في الرابع عشر من شهر أيار/ مايو عام 1954، عقد في مدينة لاهاي الهولندية مؤتمر عالمي لحماية الآثار التاريخية والتراث، وصدرت مقرراته تحت عنوان «إتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة نشوب صراع مسلح» مرفقة بلائحة تنفيذ الإتفاقية. تضمن التقرير أربعين مادة تتعلق بأحكام عامة تتعلق بالحماية، بالإضافة لعشر مواد توجيهية وست مواد تتعلق بالحماية الخاصة وثلاث مواد في ضبط نقل الممتلكات الثقافية ومادتين في ما يسمّى بـ «الشارة المميزة». سأتناول في هذه المقالة العموميات فقط، وسأقوم بشرح كل من الأبواب المذكورة في مقالات لاحقة إن شاء الله.
إن ولادة مقررات المؤتمر المذكور، والتي جاءت بعد إقرار المؤتمر العالمي لليونسكو بضرورة التدخّل حيث تم إنشاء لجنة لصياغته في العام 1951 أي بعد أقل من سبع سنوات لنهاية الحرب العالمية الثانية وذلك بإشارة إلى الدمار الذي يمكن أن تخلّفه الحروب بالممتلكات الثقافية والمعالم التاريخية العائدة لأي شعب، مما يعني الإضرار بالتراث الثقافي للبشرية جمعاء حيث أن كل شعب له مساهمته في الثقافة العالمية. ورغم أن معظم المقررات تحذّر من خطر الحروب حصراً إلّا أنني أرى أن هذا الأمر الخطير يمكن إدراجه تحت عنوان «التفلّت الأمني» بما فيه الثورات والعصيان المدني وتحكّم الميليشيات بمقدّرات وطن وحتى أيضاً المكائد والدسائس السياسية خاصة في بلد تتعدد فيه الطوائف والمذاهب وعلى كل منبر زعيم لا يهمّه إلّا مصالحه الشخصية أو مصالح من يتبعه أو مصلحة مشروع تبنّاه ولو على حساب الموروث الوطني الثقافي والحضاري!
وفي وطني لبنان، يكفي ما تعرّضت له العاصمة بيروت نتيجة أكثر العوامل المذكورة، والتي يمكن أن أضيف إليها سوء الإدارة خاصة في التخطيط المدني العشوائي ناهيك عن جشع المقاولين الذين لا يعرفون أصلاً ما هي الثقافة! وللأسف الشديد، أصبح تدمير التراث في المدينة جزءاً من الصراعات المتطرفة وبات لا يُستهدف لأي سبب سوى ارتباطه بالمجتمعات أو بنسيج سكاني معيّن. حاولت كثيراً خلال سبعة أعوام التنبيه إلى هذا الخطر الكبير مع ناشطين ومهتمين بهذا الأمر، ولكن دون الوصول إلى نتيجة فعّالة وملموسة من قبل المعنيين. أقول أنه خطر كبير لأنه تهديد مباشر إلى المواطن في طمس أو حتى قلع جذوره وبالتالي سلبه هويته. فما الذي يمكن فعله لحماية تراثنا الثقافي (أو ما تبقّى منه) في أحوال التفلّت الأمني؟
أولاً: تعزيز المناعة الوطنية من خلال الوعي والإرشاد
عند اندلاع تفلّت أمني، وما أكثره في لبنان، هل يدرك «نصير الزعيم» وهو يحمل مطرقة يحطم بها واجهات معالم تراثية أو لوحات تأريخية أو أعمال فنية، أنه يحطّم هويته؟ لسوء الحظ، فإنه من الشائع تدمير التراث، خاصة عند وجود سلطة فاشلة وفاسدة لا سيما خلال فترات الحروب أو اضطراب الأوضاع الأمنية أو الكيدية السياسية في مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب. وعلى الرغم من وجود قوانين محلّية لحماية التراث الثقافي في لبنان، إلا أنها تبقى منقوصة أو غير واضحة، وفي أغلب الأحيان تفصّل على قياس بعض السياسيين والمقاولين، أي لمصلحة رأس المال المتسلط ولو بطريقة مبطّنة وخادعة. من هذا المنطلق تبرز أهمية توعية المواطن وخاصة الجيل الجديد أن تراثهم في خطر باعتبار أنهم المستقبل الواعد للوطن، وحينئذٍ سيشعرون أنهم يريدون المساعدة في الحفاظ على هذا الإرث وليس تحطيمه. وهذا ما سيمكّنهم من الشعور بالعاطفة تجاه ثقافتهم مما يعني تواجد المزيد من الأشخاص للمساعدة في ضمان حماية الآثار والتراث الثقافي الطبيعي لنقله ناصعاً وصادقاً وخالصاً للأجيال القادمة، ولا شك أن الوعي لأهمية التراث في تعزيز المناعة الوطنية سيُشعر من يدركون أهمية تراثهم الثقافي بالحاجة إلى حمايته والتأكد من استمراره من أجل هوية من يلينا من أجيال.
ثانياً: الإسعاف الأولي الثقافي
وأعني به التدخّل في الوقت المناسب. يجب حماية الأشياء غير المنقولة مثل المباني التاريخية والآثار والتماثيل في مكانها خلف أكياس الرمل أو الجدران المبنية من الطوب لتقليل أضرار الانفجار. ويجب جرد الأشياء المنقولة مثل مجموعات المتحف وتأمينها من أي ضرر محتمل. في بعض الأحيان، يجب إخفائها عن الأنظار أو نقلها بعناية إلى مواقع أكثر أماناً. ويعتبر دليل المركز الدولي لدراسة الحفاظ على الممتلكات الثقافية وترميمها (ICCROM) مرجعاً هاماً في أوقات الأزمات للعاملين في هذا المجال ويسعون إلى تحسين خطط الطوارئ داخل مؤسساتهم أو لتنفيذها. هذه الأنشطة لا تتطلب تكلفة عالية، ولكنها تتطلب معرفة بشأن تدابير الحماية الأساسية والقدرة السياسية على تنفيذها. وربما الأهم من ذلك، توفير الوقت الكافي لمتابعة تنفيذها. ويجب على العاملين فرز المجموعات التي تحت رعايتهم، وتحديد أولويات ما يمكن حمايته وتحديد ما يمكن أن تكون خسارته مقبولة، وإن كانت مؤسفة.
ثالثاً: الدعم القطاعي
نظراً لأن الحروب الخاطفة تفسح المجال أمام الجمود والحصار، فقد لا تكون حتى أفضل تدابير الطوارئ كافية، وقد تكون المراكز الثقافية هي نفسها الأهداف المقصودة. وفي حين أن القانون الإنساني الدولي يحمي هذه المراكز باستثناء حالات الضرورة العسكرية المحدودة، فقد تبنّى المتحاربون الاستهداف الثقافي كسلاح حرب، وهو ما أشارت إليه دراسة لمختبر مراقبة التراث الثقافي التابع لمتحف فيرجينيا للتاريخ الطبيعي. من مواقف ومراقبة أفعال أولئك الذين ينوون إلحاق الأذى بالمدنيين، فإن الاستهداف الثقافي يظهر نيّة لتعطيل الحياة المدنية، ويقوض دعائم الهوية المحتملة، ويمحو الأدلة المادية على الوجود التاريخي للمجتمع. وهنا تبرز أهمية وضرورة تدابير الدعم الهيكلي للقطاع الثقافي لمواجهة هذه التهديدات.
رابعاً: أهمية الجرد
تُعدّ قوائم الجرد الدقيقة والكاملة والمتاحة والآمنة لجميع أنواع الممتلكات الثقافية مطلباً واضحاً للإدارة الجيدة لهذه الموارد، والتي تشمل المواقع الأثرية والمباني التاريخية والمتاحف ودور المحفوظات والمكتبات. تشكّل قوائم الجرد هذه حجر الأساس لمعظم التشريعات الوطنية المتعلقة بحماية التراث وهي عنصر أساسي في العديد من الاتفاقيات الدولية، بما في ذلك اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نشوب نزاع مسلح.
لسوء الحظ، توجد مثل هذه القوائم في كثير من الأحيان كتطلّعات فقط. وعند وقوع الأضرار التي يتسبب فيها الإنسان، يتم الكشف عن الافتقار إلى البيانات الجيدة، وغالباً ما يتم فقدان عناصر تراثية إلى جانب المعلومات التي يحتوي عليها. إن أحداثاً أمنية كثيرة عصفت بلبنان وعاصمته خاصةً، تؤكد الحاجة إلى مثل هذه القوائم، لا سيما أثناء النزاعات المسلحة والتفلّت الأمني.
خامساً: الحفظ الوقائي
تقع مسؤولية تخزين عناصر التراث الثقافي عادةً على عاتق مؤسسات التراث الثقافي أو الأفراد. ونظراً لقيمته الخالدة التي تعبّر عنها، يجب الاهتمام بهذه المكونات كعناصر أساسية في المجتمع والثقافة. يمكن أن يساعد التخزين المناسب لهذه الأشياء في ضمان عمر أطول للكائن مع الحد الأدنى من الضرر أو التدهور سواء في الأحوال الأمنية المستقرة أو في حالات التفلّت الأمني، ويكفي ما خسرناه خلال الحرب الأهلية من محفوظات وطنية نتيجة سوء تخزينها، وأقبية مبنى البيكاديلي التي تم تخزين هذه المحفوظات فيها خلال الحرب خير شاهد على تصرّف متسرّع وغير مدروس. إن الحفظ الوقائي يتكوّن من إجراءات غير مباشرة لتأخير التدهور ومنع الضرر من خلال تهيئة الظروف المثلى للحفاظ على التراث الثقافي بقدر ما يتوافق مع استخدامه الاجتماعي. لذلك، فإن الفكرة وراء الحفظ الوقائي هي توخي الحذر لمنع مشاكل الحفظ هذه. وهذا الافتراض المتأصل في الحفظ الوقائي شائع عند جميع الذين يتعاملون، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع قيمة التراث والذين تهدف أفعالهم إلى تعزيز التراث والحفاظ عليه. بعبارة أخرى، الاهتمام بذاكرة الماضي كإرث ثقافي لأجيال المستقبل.
________
*رئيس جمعية تراثنا بيروت
اللوحة المرفقة: زيتية للرسام العالمي Tom Young (بإذن منه لصاحب المقال)
نشرت هذه المقالة في جريدة اللواء البيروتية عدد 23 شباط 2023