قبل العام 1975 كان عدد سيارات ألأجرة “السرفيس” قليلاً بالمقارنة مع أعدادها في أيامنا هذه. وكان من يملك “نمرة حمراء”، أي عمومية وسيارة مارسيدس (180 أو 190) يعتبر سلطان زمانه، لأن مردودها كان كافياً لتأمين عيشة كريمة لصاحبها، زمن الخير والقناعة…
وتسمية “السرفيس” هو إشتقاق صرف لبناني، عكس ظاهرة تناقضت مع “التاكسي” ذي الإستعمال الفردي الطابع.
وكان عمل “السيرفيسات” منظماً ضمن مواقف “مركزية” في وسط بيروت، وتحديداً في ساحتي “البرج” و”رياض الصلح”، عندما كانتا تشكلان نقطة الإلتقاء ذهاباً وإياباً بين مناطق العاصمة، ومنها وإليها بين المحافظات…
**
لكن في البدايات، عندما كان عدد السيارات الخاصة والعمومية محدوداً في بيروت، لم يكن قطاع النقل منظماً، ولا تحكمه قوانين خاصة به، وكأن السيارات كانت تسير على سجية سائقيها!
إلا أنه ومع تزايد أعدادها، الذي تسبّب بنوع من الفوضى والفلتان والشجار والمشاكل، كان لا بدّ من الحاجة لتنظيم قطاع النقل، ومنها “الكاراجات”، أي المواقف التي بدأ إنشاؤها في ساحتي “البرج” و”عسور”، وتحديداً بناية اللعازارية” التي كانت نقطة إستدلال، فسيارات الأجرة كانت تنطلق من جوانبه الأربعة لتذهب في كل إتجاه. منه ينطلق “السرفيس و”التاكسي”، وإليه يصلان. وفيه، تحت الأرض وفوقها، كانت تنتشر “الكاراجات” ومكاتب سيارات الأجرة، منها: كاراج “سعد” وكاراج “صيدا” وكاراج “السكاكيني” وكاراج “راشد حمزة” وغيرها…
**
ولتنظيم القطاع، صدر في أواسط العقد الثاني من القرن الماضي أول قانون ينظم عمل السائقين العموميين، وفي مقدمها الأمكنة التي يسمح لهم بركن سياراتهم بها، وتحديد عدد الركاب المسمحوح به، إذ في صيغته الأولى، سمح بنقل ثلاثة ركاب فقط، إلا أن هذا التدبير لم يرق لأصحاب السيارات، لذلك تمّ تعديله ليصبح أربعة، بعد إضراب قاموا به سنة ١٩٣٦. أما عدد الركّاب الخمسة، فلم يجزه القانون إلا في مطلع الخمسينيات.
**
وربما من حينها، نشأت لزومية “الكاراجات”، التي تحتاج إلى من يشرف عليها وينظم العمل فيها، ويكون قادراً على فرض وهرته وهيبته على السائقين.
لذلك، كان أهم المتعيّشين من حاجة “السرفيسات” للمواقف، هم الذين تحدروا من “القبضنة”، فوجدوا في مواقف السيارات ضالتهم المنشودة.
وما كان على السائقين إلا أن ينتظموا في تلك المواقف، التي تتحدد شروط العضوية والإنتساب إليها بدفع رسم مقطوع (خوة)، يذهب لجيوب مستثمري المواقف من القباضايات، حيث كان مسؤولو “الكاراجات” من القباضيات” ينظمون ركون السيارات بالتسلسل حسب وصولها، ثمّ يشرفون على إدخال الركاب إليها، حتى يكتمل العدد بخمسة ركاب، فيؤذن ل”الشوفير” بالإنطلاق إلى المنطقة المحددة له، وفقاً لخط سير مبرمج.
وفي هذا السياق، يتذكّر الكثيرون ممن عاصروا تلك المرحلة العبارة الشهيرة التي كان يرددها أحد مسؤولي “الكاراجات”: “أنزال يا…، بتطلع المرا”…
**
ولأن القباضايات الذين كانوا يديرون المواقف هم محميون من السياسيين النافذين، فقد أثبتوا جدولهم في إنتخابات ١٩٦٠ لجهة الفاعلية في نقل المقترعين من أماكن سكنهم إلى مراكز الإقتراع، فوصفوا ب “المفاتيح” الإنتخابية، الأمر الذي منحهم المزيد من تراخيص إستثمار المواقف على حساب حركة السير، التي كان إنعدام إنتظامها، يقضّ مضاجع الشرطة!
ورغم محاولات السلطات المحلية من تنظيم حركة سيارات الأجرة، من خلال تركيب الشارات الضوئية، وإضافة ممرات للمشاة، وتحويل شرطي السير ل “شيخ” صلح، لفضّ التشاجر بين السائقين، لأجل إصطياد راكب، فإن تلك الإجراءات لم تمنع التشاحن فيما بينهم، التي كانت تصل لحدّ الإحتكاك والتضارب بإستخدام آلات معدنية، منها “مفتاح الجنط”، أو ما توفر بين أيديهم من “عدة” تصليح السيارات! إذ كان يسجل يومياً عشرات حوادث إصطدام وشجار، معظم أبطاله هم السائقون والقبضايات!!!
هذا الأمر، دفع قيادة شرطة بيروت صباح ٢٥ تموز عام ١٩٦٢، إلى تنفيذ قرار السلطة الإدارية بإخلاء ساحة “الشهداء” من السائقين ومواقفهم، محذرة في بيان لها السائقين من القيام بأيّ حركة شغب. فرابطت منذ ساعات الفجر الأولى وحدات من الفرقة (١٦) على المفارق وداخل الساحة وحولها، لتنفيذ قرار إخلاء الساحة من مواقفهم.
ومن حينها، إعتمد تقسيم جديد لتجمّع السائقين العموميين، تبعاً لمناطق سكنهم، فسائقو الأحياء “الشرقية” كانت نقطة تجمعهم على يمين ساحة “الشهداء”، وسائقو الأحياء “الغربية” إلى جهة اليسار(!)
**
وبعد سنين مديدة لهذا الإجراء، ثمة سؤال يفرض نفسه: هل تلك التدابير التي فصلت بين السائقين العموميين كان لمجرد الحدّ من فوضى السير؟ أم أنها كانت مقدمة إيذاناً بالحرب العبثية المدمرة التي قسمت بيروت إلى شطرين متحاربين!؟
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي