة والنفوذ في مجتمع بيروت. والزمك، على ما يبدو، لفظ عربي يعني ذَنَبُ الطَّائر، كما يعني الإنسان سريع الغضب. وكان في بيروت أشخاص عُرِفوا بشخصيَّة «الزمك» وقناعه، ولعل الحضور التَّمثيليّ الذي أشتُهِر به الممثل محمود مبسوط لشخصيَّة «فهمان» في البرامج التلفزيونيَّة لفرقة «أبو سليم»، منذ ستينات القرن العشرين، هو الأكثر تعبيراً عن الشَّخصيَّة التُّراثيَّة للـ«زمك».

ح) الشَّرشوح والشَّرشوحة:

«الشَّرْشَحَةُ»، في الأساس، مهنةُ توجُّهِ شخصٍ، ذَكَرٍ أو أُنثى، عادةً ما يكون من حُثالةِ المجتمع وسَفَلَتِهِ؛ إلى أماكن سَكَنِ بعضٍ مِن كِرام القَوْم أو مَقارِّ أعمالِهم، لِسَبِّهِم بأقذعِ الشَّتائم وإهانتهم بأبشعِ الألفاظِ والصِّفات، لقاءَ بَدَلٍ ماديٍّ ينالُهُ الشَّرشوحُ/الشَّرشوحة ممَّن استأجره/ها للقيام بهذا العمل. والذي يحصل أن الشَّرشوح أو الشَّرشوحة غالباً ما كانا ينتصران في معاركهما هذه مع النَّاس، وذلك لتجنُّبِ النَّاس المواجهةَ مع أيٍّ منهما؛ كسباً لاحترام الذَّات وترفُّعاً عن السَّفالة. ولعل أموراً كثيرة وحقوقاً عديدة اكتسبها بعضهم، جرَّاء استئجار شرشوح أو شرشوحة، لتحصيلها لهم من الآخرين. أمَّا اللَّفظة، بحد ذاتها، فلعلَّها مستعارةٌ من غير العربيَّة. 

لقد غلب اسم هذه المهنة على أوباشِ القوم ورعاعهم وأراذلهم، وعامَّة من قد يزدريهم المجتمع ويأنف غالبيَّة النَّاس من مخالطتهم ومعاشرتهم أو الالتفات إليهم؛ فصار الإسم لقبا وصفة وقناعاً جَمْعِيَّاً. ومع كل هذا الاحتقار، فلقد ظلَّ الشَّرشوح والشَّرشوحة من الشَّخصيَّات الموجودة في الوجدان الشَّعبي.

**

الشَّخصيّة التّراثية في مجالات العمل

أ) المعلِّم:

يُطْلَق هذا اللَّقَب، عادة، على مالك المؤسَّسة العاملة، ويُعرَف باسم «صاحب الشُّغل»، كما يُطْلَق اللقب على الأعلى رتبة والأشد خبرة بين العاملين في المؤسسة. والمعلِّم، في هذا المجال، صاحب سلطة كبرى في قبول العاملين وتحديد مراتبهم وصلاحيَّاتهم وأجورهم؛ ناهيك بأنَّه المسؤول المباشر عن العمل أمام الزبائن والعملاء. وفي غالب الأحيان، فإنَّ المعلِّم، إمَّا أن يكون وارثاً لـ«معلميَّته»، إن جاز التَّعبير، عن والد أو جدٍّ أو قريب أكسبه خبرة متميِّزة فيها، يضاف إلى ذلك ما اكتسبه شخصيَّاً من خبرة العمل المباشر عبر الممارسة والمتابعة.

والطَّريف في هذا المجال أنَّ بعض البيارتة كان يميل إلى إطلاق اسم «خواجه» على المعلم الذي يملك العمل أو يكون المسؤول الأوَّل عنه، إذا ما كان هذا المعلِّم مسيحيَّا. ولفظ «خواجه» لفظ تركي يعني السيِّد؛ أمَّا لفظ «المعلِّم»، فعربيٌّ فصيحٌ، يدلُّ على شخص مهمته نقل معارفه وخبراته إلى الآخرين.

يشكِّل «المعلِّم» منهل الخبرات العمليَّة في مجال اختصاصه، وغالباً ما كان النَّاس يقصدونه لتدريب أولادهم على صنعة معيَّنة أو مهنة من المهن تؤمِّن لهؤلاء الأبناء مصدر رزق يعتاشون منه ومنزلة اجتماعيَّة معيَّنة بين أبناء محيطهم وناس بلدهم. فالمعلِّم يحلُّ في الوجدان الشَّعبي محلَّ المدرسة المهنيَّة في الزَّمن المعاصر، وشهادته بخبرة من يشهد له بالخبرة بمثابة إجازة معترف بها من قبل أهل الاختصاص والمجتمع على حدٍّ سواء. ولذلك، فإنَّ كثيرين من أهل بيروت كانوا يتباهون بمعلميهم ويعتزُّون بأنهم درسوا المهنة التي يعتاشون منها، أو هم يُشْتَهرون بها وتعرفوا على أسرارها وفنونها، على هذا المعلِّم أو ذاك. ويبقى التلميذ مدينا لمعلمه طوال عمره، يؤدِّي له واجب الاعتراف بـ«معلَّميته» وفضله، حتَّى ولو صار هذا التِّلميذ معلِّما في مرحلة لاحقة.

ويشهد تُراث بيروت لعددٍ كبيرٍ من ناسِ المدينةِ كانوا مُعَلِّمين في أعمالٍ وصناعاتٍ مَلأَت حياةَ المدينةِ؛ ولذا، فإنَّ ما قِناعٍ فرديٍّ معيَّنٍ لشخصِيَّة المعلِّم، بل إن القناع الجمعي هو الأغلب في هذا المجال. لكن، وإن كان لا بدَّ من ذكرٍ لمعلِّم شكَّلت شخصيته قناعاً بارزاً في هذا المجال، فإنَّ جميل حاسبيني يُعَدُّ من المجلِّين في هذا المجال.

ب) الأُسطى:

هو البارع في حرفة أو مهنة، وهو يلي «المعلِّم» في التَّراتب الوظيفي للعمل. ولا بدَّ لكل معلِّم من أن يكون «أسطى»، لكن ما كلّ «أسطى» يمكن أن يصبح معلِّما. فـ«الأسطى» فرد يبرع في حرفة أو مهنة معيَّنة، لكنه قد لا يكون مالكاً لمحترف العمل وأدواته ليصبح معلِّما، أو قد يكون عاملاً لحساب معلِّم ما. ولفظ «الأسطى» غريب عن العربيَّة، ولعلَّه من أصول تركيَّة. ولقد عَرِفَ تراث بيروت كثيراً من «الأسطوات» في مهن وحرف وصناعات عديدة ومتنوِّعة، لدرجة لم تسمح لأحدٍّ معها أن يكون بذاتهِ قناعاً متميِّزاً لهذه الشَّخصيَّة؛ فاكتفى الوجدان الشَّعبي البيروتي بالقِناع الجَمعيِّ معبِّراً عن شخصيَّة «الأسطى».

ت) الرَيِّس:

هو المسؤول عن جماعة من العاملين تحت إمرته المباشرة؛ يشرفُ على تنفيذهم المهام الموكولة إليهم، وهو مسؤول عنهم تجاه «المُعَلِّم». وأكثر من اشتُهِرَ في الوجدان الشَّعبيِّ البيروتي من «الرِّيَّاس» كانوا من العاملين في قطاع الميناء، حتَّى تكاد هذه الشَّخصيَّة تكون محصورة، في نظر كثيرين، بالميناء وبين العاملين فيه. والريِّس، خاصة إذا ما كان «ريِّساً» بحريِّاً يتحلَّى بشجاعة كبرى وقدرة على المغامرة وركوب الأمواج وصراع العواصف البحريَّة، كما يتحلَّى بمصداقيَّة أساسيَّة تجاه أصحاب البضائع وربابنة المراكب وسائر العاملين في القطاع البحري. ولفظة «الريِّس» هي تصحيف بسيط للَّفظ العربي الفصيح «الرَّئيس»، بتحويل الهمزة إلى ياء ليِّنة. ومن أشهر «الرِّيَّاس» الذين دخلوا الوجدان الشَّعبي لأبناء بيروت، وشكَّلوا قناعاً متميِّزاً لهذه الشَّخصيَّة التُّراثيَّة عند أهل المدينة، محمّد اليافاوي (أبو أحمد)، أمَّا أبو عفيف البعدراني وناجي شهاب الدِّين فكانا من «رِيَّاس» الميناء ومعهم الرِّيَّاس من آل البلطجي الذين ذاع صيتهم إثر إنقاذهم البطولي لكثيرين من سقطوا في بحر بيروت من ركَّاب السفينة شامبليون في خمسينات القرن العشرين.

ث) الصَّبي:

هو العامِل التَّنفيذي الذي يعمل بإشراف «مُعَلِّمٍ» في مهنة أو حرفة معيَّنة. وإذا ما كانت لفظة الصَّبي تعني النَّاشئ أو الفتى الغُر في اللغة العربيَّة، فإنَّها أصبحت في مجال العمل لا ترتبط بالسِّن قدر ارتباطها بالخبرة. ومن ميزات «الصَّبي» طاعته لـ«أسطاه: أو «معلِّمه»، وتفانيه في خدمته خلال أوقات العمل وخارجها. ولذا، فقد يكون «الصَّبي» شاباً أو حتَّى رجلاً كامل الرجولة، لكنه ما برح غُراً في خبراته بالنسبة إلى المهنة أو الحرفة التي يعمل فيها ولمَّا يبلغ بعد مرتبة الأسطى. ولعلَّ معظم «الأسطوات» والمعلمين» بدأوا حياتهم المهنيَّة أو الحرفيَّة «صبياناً» عند واحد أو أكثر من الأسطوات والمعلمين؛ ولذا، فإنَّ ما من قناع فردي اشتُهِر بين النَّاس للـ«الصَّبي» ، واكتفى الوجدان الشَّعبي البيروتي، في هذا المجال، بقناع جَمعي.

ج) الشَّيخ والشَّيخة:

الشَّيخُ، هو المُدَرِّس في الكُتَّاب للذُّكور، وغالباً ما يكون هذا المدرِّس رقيق الحال ماديَّاً، على شيء من علوم التجويد ومعرفة متواضعة باللغة والحساب تؤهِّله ليكون معلِّماً لصبيان صغار في السِّن. أمَّا لفظة «شيخ» فعربيَّة فصيحة تعني كبير القوم والعالم الدِّيني، لكنها أصبحت في مجال التَّدريس هذا مجرَّد مصطلح يستخدمه النَّاس للدلالة على المعلِّم. ومن أشهر الذين شكَّلوا قناعاً لهذه الشَّخصيَّة في الوجدان البيروتي الشَّعبي الشيخ نجيب، في مطلع القرن العشرين، والشيخ ديب الشَّامي في منتصف ذلك القرن. أمَّا «الشَّيخة»، فهي الأنثى التي توازي «الشَّيخ» في مهام تدريس الأناث.

ح) العاهرة:

هي بنت الهوى التي تتخذ مقرَّاً يأتيها فيه الرِّجال للفجور وإرواء شهواتهم الجنسيَّة. وكان للعاهرات مناطق خاصَّة بهنَّ في بيروت تقع ضمن الأسواق التجاريَّة، بعيداً عن سكنى أهل المدينة الذين كانوا يأنفون أي اختلاط اجتماعي بهنَّ، حيث كنَّ يمارسنَّ عملهنَّ هناك بإدارة واحدة من أقويائهن في السُّلطة عليهن والمَوْنة، تسمَّى «البترونة». وغالباً ما كانت مساكن العاهرات خاضعة لحماية شخص محدَّد، أو مجموعة من الأشخاص الذُّكور، الذين يتولون تسهيل مهام الاتصال بين العاهرات ومن يرغب بهنَّ من الرِّجال. ولقد اشتُهِر من مناطق سُكْنى العاهرات في القديم في بيروت موقع يقول بعضهم أنه كان خلف «القشلة»، كما أنَّ موقع شارع المتنبيِّ في ساحة البرج كان، في بعض مراحل القرن العشرين، أشهر من أن يُعَرَّف. أمَّا لفظ «العاهرة» فتحريف للفظ عربيٍّ فصيح هو «العاهر». ولعلَّ أكثر الأقنعة اشتهاراً للعاهرة في الوجدان الشَّعبي البيروتي كان قناع «ماريكَّا»، التي كانت مديرة لبيت عاهرات في شارع المتنبِّي.

**

الشخصيَّة التُّراثيَّة في مجالات التَّراتُب الاجتماعي

شكَّل مجتمع بيروت، المنبثق من جذور الميناء القائمة في وجودها العملي على حسن التنظيم وأساسيَّة المعرفة وضرورة النجاح، بؤرة لبروز لافت لقِيم السَّلطة وضرورة احترام معايير التَّراتُب الاجتماعي والمعرفي بين النَّاس. ومن هنا تجلَّت الشَّخصيَّة الشَّعبيَّة من خلال ترسيمة تراعي هذا التَّراتب في كلِّ أبعاده وتحافِظ عليها. إنَّها ترسيمة تأخذ بعين الاعتبار السلطة والنفوذ والمعرفة ناهيك بالحكمة وحسن التصرُّف واستيعاب الأحوال.

أ) الباشا:

«الباشا»، أساساً، لقب تركي، يعني الكبير أو العظيم، يمنح من اسطمبول؛ وغالبا ما كان يحصل عليه الوزراء والقوَّاد ومن قام بأعمال مجيدة في خدمة السَّلطنة أو تفوَّق بين قومه في الولاء لها إلى درجة لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها. وقد يكون الحصول على اللقب، في بعض المرَّات، لقاء بذل مالي يقدِّمه طالب اللقب لأُولي الأمر في الدَّولة. ولم يكن عدد «الباشوات» من أبناء بيروت كثيراً، بل إن قلَّة قليلة من ناسها نالوا هذه الحظوة من السَّلطنة العثمانيَّة. ولعلَّ من بين أبرز هؤلاء الباشوات الذين يمكن أن يشكِّل الواحد منهم قناعاً للشَّخصيَّة سعد الدِّين باشا شاتيلا وعلي باشا طبَّاره وحسن باشا المخزومي. ولذا، فقليلاً ما دخلت شخصيَّة «الباشا» الوجدان الشَّعبي البيروتي أو أثَّرت فيه؛ فظلَّت شخصيَّة «الباشا» قابعة في برج عاجي، إلى قام النَّاس بإطلاق اللقب على بعض من كان يتعاظم أمامهم بأعماله أو صفاته أو على من يريدون هم تعظيمه، إمَّا على سبيل الحقيقة أو المداعبة أو حتَّى الهزء، على حدٍّ سواء. 

