سهيل منيمنة*
في يوم 22 أيار/ مايو الفائت، أي بعد مرور أسبوع على وفاة مؤرّخ بيروت الدكتور حسان حلاق (1946-2023)، وخلال مقابلة على إحدى محطات التلفزة الفضائية اللبنانية تحت عنوان «بيروت في عيون المؤرّخ حسان حلاق» قال تلميذه المحامي والمؤرّخ الأستاذ زكريا الغول ما يلي: «.. كنت أقرأ كتاب «المتاهة اللبنانية» وهو رسالة دكتوراه للمؤرّخ الإسرائيلي رؤوفين أرليخ في جامعة تل أبيب تكلم فيه عن دور الحركة الصهيونية في لبنان من العام 1918 إلى العام 1958. في هذا الكتاب قام المؤلف بالرد على مؤرّخ عربي واحد هو الدكتور حسان حلاق، مما يعني أنه أوجع الحركة الصهيونية في كتاباته التاريخية».
في مقدمته لكتابه «مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة» كتب الدكتور حلاق: إن دراسة الاتجاهات السياسية في لبنان تعتبر من أعقد الدراسات التاريخية نظراً لتشابكها وتناقضها، غير أنها تعبّر عن واقع سياسي لبناني مميّز عن واقع بقية المناطق في الشرق العربي، فقد كان تاريخ لبنان المعاصر، وبالذات منذ عام 1918 سجلاً حافلاً من الاتجاهات السياسية المتناقضة، فلم يشهد لبنان منذ تلك الفترة إتجاهاً سياسياً موحّداً لكافة المشكلات والقضايا اللبنانية أو القومية، إنما كانت كل فئة حزبية أو طائفية تعبّر عن اتجاه سياسي مناقض للاتجاه الآخر، وهذا يمثل بحد ذاته اتجاهات سياسية وفكرية، ولكنها لم تكن بالضرورة تعددية قائمة على أساس إسلامي أو مسيحي، إنما شهد لبنان مواقف سياسية وعقائدية ووطنية قامت على أساس لبناني صميم. (مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة 1936؛ الدار الجامعية بيروت؛ 1982، ص5).
مواقفه من خلال أسلوبه في البحوث والدراسات السياسية التاريخية:
كتب رحمه الله: «.. ومعتمداً الأسلوب العلمي متجنّباً الأسلوب العاطفي الذي لا يخدم قضية العلم وقضية لبنان ومبتعداً أيضاً عن استخدام التعابير السياسية الشائعة في عصرنا الحاضر، وهي تعابير نسبية تختلف في مفهومها بين إتجاه سياسي وإتجاه سياسي آخر. كما حرصتُ على تسمية الأشياء بأسمائها دون مواربة أو مجاملة، لأن الهدف العلمي من هذه الدراسة هو إظهار الحقائق العلمية على ضوء دراسة التيارات السياسية من خلال الوثائق والمصادر» (التيارات السياسية في لبنان 1943-1852؛ الدار الجامعية؛ ط1، 1981. ص 36).
عن الشخصية القيادية الوطنية:
كتب الدكتور حلاق: «إن تأهيل الإنسان اللبناني لا يحتاج إلى كتاب ومدرسة وجامعة فحسب، بل إن الأجيال المعاصرة تحتاج إلى قائد تاريخي غير عادي، ليس ككل القادة، بعيد كل البُعد عن الطائفية والمذهبية السياسية، يجمع حوله كل اللبنانيين. وإذا اجتمعت حوله طائفته أو أبناء مذهبه أو حزبه فحسب سقط وسقطت عنه صفة القيادة اللبنانية» (دراسات في المجتمع اللبناني، دار النهضة العربية؛ ط2، 2006. ص 396).
وعن هذه الشخصية، استحضر المؤرخ حلاق سيرة ومسيرة الإمام الأوزاعي والناصر صلاح الدين الأيوبي لكي يخاطب الأجيال الصاعدة من خلال سيرتهما قائلاً: «.. وباعتبار أن الإمام الأوزاعي والسلطان صلاح الدين الأيوبي من أبرز الأعلام المسلمين، يجمع بينهما الرباط والجهاد والسعي نحو العلم والعلماء، فقد حرصت أن أقدّم للقارئ العربي هذه الدراسة عن هذين العلمين، لعلها تسدّ فراغاً في ميدان الدراسات العربية والإسلامية، متمنياً من أجيالنا الصاعدة أن تتخذ منهما «القدوة الحسنة» سواء في مجال النضال والرباط والجهاد والجرأة، أم في مجال العلم والفقه والمعرفة» (الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي والسلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي. الدار الجامعية بيروت 1997، ص 7-8).
عن «محروسته»!
قال رحمه الله: «.. أثبتت الدراسات والوثائق التاريخية أن بيروت كانت باستمرار موئلاً للعلم والعلماء، ومركزاً من مراكز الحضارات القديمة.. ومنذ التاريخ القديم حتى اليوم، أثبتت بيروت قدرتها على التفاعل الحضاري مع مختلف الحضارات والشعوب، غير أن الطابع الأصيل والثابت الذي طبعت به هو الطابع العربي والحضارة العربية.. ولقد استطاعت عبر تاريخها الطويل أن تكوّن ملامح سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية وتربوية وعلمية وفنية وتراثية، كانت تطوّرها باستمرار متفاعلة مع بقية الملامح والقيم الإنسانية.. ويبقى البيروتي الذي له الفضل في تأسيس وبناء «الإنسان الفاضل» و«المؤسسات الفاضلة»، في وضع الأسس الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية، فضلاً عن إرساء قواعد الحرية والديموقراطية» (بيروت المحروسة؛ مؤسسة الحريري، ط1، 2002. ص7).
دوّامة الإنقسامات!
«من الأهمية بمكان القول، بأن لبنان يكاد يكون الدولة العربية الوحيدة الذي يُنتخب فيه كل ست سنوات رئيس جديد للجمهورية اللبنانية باستثناء فترات التجديد والتمديد أو التعطيل، غير أن ذلك لا يعني مطلقاً الاستقرار والقضاء على الفساد، وعلى الطائفية والمذهبية والمناطقية والاتجاهات التقسيمية والفدرالية والكونفدرالية. ومما يؤسف له فإن لبنان ما يزال يعاني إلى اليوم من الانقسامات الحادّة ذات الأبعاد اللبنانية والعربية والدولية، وذلك منذ عام 1918 إلى عام 2018، أي لمدة مائة عام تماماً، ولا يَدري الشعب اللبناني متى تنتهي هذه الإنقسامات» (التيارات السياسية والطائفية في لبنان 1913-1943. دار النهضة العربية؛ ط1، 2018. ص 11).
أخيراً، ومن خلال مؤلفاته ومقالاته وندواته، يتبيّن لنا تميّز الراحل الدكتور حسان حلّاق في مواقفه وقناعاته الوطنية من خلال إضاءاته على المواقف السياسية الوطنية بصدقٍ وشفافية وتجرّد، وعلى المواقف غير الوطنية بجرأة ملحوظة، سلاحه فيها التوثيق والبحث والتدقيق.
________
* مؤسس ورئيس جمعية تراثنا بيروت
