معالم اللغة: عنوان معجم موسوعي لم يُنشر!

سهيل منيمنة*

منذ بضعة أشهر، وصلني مغلف مُرسل من صديقي الأستاذ إبراهيم يوسف خلف، عضو مجلس إدارة المحفوظات الوطنية سابقاً، وفيه ملف عن سيرة المحامي الراحل نجيب إبراهيم خلف ومعجمه وحادثة وفاته. أثار موضوع المعجم اهتمامي، خاصة بعد أن قرأت ما كتب عنه في الملف، وما قال عنه بعض الأدباء والكتّاب من عرب ومستشرقين، أذكر منهم شاعر القطرين خليل مطران الذي قال لواضعه: «إنك يا أستاذ ما نقلت معجماً بل نقلت جبَلاً»، وما قاله الأديب الباحث عبد الوهاب عزام يوم انعقاد المؤتمر الثقافي العربي في لبنان عام 1947: «إن معجماً مثل هذا هو عمل جبابرة لا عمل فرد..». فمن هو صاحب هذا العمل؟

ولد نجيب إبراهيم خلف في بلدة بسكنتا من قضاء المتن بمحافظة جبل لبنان سنة 1882 من أبوين أرثوذكسيين هما إبراهيم نعمة خلف ومرتا عبد الله خلف. تعلّم في المدرسة الشرقية البسكنتاوية التي كانت تديرها البعثة الروسية، ومنها انتقل إلى مدرسة سوق الغرب الأميركية حيث أكمل دراسته الثانوية. درس الحقوق على أخيه ملحم والأستاذ سليم رستم باز والشيخ إلياس كسبار. علّم أعواماً عدّة في مدارس بسكنتا وبرمانا والشويفات، واشتغل محامياً في متصرفية لبنان مركز بعبدا ومركز بتدين عشر سنين، وأبّان الحرب العالمية الثانية في البترون، وفي بيروت خمساً وعشرين سنة. مارس مهنة المحاماة مدة أربعين عاماً وأنشأ في العام 1910 مجلة «الحقوق» مع أخيه ملحم وكانت أول مجلة حقوقية في جبل لبنان. وسُيّم قساً معمدانياً صيف عام 1911. توفي يوم الثلاثاء 11 تموز عام 1944 نتيجة انفجار دماغي وهو يترافع أمام محكمة الاستئناف المختلطة. له عدة مؤلفات أهمها معجم معالم اللغة، موضوع هذه المقالة.

عن المعجم قال الراحل نجيب خلف:

«إن هذا المعجم سيكون ديواناً حديثاً، وجمهرة لفقه اللغة ولآداب العرب تقرأ منه تاريخهم وأخلاقهم في لغتهم بمختلف الصور والأشكال، ومحفزةً للخلَف لاستعادة أمجاد السلف والأئتساء بهم. ولم اقتصر في جمع ذلك ولفيفه على الأخذ من المعاجم المعروفة فحسب، ولكني جمعت من كتب الأدب والفن، بل جمعت فيه كل ما وصلت إليه يدي من كتبهم، وقد قرأت له نحو مليون ونصف صفحة، استخلصت منها ما رأيت ولخّصت ما رأيت».

وعن أسلوبه في كتابته قال:

«إذ كنت قد شرعت منذ ثلاثين سنة في وضع معجم مطوّل (يبلغ زهاء ستين مجلداً بقطع المعاجم الكبرى بحيث يؤلف المجلد الواحد منها ما يزيد على ألف صفحة ونيّف) تورَد الكلمات فيه على ما آلت إليه في الصيغة لا على ما كانت عليه في الأصل فقط.. بحيث يورد على كل كلمة ما يناسبها أو يوارها أو يقاربها أو يوائمها أو يضادّها من الألفاظ والعبارات والجمل وما ورد عليها من حكمة ومثل… وجعلت له مقدمة تبلغ زهاء أربعة آلاف صفحة، تتضمن أبحاثاً في متن اللغة وأصول الكلمات وأوزانها وفلسفة الحروف وتركيبها. وقد عَبَرت فيها على جميع أصول الكلمات وذكر المطّرد من المعنى في الألفاظ لفظةً لفظة بحيث إن كلّ كلمة مؤلفة من حرفين يتفق المعنى فيها بإدخال الحرف الثالث ويختلف بعض الاختلاف فقط باختلاف اللفظ بين خفّة الحرف الداخل عليه، فيخف المعنى بخفة الحرف الثالث الطارئ أو يغلظ بغلظه أو يتغيّر جرسه. إلى أن ذكرت مزيّة كل حرف من حروف الهجاء على اختلاف وروده من الكلمة أولاً وآخراً أو وسطاً، بحيث أن المتدبر معرفة مزايا الحروف يستطيع أن يعرف حتى معنى الأوابد من الكلم بمجرّد نظرة إلى ما ركبت منه من حروف، وإلى غير ذلك من أسرار اللغة.

وقد توسعت في باب تعاقب الحروف بحيث يؤلف هذا البحث زهاء بضع مائة صفحة. وبحثت في مقام لغة العرب من اللغات القديمة ولا سيما الساميّة والحديثة وفي كونها مورِثة ووارثة في اللغات السامية ومعقبّة عليها، وفي صِلاتها باللغات الحديثة وفي صلاحيتها للاستعمال في مختلف الأجيال، وفي مرونتها وقابليتها لمجاراة العمران من كل وجه، وفي ما أمدّت وتمد به لغات العالم الغابر والعالم الحاضر.. وبحثت عما اشتملت عليه العربية من مزايا وما فيها من الاختزال في اللفظ والكتابة والنحت وتركيب الجمل بآنق نظم وآنس تأليف وألطف اتساق. وذكرت المطّرد من معاني صِيغ الكلام، وصيغ المبالغة وهي تكاد تبلغ عندنا المئتين لا صِفاتٍ فقط ولكن أفعالاً أيضاً. وذكرت فصولاً مسهبة في الاشتقاق والقياس واللفظ المشترك والأضداد والأتباع والخصائص والفروق واللهجات والقلب والإبدال والبلاغة والفصاحة والمجاز والاستعارة، وفي الشعر والعروض والقافية وأنواع الخط العربي من أوّل العصور… وسهّلت للناشد لفظةً خافيةً عليه، أو شاردة عن ذهنه، أو حائمة حول خاطره.. بحيث أنك تجد ما تطلب بأسرع من طرفة عين. ولم أجعل ذلك فصولاً فقط على نحو كتب فقه اللغة، ولكني أوردته أيضاً على شكل معجميّ تأخذه في موضعه.

ومن هذا المعجم تطّلع على أخلاق العرب ومناقبهم ومفاخرهم ومعايشهم وسائر مناحي الحياة فيهم في مختلف العصور فتأخذ لهم تاريخاً صادقاً وترجمة لارتقاء الفكر العربيّ وتدرّجه.. وإنني في تفسير الكلمة أبدأ بذكر المعنى الأصليّ فيها وهو المعنى الذي وُضع لها أوّلاً وهو ما يطلق عليه «الحقيقي»، ثم ما نُقل منه من مجاز أو استعارة أو تشبيه، ثم ما وُرد عليه من آي القرآن مع ذكر السورة، ورقم الآية، ومن شعر، ومن استعمال ومن مَثل، ومن حكمة، موضحاً أساليب العرب وأعاجيب تصرّفهم بلغتهم السمحة وحذقهم في الاشتقاق والتركيب. وقد أورد المؤلف أمثلة بكل الفروع المذكورة لا يتسع المجال هنا لذكرها.

ذكر الزركلي في «الأعلام» الجزء 8 صفحة 12 في ترجمته لنجيب خلف أن المعجم قدّمه ورثته إلى المجمع اللغوي في مصر. وعند اتصالي بالعائلة للتأكد من صحة هذا الأمر، أكدوا لي أن هذا غير صحيح وأن المادة المطبوعة (7000 صفحة والكثير من القصاصات) محفوظة عند نقيب المحامين الأسبق الشيخ أنطونيو الهاشم في بلدة بصاليم المتنية.

أسلوب المؤلف في هذا العمل الموسوعي الضخم الذي منعته المنية من إتمامه، ولكن ما أنجز منه باقٍ كلؤلؤة نفيسة مكنونة في صدفة معتمة بانتظار من يخرجها إلى النور. 

________

* رئيس جمعية تراثنا بيروت

[email protected]

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website