ب) البِيك:

«البيك» في الأصل لقب كانت تمنحه السَّلطنة العثمانيَّة للمبرزين من رجالاتها؛ وجرى العرف عند أهل بيروت على إطلاق هذا اللقب على من كان له نفوذ سياسي، وخاصة في مجال التعامل مع السُّلطة السياسيَّة، من أهل بيروت. فكلُّ زعيم سياسي نافذ هو «بيك» عند أهل بيروت. ومن هنا، فقد صار «البيك» في الوجدان الشَّعبي البيروتي القادر على النَّفاذ بمطالب أهل المدينة إلى السَّلطة السياسيَّة الحاكمة وتحقيق هذه المطالب على اختلافها وتنوُّعها. وبات، بهذا، معظم رجالات السياسة الكبار في بيروت يمثلون شخصيَّة البيك ويقدِّمون قناعاً له في الوجدان الشَّعبي. ثمَّ درج بعض البيروتيين على إطلاق البكويَّة على كل من يريدون التقرُّب منه من أهل المال والجاه والنفوذ. ولعلَّ من أبرز من يمثل شخصيَّة البيك وحضوره في الوجدان التراثي البيروتي رياض بك الصُّلح وسامي بك الصُّلح ناهيك بصائب بك سلام. والجدير ذكره، أن واحداً فقط، ممن كانوا يحوزون مؤهلات شخصيَّة البيك ونفوذها السياسي والمالي، قد درج النَّاس في بيروت على إعطائه لقب «خواجه» مرادفاً لقناع البيك، هو الخواجه هنري فرعون؛ ولعلَّ في كون هنري فرعون مسيحيَّاً من بيروت ما قد يفسِّر اختصاصه بهذا اللقب، خاصَّة وأن البيارتة اعتادوا شخص «الخواجه» موازيَّاً لشخصيَّة «المعلِّم» في مجال العمل؛ وهنري فرعون نفسه كان رجل أعمال ومال وسياسة ونفوذ في الوقت عينه!

ت) الأفندي:

هو لقب تركي في الأصل، يفيد معنَى «السيِّد» أو «صاحب السيَّادة». وجرى العُرف الاجتماعي التَّركي على إطلاق هذا اللقب على من يتمتَّع بسيادة كبيرة في المجتمع؛ وشملت شخصيَّة «الأفندي»، بهذا المفهوم، كل من تبوَّأ منصباً حكوميَّاً بارزاً أو أي منصب اجتماعيٍّ مرموق. ولقد عُرِفُ بعض المفتين بـ«الأفندي» مثل مفتيي بيروت الشَّيخ مصطفى أفندي نجا والشَّيخ توفيق أفندي خالد. وتوسَّع الوجدان الشَّعبي في بيروت في مفهومه لشخصيَّة الأفندي حتَّى أصبح كلُّ رجلٍ يُوحي للنَّاس ببعض احترام «أفنديَّا»؛ بل إنَّ المرأة كانت إذا ما تحدَّثت عن زوجها أمام النَّاس عرَّفت عنه بأنَّه «الأفندي»؛ كما بات «الأفندي» لازمة لكلِّ شخص له حظٌ من التَّعليم أو المقام الاجتماعي. ومن جهة أخرى، فقد اُعتُبِر وكأنَّ «الأفندي» لازمةٌ لا بدَّ منها لرجال الشُّرطة، حتَّى بات كلُّ شُرطيٍّ يُعْرَف – «الأفندي». ولذا، فليس ثمَّة قِناع فرديٍّ مُمَيَّزٍ لهذه الشَّخصيَّة التي شهِدت توسُّعات جمَّة في ناسِها؛ فاتَّخذت، لكثرة أشخاصها، قناعاً جَمْعِيَّا شكَّله المفهوم الشَّعبي للـ«أفنديَّة» قوامه السِّيادة، بغضِّ النَّظرِ عن كونها سيادة مرموقة أو اعتياديَّة.

ث) الآغا:

لعلَّ شخصيَّة الآغا سابقة لشخصيَّة الأفندي في التَّاريخ الزَّمني؛ والآغا لفظ غير عربي يعني، كما الأفندي، السيِّد أو صاحب سيادة، لكنَّها سيادة إقطاعيَّة. ويبدو أن الأغوات لم يكونوا في بيروت كُثُراً، خلافا لما كانوا عليه في مناطق أخرى مثل عكّار وسواها، باعتبار أن ما من إقطاع حقيقي عرفته بيروت. وكيفما دار الأمر، فـ«الآغا» وارث لثروة وسلطة وزعامة أو مستحق لها بـ«فَرَمانٍ» ما. ويبدو أن هذه الشَّخصيَّة لم تكن من صلب التراث البيروتي بقدر ما كان بعض ناس بيروت يعتمدونها على سبيل مضاهاة ناس المناطق الأخرى؛ باعتبار أنَّ بيروت. ولذا، فإنَّ بيروت قلَّ أن عرفت آغا «أصيل»، إن جاز التَّعبير؛ لكن بعض البيارتة كان يميل إلى إطلاقِ لقب آغا على بعض من يرغب في تكريمه أو إظهار احترام مُتَمَيِّز له. 

ج) الأستاذ:

هو المُتَعلِّمُ صاحبُ الشَّهادةِ الرَّسميَّةِ الصَّادرةِ عن مرجعيَّاتٍ علميَّةٍ مَرموقة. ولفظةُ «أستاذ» فارسيَّة الأصلِّ تبناها الوجدان الشَّعبي البيروتي ليطلقها على المتعلمين بشكل عام. وغلبت هذه الشَّخصيَّة على كلُّ من يمارس التَّدريس أو المحاماة، حتَّى كادت تحلُّ مكان أي لقب آخر في هذا المجال. ومن جهة أخرى، فقد مال الوجدان الشَّعبي البيروتي إلى اعتماد هذه الشَّخصيَّة لعلماء الدِّين، وكثرٌ هم المشايخ المسلمين الذين عُرِفوا في بيروت بـ«الأستاذ»، بل إن جلَّ الرَّعيل الذي عاش في القرن العشرين كان يعرف بـ«فضيلة الأستاذ» أو «الأستاذ»، ولعلَّ من أشهرهم فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد عبَّاس وفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى الغلاييني. وما برحت شخصيَّة الأستاذ، صاحب الشهادة العِلميَّة، قائمة حتَّى اليوم في الحياة اليوميَّة في بيروت. 

ح) الحَاج:

هو في الأساس من حجَّ إلى الأماكن المقدَّسة، ومن اسمه نقولا؛ لكن شخصيَّة «الحاج»، أو كما يلفظها معظم البيارتة «الحَجّ»، بإسقاط المَدِّ الصَّوتيِّ بالألف، في الوجدان الشَّعبي البيروتي تمركزت حول مفهوم الرُّجل الكَهل الهُمام في مجال فعل الخير ونجدة الملهوف وفضِّ النِّزاعات اليوميَّة بين ناسه وأهله. فالـ«حجُّ» شخصيَّة أساس في المجتمع البيروتي، لا تكتمل الصورة الاجتماعيَّة من دونها؛ إذ لولا هذه الشَّخصيَّة لتضاعفت النِّزاعات اليوميَّة والمآسي الاجتماعيَّة حتَّى باتت هذه المآسي فواجع وتلك النِّزاعات قضايا كبرى تؤرق المجتمع وتقضُّ من مضجعه. «الحج» حلال المشاكل، وقاضي الصُّلح المحبوب الجانب قبل أن يكون مرهوبه، والإنسان صاحب المَوْنَة على جميع أهل بيته وعائلته وحيِّه، إنَّه ساتر الهفوات والمقدَّم في الاجتماعات، وجيه جماعته من غير ما زعامة وسلطة. وكثُرٌ هم مَنْ تلبَّسوا هذه الشَّخصيَّة التُّراثيَّة وألبسوها من ذواتِهم؛ لكن يبقىالحج سعيد حمَد، على كونِهِ من أبرز قبضايات بيروت، واحداً من أروع أقنعة شخصيَّة «الحجِّ» في وجدان ناسها؛ لدرجة أنَّه لا يمكن لبيروتي، حتَّى اليوم، أن يلفظ اسم الحاج سعيد حَمَد عارياً من لفظة «حج».

**

الشَّخصِيَّةُ التُّراثِيَّةُ في المجالِ النَّسَوي

سيدة بيروتية (نازك بنت سعد الدين كريدية) سنة 1880

لئن كان للمرأة بعض شخصيَّات تراثيَّة عاشت في الوجدان البيروتي من خلال حضورٍ لها في مجالات القوة والنُّفوذ والعمل؛ فثمَّة مجال آخر اقتصر على النِّساء في التُّراث البيروتي؛ إنَّه البيت الذي شكَّل المملكة الأساسيَّة للمرأة البيروتيَّة. ومن خلال الوجود في هذه «المملكة» كانت نساء بيروت يتوزَّعن ضمن شخصيَّات احتلت وجوداً لها لافتاً في الموروث الشَّعبي وتركن، عبر هذا الوجود، بصمات واضحة لهن في رسم تَشكُّلات المجتمع النَّسوي في المدينة.

أ) الخَانُم:

هي في الوجدان الشَّعبي البَيْروتِيِّ التُّراثيِّ المرأة صاحبة المقام الاجتماعي المميَّز. وقد تكون، الخانم، ابنة الكبير المتميّز بمكانته، بغضِّ النَّظر عن سنها؛ فـ«الخانم»، ههنا، قد تكون زوجة الرُّجل أو أخته أو إحدى بناته. وقد تكون الخانم كبيرة قومها ونساء عائلتها ومجتمعها، بشخصيتها الفذَّة وعمرها المديد وحكمة تصرُّفاتها. وأصل اللفظة تركي-فارسي، يعني السيِّدة. ويبدو أن شخصيَّة «الخانم»، لكثرة من تمثَّلت عبرهنَّ من النساء، وكان من الواجب أن لا يلفظ الاسم الصَّريح للـ«الخانم» من غير ما مصاحبته بلقب «الخانم»، وفي بعض المرَّات كا يكتفى باللقب من دون الاسم. لم تترسخ شخصيَّة «الخانم» في الوجدان الشَّعبي البيروتي بامرأة بحدِّ ذاتها، بقدر ما تمثَّلَت بقِناع جمعي. 

ب) السِّت:

هي ربَّة البيت بشكل عام؛ ولقد كادت هذه الشَّخصيَّة تحتلُّ مكان شخصيَّة «الخانم» في الوجدان الشَّعبي البيروتي بعد غياب الحكم العثماني؛ فاعتبر البيارتة كل من كانت مؤهَّلة لأن تمثِّل شخصيَّة الخانم، مؤهَّلة لأن تمثِّل شخصيَّة «السِّت». ولفظ «السِّت» منبثق من اللفظ العربي الفصيح «السيِّدة». ولقد توسَّع الوجدان الشَّعبي في مفهوم شخصيَّة «السِّت»، حتى بات بالإمكان الإشارة إلى كل أنثى بالغة على أنَّها «ست». ولعلَّ مديرات المدارس كُنَّ من أشهر من عُرِفنَّ بشخصيَّة «السِّت» ولقبها في بيروت؛ ومن بين هؤلاء السِّت عزيزة طيَّارة والسِّت نجاح المحمصاني. ومال بعض البيارتةِ، وخاصَّة المسيحيين منهم، في مرحلة الانتداب الفرنسي وما بعدها، إلى اعتماد لفظ «المَدَام» من اللفظة الفرنسيَّة «madame»، في هذا المجال بديلاً من «السِّت»؛ فعرفت من مديرات المدارس مدام نعمة؛ وجاراهم بعض المسلمين في هذا باستخدام لفظ «مضام»، خاصَّة عند الحديث عن سيِّدة مسيحيَّة أو مخاطبتها، وهو تصحيف لفظي يقوم على إبدال الدَّال ضاداً في اللَّفظة الفرنسيَّة.

ت) الحَجَّة:

هي الصُّنو النِّسائي للـ«حج» في المجتمع الذُّكوري.

ث) بنت البيت:

هي الفتاة ذات المربى الحَسَن والأخلاق الرَّفيعة التي تُضْرَبُ الأمثال بطهارتها وعفّتها وبراءة تفكيرها وبُعْدِها عن كل ما هو دنيء في التصرُّف أو النيَّة. وهي، كذلك المرأة ذات الأخلاق الرَّفيعة التي تصون بأخلاقها كرامة زوجها وأسرتها ومجتمعها، فتصبر على الصِّعاب من دون إفصاح أو عتب؛ وتكدُّ بصمت شريف في سبيل السَّتر الاجتماعي، ولا تخرج من دارها إلاَّ لضرورة قاهرة. وكثر جدَّاً من فتيات بيروت ونسائها من كنَّ على هذه الحال، وكنَّ في الوجدان الشَّعبي يشكِّلن قناعاً جمعِيَّاً لـ«بنت البيت».

Ads by optAd360

{ خُلاصة:

يحفظُ الوجدان الشَّعبيُّ البيروتي بيروت مدينة حديثة نسبيَّاً في تاريخها الاجتماعي المعيش؛ فهي مدينة لا تمتدُّ، عبر ما يحفظه وجدانها الشَّعبي في الزَّمن، لأكثر من قرنين. أمَّا ما كان من حياتها الاجتماعيَّة والشَّعبيَّة في المراحلِ التي سبقت هذين القرنين، فصار في ذمَّة التاريخ الذي يحتاج إلى من ينقِّب عنه في أمهات المصادر، إن حفظت، أو من بعض بقايا أو ترسبات اجتماعيَّة قلَّ أن انتبه إليها الباحثون المتخصصون والدَّارسون المحللون المتعمّقون. فالتاريخ الشَّعبي لمدينة بيروت، في عمق عقود الزَّمن، بحاجة إلى من يكتشفه ويعمل على نفض أكوام من غبار النسيان والإهمال والضياع والتشتت عنه. بيروت التي يعرفها النَّاس، وفاقا للوجدان الشعبي، هي المدينة التي تحوَّلت إلى ولاية عثمانيَّة في منتصف القرن التاسع عشر؛ أمَّا ما سبق هذه المرحلة فيشكِّل دعوة ملحَّة للباحث والتنقيب والاستدلال عن مقومات وجوده التاريخية ومجالات تحوُّلانه الزَّمنية.

ويُظْهِرُ الوجدان الشَّعبيُّ لبيروت بيروت، على صغر مساحتها، مدينة عمل وتجارة وسلطة. ويُظهِرها، كذلك، مسرحاً للأقوياء في شخصياتهم وحضورهم وقدراتهم، بغضِّ النَّظر عن كونهم من الذكور أو الأناث. فللقوَّة والغَلَبَة والقدرة على التَّنظيم والسَّعي في تحصيل ما يمكن من يسير المعرفة والعلم المدرسيين والنُّفوذ لدى الجهات الحاكمة والمجتمعيَّة الدَّور الأساسيَّ في رسم قِيَمِ المدينة ومفاهيمها وملامح مجتمعها. المرأة، كما الرجل، كان لكل منهما حظٌّ للظهور في الشَّأن العام، والمقياس في كلِّ هذا كان عبر إمكانيات القدرة الاجتماعيَّة على التأثير والنفوذ. والحياة العامَّة، على انفتاحها، حفظت للحياة الخاصة، وخاصة في جانبها النَّسوي، احتراماً وتقديرا ومهابة.

————-

* رئيس المركز الثقافي الإسلامي

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website