كان مجلس النواب اللبناني منذ تأسيسه وحتى عقود متتالية، يذخر بالرجالات والقامات الوطنية التي شكّلت نموذجاً فريداً للحياة السياسية والديمقراطية في المنطقة بأسرها، حيث كان كلّ نائب؛ بما يتمتع به من كفاءة وحكمة وحنكة وضلوع وفقه بالقانون والدستور، يشكل قطباً سياسياً وتشريعياً قائماً بذاته…
ما يدفعنا للتذكّر والتحسّر، ما آلت إليه السياسة اللبنانية من تراجع وإنهيار بالتوازي مع إنهيار وإحتضار دولة المؤسسات والقانون!
إلّا أنه، ومع إنتخاب مجلس نيابي جديد، بالتزامن مع إزالة ورفع كلّ الحواجز المعدنية والجدر الإسمنتية، التي فصلت بين الشعب وممثليه، عقب الإحتجاجات الشعبية، التي أطلق عليها “ثورة ١٧ تشرين”، يتساءل اللبنانيون: هل تعود الحيوية إلى أروقة “البرلمان” تشريعاً ومراقبة، مع دخول دم جديد إليه، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من لبنان الدولة والمؤسسات!
بإنتظار ما سيحمله القادم من الأيام، سوف نتناول الجانب التاريخي والتراثي لمبنى مجلس النواب في وسط بيروت، عسى هذا الإستحضار، يحفّز النواب الحاليين للإقتداء بأسلافهم من جيل الأقطاب…
ساحة “النجمة” (البرلمان)
من المعالم المدنية في زمن سلطة الإنتداب الفرنسي، ساحة “النجمة”، التي يطلق عليها أيضاً ساحة “البرلمان” وسط شارع “المعرض”. سميت بهذه التسمية على غرار ساحة “النجمة الباريسية”، إذ تتفرّع منها شوارع متساوية الزوايا، سداسية الإتجاهات بشكل النجمة، علماً أن التصميمات التي وضعت في حينها أخذت بعين الاعتبار أن يكون عدد الاتجاهات ثمانية، إلا أن الحرص على إبقاء بعض المعالم حال دون ذلك، حيث تمت الإستعانة لهذه الغاية بالمهندس البارون هوسمان الذي صمّم العاصمة الفرنسية “باريس” بشوارعها الضخمة والعريضة، ومن بينها ساحة “النجمة” الشهيرة…
مبنى مجلس النواب
وقد إختيرت هذه الساحة الحديثة والنموذجية، بالمقارنة مع باقي أجزاء وسط بيروت، لأن يقبع في وسطها مبنى مجلس النواب اللبناني، الذي صمّمه التركي من أصل أرمني مارديروس ألتونيان (1889ـ 1958)، المولود في منطقة بورسا التركية (أو أرمينيا الغربية)، حيث كُلّف بوضع تصاميم المجلس النيابي بين عامي 1933 و1934، وأنشأه على طراز عثماني مستحدث، وإستعمل عناصر مستوحاة من فن العمارة في بنايات منطقة الشوف من حيث إستعمال النوافذ المزدوجة والقناطر المثلّثة فوق قوس على المدخل”.
اللافت، أنه قد جعل للبوابة العامة مدخلين: واحد للنواب وآخر للزوار”، أما البناء من الداخل إحتوى على ٧٥ مقعداً للنواب على أحدث طراز.
وكان البناء على شكل “الإنفيتياتر”، وخصّص للزوار ألواح في القسم الأعلى”.
أما المبنى الجديد لمكاتب النواب الملاصق لمبنى البرلمان في ساحة “النجمة”، فقد تمّ تصميم عمارته وتنفيذها من قبل المهندس نبيل فوزي عازار بين عامي 1994 و1997”.
أولى الجلسات
إنطلقت جلسات المجلس النيابي في مبناه الجديد إعتباراً من عام 1934، بعد أن كانت تعقد في “السراي الصغير” في ساحة “البرج” وسط العاصمة بيروت”، التي هُدمت، ليبنى مكانها في وقت لاحق مبنى “الريفولي” الشهير و”الشهيد”…
وعن أول جلسة لمجلس النواب، نورد ما نقلته صحيفة “العواصف”: “إن وقائع مناقشة الجلسة الأولى في المبنى خُصّصت لمناقشة كارثة إنهيار مبنى “كوكب الشرق”، وطُلب من الحكومة الإسراع في التحقيق لتحديد المسؤولية وإعانة ذوي الضحايا”.
“وعقد المجلس في اليوم التالي جلسته الثانية وتُلي ردّ الحكومة على الأسئلة التي وُجّهت إليها في صدد كارثة الكوكب، إذ أنه بعد النقاش في الموضوع، طلب الدكتور أيوب تابت تأجيل البحث ريثما ينتهي التحقيق الإداري والعدلي، فوافق الأعضاء على طلبه…” حسب صحيفة “العواصف” .
إنتقال المجلس إلى “قصر منصور“
يذكر إلى أن مكان إنعقاد جلسات وإجتماعات المجلس النيابي قد نقل إلى “قصر منصور” عقب اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، بعدما تحوّل وسط بيروت إلى مسرح يومي للأعمال العسكرية التي أدت إلى تدميره.
أما سبب إختيار “قصر منصور”، فلأنه يقع بين منطقتي “المتحف” و”البربير” اللتين شكّلتا خطاً فاصلاً بين بيروت “الشرقية والغربية”!
وفي ما يخص تاريخ مكتبة المجلس النيابي اللبناني، فتمّ نقلها بما تحويه من كتب ووثائق، تضمّنت دستور عام 1926، إلى “قصر منصور” عقب اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، ثمّ أعيدت بعد تلك الحقبة إلى ساحة النجمة، حيث أن الإحصاءات أشارت إلى أن المكتبة فقدت كتباً ووثائق في غاية الأهمية نتيجة الدمار الذي شهده البلد ومؤسساته العامة والخاصة خلال الحرب!
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي