منطقة الأشرفية البيروتية بإمتياز، تعتبر بتكوينها الجغرافي والديموغرافي جزءاً أساسياً من بيروت التاريخ والحضارة والرقي، كما أن أهلها المتجذرين ببيروتيتهم، مكون أصيل وموروث في تكوين النسيج الإجتماعي البيروتي.
وهذه المنطقة البيروتية هي اليوم، واحدة من أهم مناطق العاصمة، والتي تمتاز بمستواها العمراني الرفيع وقصورها وبيوتها التراثية، التي لا تقل رقياً عن أي منطقة في عاصمة أوروبية متقدمة، بعدما إزدهرت بفضل تأسيس المدارس والجامعات والمستشفيات، وكانت في الماضي الغابر من ضواحي بيروت على الجانب الشرقي لباطن المدينة، شأنها شأن المناطق التي كانت تقع خارج سورها، قبل تمددها وتوسعها، وكان يطلق على تلك المناطق “ظاهر بيروت”، في حين أن المناطق والأحياء داخل السور، التي تعرف حالياً بوسط بيروت التجاري، كان يطلق عليها “باطن بيروت”.
مزرعة الأشرفية:
وعندما كانت الأشرفية من ضواحي بيروت، امتازت بأنها هضبة مرتفعة عن مستوى المدينة ومطلة عليها في آن واحد، كان يطلق عليها “مزرعة الأشرفية”، نظراً الى أن غالبية أراضيها كانت مستخدمة للزراعة، ويزرع فيها الزيتون والتوت وغيرها من من الأشجار المثمرة.
ولهذا فإن جزءاً منها يعرف حتى يومنا هذا بمحلة “كرم الزيتون”، وإن لم يبقَ من زيتونها سوى الاسم.
التسمية:
تعود تسمية تلك الهضبة بـ “الأشرفية”، نسبة إلى الأشرف خليل إبن الملك المنصور قلاوون الذي حرر مدينة بيروت والسواحل الشامية من الصليبيين سنة 1291 للميلاد، وأطلق على حملته إسم “الفتوحات الأشرفية”.
وهذا ما أكده المؤرخ الشيخ طه الولي بقوله: “ان هذا الحي البيروتي عرف باسم الأشرفية منذ حوالى 700 عام، أي في أيام الحروب الصليبية بعدما تم تحرير مدينة بيروت والسواحل الشامية على يد القوات المملوكية الاسلامية”. وأشار إلى أن “أقدم إشارة إلى هذا الاسم وردت في كتاب (تاريخ بيروت) لمؤلفه صالح بن يحيى، الذي جاء فيه قول المؤلف، وهو يتحدث عن حاكم بيروت عام 1307 الأمير ناصر الدين الحسين – البحتري – لمناسبة زواج هذا الحاكم من امرأته الثانية بنت إسماعيل بن هلال من الأشرفية”.
مصيف البيروتيين:
كون الأشرفية كانت عبارة عن هضبة مرتفعة ومكسوة بالأشجار التي تقي من أشعة الشمس في الصيف، وتحد من حرارتها، صارت منتجعاً للبيروتيين يلجأون إليها من مختلف المناطق والعائلات، كمصيف هرباً من الطقس الحار والمشبع بالرطوبة المرهقة.
وهذه كانت عادة البيارتة في فصل الصيف، بحيث كانوا يقصدون المناطق المرتفعة، ومنها: تلة الخياط” والأوزاعي والأشرفية، ويبنون “العرازيل” هرباً من الحر والرطوبة.
ملتقى قبضايات بيروت:
كان قبضايات الأشرفية يشكلون إمتداداً لإخوانهم من قبضايات البسطة، الذين يستكملون سوياً نموذج التعايش البيروتي القائم على التلاقي والإندماج والمؤاخاة، بحيث كان لهم سجل حافل بالأعمال الوطنيّة، وفي مجالات النخوة والفروسيّة والشجاعة والخدمات الاجتماعيّة والإنسانية.
فقهوة “الجميزة”، التي أقامها أحد قبضايات المنطقة المعروف بـ”الأسطا باز”، كانت تعقد جلسات قبضايات بيروت من مختلف المناطق والطوائف، فيلتقي عكيف السبع، وأبو طالب النعماني، وراشد دوغان، ونقولا مراد، وعبيدو الأنكدار، ونخلة العربانة، وأبو عبد الغفار عيتاني، ونقولا مجدلاني، وإيليا صليبا، وغيرهم، للتباحث في شؤون مدينتهم وأهلها، عندما كانوا يهبون لنجدة ناسها وأبنائها في أوقات المحن والمصاعب، ويقفون إلى جانبهم عند الشدائد وغدرات الزمن.
الأشرفيّة البيروتية بأصالتها وعراقتها، منطقة تحمل في طيّاتها الرقيّ والتقدّم والجمال والسياحة والعيش والتلاقي والمصاهرة بين كل البيروتيين، من دون فرقة أو تمييز، مهما حاول البعض القليل من الدخلاء على بيئتها وتقاليدها الإجتماعية إثارة سموم الكراهية العنصرية والفئوية، التي لن يحصدوا منها إلا الخيبة، لأن الأشرفية وأهلها المتجذرين حريصون أشد الحرص على بقائها فسحة رحبة للتلاقي والانفتاح بين مختلف مكونات المجتمع البيروتي. وخير دليل على هذا الاصرار، عندما يمتزج صوت الآذان الذي يرتفع من جامع “علوم الشرق” في حي “بيضون” في الأشرفية مع أجراس كنائس “سان ديمتري” و”القديس يوسف”، و”بشارة السيدة” و”القديسة كاترينا” و”مار نيقولاوس” و”بازيليك سيدة الأيقونة العجائبية للآباء اللّعازريين”، فيتحول قرع الأجراس مع صوت الآذان إلى ترتيلة تعبّر عن أبهى تجليات الوحدة الوطنية والعيش الواحد.
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي/ صديق جمعية تراثنا بيروت.